No Image
ثقافة

«ليلة ذي دوران»

12 ديسمبر 2023
بين ضفتين
12 ديسمبر 2023

تبدو كتب السيرة، سواء أكانت ذاتية أم غيرية، كأنها تنطلق، أو على الأقل تتماشى مع التقليد السقراطي المتمثل في «اعرف نفسك»؛ لأنها تسمح للكاتب بالعودة إلى أصوله وإعادة اكتشاف طفولته ومحاولة فهم الصدمات التي تَعَرض لها في حياته؛ بمعنى آخر، تتيح له أن يعرف نفسه بشكل أفضل. قبل قرون أوضح الفيلسوف الفرنسي مونتين أنه كتب «المقالات» لغرض «محلي وخاص» بينما وجد الكاتب ستاندال أن أعمال السيرة الذاتية تتوافق مع نهجه الأناني.

قبل فترة، قرأت العديد من السِيّر، الذاتية أو الغيرية وبعضها إعادة قراءة. لكن في ذلك كله، لا أعرف ما الذي شدّني إلى ذلك، بمعنى لم أفهم الرغبة الداخلية التي أخذتني إلى هناك. كانت القائمة طويلة إلى حدّ ما، منها بالعربية مثل: «الخبز الحافي» لمحمد شكري و«أوراق شخصية» للطيفة الزيات، و«السيرة الطائرة» لإبراهيم نصر الله، و«رحلة جبلية، رحلة صعبة» لفدوى طوقان و«الجمر والرماد» لهشام شرابي، و«وقفة قبل المنحدر» لعلاء الديب، و«رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر» لعبدالوهاب المسيري وغيرها، ومنها بالفرنسية: «الحجاب الأسود» (1991) لآني دوبيري (التي تعود فيها إلى الحقبة التي سبقت موت والديها بحادث) وشارل جولييت (1995) «أشلاء» (الذي يبحث من خلالها عن والدته التي لم يعرفها مطلقا). ويمكن أيضا للاستبطان بعد ذلك أن يأخذ بُعدًا تحليليًّا نفسيًّا، كما هي الحال مع ميشيل ليريس في «عصر الإنسان» (1939)، التي كتبها بالتوازي مع تحليله النفسي. سارتر، من جانبه، يسترجع طفولته ليزيل الغموض عنها بشكل أفضل ويفهم أصول تجربته.

لا ترتبط كتابة السيرة الذاتية بالضرورة بصدمة نفسية، ولكن يمكن أيضا أن تكون مدفوعة بالرغبة في إعادة اكتشاف الجنّة المفقودة، جنّة الطفولة. يصف روسو في اعترافاته (1770) السعادة المرتبطة بالبراءة في سنواته الأولى، مثلما كتب في الوقت عينه للآخرين، أي كتب «مرافعة» ضد الاتهامات (غير العادلة) التي وجهت إليه. يمكن أيضا أن يكتب المرء من أجل أن يترك أثرا وراءه و«يتحدى الموت» وكأنه عبر مذكراته وسيرته يريد أن يشيّد نصبا تذكاريا من وراء القبر ينقله إلى الأبد. أو على الأقل أن يترك «شهادة» ما عن عصره وحقبته.

يمكن لنا أن نتحدث مطولا عن «أهداف» كتابة السيرة؛ لكن ماذا لو طرحنا سؤالا معاكسا: هل كل السيّر تكشف غموض الكائن؟ ألا تفضل بعض الحيوات أن تحتفظ ببعض أسرارها، أو ربما نجدها تواريها إلى الأبد، من دون أن يرشح عنها أي تفصيل من التفاصيل. لو تمعنّا جيدا في هذا الأمر، لوجدنا أنه لا يشكل سوى دليل فعليّ على غناها -غنى هذه الحياة- وعلى تعقيدات تشعباتها.

لا تملك الحياة أبطالا حقيقيين من دون هذا الغموض «القليل»، من دون هذه «الثقوب السوداء» التي تلفها. فهذه السمة العامة لا تشذ عنها حياة الكُتّاب بل ربما كانت أحد مكوناتها. فأسطورة أرتور رامبو مثلًا لم تكن كما هي عليه اليوم، لولا، ربما، تلك اللايقينيات «البيوغرافية» التي فتحت أمامنا أجنحة المتخيّل. كيف كانت فعلا نشاطات ذلك «الرجل العابر بنعال من ريح»، الحقيقية، في هرر، وكيف كانت غرامياته وبقية أحداث يومه؟ هل استمر في الكتابة أم توقف فعلا؟ هذه الأسئلة التي بقيت حتى اليوم بلا أجوبة محدّدة، صرف عليها العديد من الكتّاب أفكارهم ونظرياتهم. فهم لم يأتوا أبدًا بأشياء ملموسة، بل زادوا الغموض غموضا أو جعلوه أكثر سحرا، لدرجة أن الواحد منّا يتساءل عمّا إذا كان وجود كاتب ما، مهما؛ لأنه يخفي أشياء أكثر ممّا يبوح بها... بالتأكيد، نجد أن كتّاب السير الذاتية، هم أول المشتبهين بذلك. ألم يزيدوا في ضياعنا، في توجيهنا إلى أمكنة أخرى؟

في أحد كتبه الجميلة (والذي يحمل عنوان «جان جاك روسو» -1907)، حاول الكاتب والناقد الأدبي الفرنسي جول لوميتر أن يبرهن أن الاتهامات التي اعتبرت أن روسو قد وضع أولاده في ميتم، هي اتهامات باطلة. في واقع الأمر، وبحسب لوميتر، فإن التقارير الطبيّة التي وضعها الطبيب السويسري ترونشان، الذي أشرف على علاج روسو، أظهرت أن هذا الأخير لم يبح بتلك الاعترافات إلا ليخفي واقعا أقسى: عجزه الجنسي وعدم قدرته على التناسل (ممّا شكل في ما بعد مصدرا للنميمة قام بها زميله الفيلسوف والكاتب الفرنسي الآخر فولتير).

أما شاتوبريان، ومن جانب آخر، فلم يفعل شيئا في مذكراته سوى محو حياته العاطفية المضطربة؛ فمن المؤكد أن هذا «الأبيقوري» ذا «المخيلة الكاثوليكية» (مثلما يوصف) قد عاشر بولين دوبومون وجولييت ريكامييه، بيد أنه غيّب بعناية أثر كلّ عشيقاته اللواتي «جرجرهن» وراءه. فهذه الحياة العاطفية، تمتلك سحرا أكبر حين تكون في السرّ. البعض يفشيه، والبعض الآخر يخفيه جيدا. من يعرف حقيقة العلاقات التي ربطت مثلا بين غوته وبيتينا فون أرنيم؟ ومن يعرف اسم تلك الفتاة، التي وجدت صورتها العارية، بين أوراق الكاتب الفرنسي بول ليوتو، بعد وفاته؟ لقد بحث الجميع عن تلك المرأة ذات الشعر الطويل الذي كان يخفي وجهها ولم يعثروا عليها.

ثمة جزء أيضا من الشعر العربي -الذي يمكن قراءته كسيرة فعلية وحقيقية- قد يأخذنا إلى هذا المنحى. وربما تكون الأسئلة التي نطرحها عن الشعر الجاهلي، من تلك الأمثلة البارزة. هل أن ما كتبه امرؤ القيس عن علاقته بابنة عمّه، فاطمة، هي فعلا مثلما تخبرنا بها المعلقة وربما كل المعلقات تملك هذا الجزء من غموضها- أم أنه كان يرغب في تحويل نظرنا عن أشياء أخرى؟ لا بدّ أن السؤال مشروع هنا، مثلما تساءل الأخطل الصغير في القرن العشرين حول عمر بن أبي ربيعة، حين قال في قصيدته «عُمر ونُعم»:

«ليلة ذي دوران، هل كانت كما

حدثت، أم أخيلة وصُورُ

ونُعمُ هل كانت كما صَوَّرتَ، أم

بالغ في تلوينها المصوِّرُ»...

ثمة أسئلة دائمة تأخذنا إلى هذه المناطق من الغموض. وما البحث فيها إلا إضافة غموض فوق غموض. لكن، في العمق... أي أهمية لذلك كلّه؟ فما من حياة، حتى تلك الأشفّ، تبوح بجميع أسرارها. فأيّ شيء أجمل من حياة تنتهي على سرّ، وبخاصة إذا كان هذا السر حبًّا كبيرًا... هل لأن القراءة هي سرنا الأكبر؟