كنوز فنية تروي حكايتها بروح معاصرة
11 أكتوبر 2025
11 أكتوبر 2025
محمد بن سليمان الحضرمي -
على امتداد أيام هذا الشهر (1-31 أكتوبر 2025م) يستقبل مركز نزوى الثقافي زوار معرض «مَلاذ» الفني بتنظيم من وزارة الثقافة والرياضة والشباب. وخلال أيامه يشاهد الزوار صباح مساء واحدًا من المعارض الفنية التشكيلية الجميلة يبرز إبداعات فنانين عمانيين تجاوز بعضهم فكرة رسم لوحة في إطار مربع أو مستطيل بألوان مائية أو زيتية؛ فقدموا أعمالًا فنية بروح معاصرة يجتمع فيها عروض الضوء بالموسيقى، والكولاج بالنحت، ويتجاور الفن المرئي مع المؤثرات الصوتية، والأزياء مع المرايا العاكسة، وغيرها من الأدوات، فشكلت كنوزًا فنية رائعة اعتمدت فكرتها على الإبهار والاختزال، وتقديم محتوى مؤثِّر يبرز الهوية العمانية. وكانت هذه الأعمال قد شاركت في «بينالي البندقية للفنون 2024م» لتعود إلى نزوى حيث موطنها الأصلي.
يحمل المعرض عنوان «مَلاذ»، وأي ملاذ آمن للحائر غير الفن؟ ملاذ يأخذه إلى الدهاليز العتيقة حيث تولد الحكاية، وللحكاية أكثر من وجه ولون. فجاءت الحكاية الأولى مع المنحوتات الخمسة، المتناسقة في أشكالها وأحجامها للفنان الدكتور علي الجابري، لتمثل آبارًا قديمة يبدو فيها الماء مرآة تعكس ملامح من ينظر إليه، والبئر أشبه بكهف مهجور، وهكذا بدا لي وأنا أمعن النظر فيه، وأغوص في أعماقه أحاول أن ألامس الماء. وقد أبدع الفنان في تشكيل منحوتاته الرُّخامية، لتبدو أشبه بآبار مكشوفة؛ حيث الماء يسكن في الأعماق، مثلما الحكاية تنبع من نسغ الأرض، وأعماق النفس الإنسانية التوَّاقة إلى زلال عذب يروي عطشها الحارق.
حاولت أكثر أن أكون قريبًا من النبع. ورغم أنَّ الرُّخام الملون يشد النظر، لكن تلؤلؤ الماء في أعماق الآبار المنحوتة كان له بريقه الخاص في نفسي. ولو أغمضت عيني قليلًا فسأتذكر حكايات كثيرة تحوم حول البئر، وذكريات تستحضرها الذاكرة: مشهد طفل غريق سقط في البئر، وبقي في الماء حتى طفا جثمانه، ومشهد غَرْقى آخرين أسكرهم دخان المضخات، وطفل آخر بقي متدليًا بحبل حتى جاء من ينقذه، وأروعها مشهد «الزَّيْجَرة» التي كانت تنعش السامع بصداحها المسموع من مسافات بعيدة، وهي اليوم من الماضي الزِّراعي الجميل، وكأن موسيقيًا يعزف على «بَرْغُوم» لا تنقطع أنفاسه، والماء ينثر فضته على السَّواقي، وللآبار حكايات لا تنتهي.
وقريبا من ينابيع الماء تتجلَّى لوحة جدارية للتشكيلية عالية الفارسية تشكلت من أقمشة نسائية ملونة، فصنعت منها حارة ببيوتها المتداخلة وشرفاتها المفتوحة على بياض النهار، وكأنَّ الناس يطلون من تلك النوافذ، والحياة تسير في حِراك دؤوب وتناغم معتاد. عالية الفارسية فنانة ريشة يطغى اللون الأنثوي على أغلب أعمالها. المرأة تظهر في لوحاتها بأزياء جميلة وملامح سمراء. وفي هذه اللوحة التي حملت عنوان: «أروقة عالية» أحسَسْت باقترابها من تجربة الفنان الراحل موسى عمر (ت: 13 أغسطس 2023م) في عمله الفني الجميل «قميص الأحلام» الذي شكَّله من قطع «الخيش» المهملة، فأبدع منها لوحات جميلة. وما أجمل هذا التقارب الفني حين حوَّلت عالية قطع الثياب إلى تكوين، لمدينة تتداخل فيها الألوان، والمرايا التي تحيط باللوحة من جوانبها الأربعة أشبه بسُوْر يعكس لونًا لؤلؤيًا تتناثر فضته في التفاصيل الذائبة داخل اللوحة.
وفي عمل تركيبي مذهل للفنان المبدع عيسى المفرَّجي يحمل عنوان «مَدَدْ»، وكأنَّ العمل حالة صوفية خالصة؛ النور النابع من النفق المعلق صورة لحُلم الإنسان الغائص في أعماق نفسه. يتعانق فيها اللون الأزرق مع الغيوم المتكثفة داخل ذلك النفق، وكأن عينًا تنظر إلى الوجود من بعيد، وأذنًا تصيخ السَّمع إلى نداءات الحياة والمَدَدُ آتٍ ما دامت النداءات متواصلة، والأحلام مجنِّحة كالغيوم، ومادام الإنسان يبحث عن ذاته في فراغ الوجود؛ المَدَدُ آتٍ، وأمواج النور الزرقاء تتلاحق، وأرجاء المكان تفيض بسكون وسكينة.
بدا لي عمل عيسى المفرَّجي التركيبي متفرِّدًا في أدواته، ومذهلًا في فكرته. الشكل الأسطواني يعيد حركة الأشياء إلى مسارات غير نهائية؛ فلا يُعرَفُ مبتداها من منتهاها. ولم يترك الشكل المدوَّر المعلق يهيم في فراغ؛ فقد ملأه بنصوص كثيرة امتزجت بها الآيات القرآنية بأبيات الشعر، والأمثال بالحكم، وكأنَّ في تلك النصوص مفتاح الحقيقة، ومن غيرها فلا عين رَأتْ ولا أذُن سَمِعتْ.
ويقدم مجسَّم «البُرقُع» للفنانة سارة العولقية صورة لقناع المرأة تخفي بداخله ملامح وجه غامض، ولكنه ليس قناعًا مرسومًا بالفرشاة، بل مجسَّم مصنوع من مئات الملاعق الحديدية تتشكل معًا كتلة واحدة صنعت برقع المرأة. ومع أن العمل حمل عنوان «كِسْرَة خبْز»، إلا أني لم أجد له مقاربة مع ما عرضته، لكنَّ الفن يبوح بإشارات خفية تبرق أمام العين، مثلما تبرق في الذاكرة.
وينشغل الفنان د. أدهم الفارسي بالبحث عن مصير الغرباء في هذا الوجود من خلال حركة سلحفاة تائهة كانت يومًا ما تزحف بتؤدة في الرَّمل، فودَّعت البحر، وتركت أمواجه الصَّاخبة لتضع بيضها تعويذة أخرى لاستمرارية الحياة، لكنها حادت عن الطريق، لتكتشف حياة أخرى بين رمل وسماء، وكانت كرحلة «الغَريب» التي انتهت بالضياع؛ فحين ظلت السلحفاة طريقها، ولم تعد قادرة للعودة إلى بيئتها المائية مكثت تزحف في الرَّمل تطلب منه أن يمدها بقوة مفقودة، غير أنَّ الرَّمل كان ذاته رمزًا للضياع؛ فكم قَدَمٍ وطأته ولم تعُد، وكم سلحفاة زحفت فيه حتى نَفَقَتْ، وكم غريب تاهَ في نعومته حتى غاص فيه، وأصبح له قبرًا.
في عمل أدهم الفارسي الفني اشتغال على التوثيق المرئي بفن الفيديو من خلال تسجيله لقطات متحركة في شاطئ «رأس الجُنيز» بمدينة صُور، ويظهر في المقطع تناثر العظام في المكان، لكائنات غريبة عن المكان، أو صديقة عاشت فيه، ومثلما البحر لا تُؤمَن أمواجه، كذلك الرَّمل لا تُؤمَن نعومته، وفي نعومته مكمن الموت ومكوث العاجز عن الزحف والحركة، فبقيت السلحفاة في مكانها حتى نفقت، ورسمت عظامها قسوة الحياة عليها يوم أن كانت تنبض بالحياة تاركة أثرًا عجيبًا لغريب ظل الطريق.
وفي عمل فني مشترك بعنوان: «اليد والذاكرة» قدَّمه كل من عبدالعزيز العبري وصفاء الفهدية تظهر خمس لوحات لمشغولات السَّعف، وضوع اللبان، وقطاف الرُّمان، وغزْل المغزل. والألوان التي تنضح بها الأبواب الخشبية العتيقة تمازجٌ أخَّاذ بين هذه اللوحات العمانية بامتياز تعكس روح الإنسان، وشغفه بتحويل الأشياء العادية إلى مدهشة، روح الإنسان الفنان في صناعة لوحة من السَّعَف تتداخل فيها ألوان الخيوط بألوان الخوص، وصورة أخرى لضوع اللبان ذي الرائحة المنعشة التي تسري إلى أوصال الروح، ذلك هو اللبان القادم من «وادي دُوْكَة» بظفار النابع كالحليب من شجرته المباركة؛ دموع لزجة تسيل حتى تجمَّد. تتشبث بالشجرة حتى يصبح كِسْرَة عطرة تُبخِّر المكان كلما احترقت، وهذا قدرها أن تحترق لتعطر الحياة.
وللرمان حكايته الشهية في أيام قطافه يعيشها أهل الجبل الأخضر، وفي أي مكان تنمو فيه أشجار الرمان، ويزهر جلَّناره الأحمر، حتى يستدير ويصبح ثمرة شهية في كل ثمرة مائة حبة أو أكثر. وعن المغزل (احْكِ يا حاكي) يا من تتلو أورادك وقصائد الغزل لحظة تعاشق الخيوط الملونة على «النُّوْل» بعد «تلبيب» القطن ونَدْفِه، ولحظة النساجة على «الكارْجَة»، وتسابق قديم «البُرَيْسِم» وجديد «الصُّوف». أما الأبواب فلها حكاياتها التي لا تنتهي؛ الأبواب المُوصَدة على الأسرار، والمفتوحة بمِصْراعَيْن كحضن عاشق على الحكاية.
وفي ممر مركز نزوى الثقافي أقمشة ملونة كأعلام تلوِّح للعابرين. تلك هي لوحات هاجر الحرَّاصية نبعت فكرتها من أبواب «حارة العقر» القديمة بنزوى «أبواب الزَّمن» كما تسميها الفنانة، ومثلها أبواب مئات الحارات العمانية. يظهر في الأقمشة المرفرفة صورة لتلك الأبواب ممتزجة بكتابات من المخطوطات ضمَّتها بيوت الحارة في قديم الزمان، وكأن في تلك الكتابات أحاديث سرية للناس الذين عاشوا بين جنبات المكان، وذابوا أمام الأبواب دُخولًا وخروجًا، وعانقوا الحياة بشغف. وعَبَّرت المخطوطات عن الحياة الثقافية التي كانت تعيشها الحارة.
ويثير العمل الفني الذي شكله محمد العطَّار غرابة الناظر إلى «جمال المألوف الغريب»؛ مجسَّم يجمع بين مكعبات وتمثالين كل منهما يمثل صورة للمألوف والغرابة. ولكن بتغيير زاوية النظر إليه تتبدل الرؤية ويتغير الشكل بحسب ما ورد في تقديم العمل: (يتحوَّل الغريب إلى مصدر للدهشة، والمألوف إلى مساحة جديدة للتأمل). وفي الساحة الخضراء للمركز المواجهة للمسرح الكبير، والمفتوحة على السَّماء تبث شاشة كبيرة روائع تسعة من الفنانين التشكيليين أسهموا في مسيرة الحركة الفنية في السلطنة، فجاءت مشاركتهم عبر الشاشة المرئية تعريفًا بإبداعهم اللوني عبر «إطلالات بصريَّة» متجددة، ولوحات أخرى معلقة تتناثر في أرجاء المكان.
