5464646
5464646
ثقافة

قراءة انطباعية: توارث الأقدار في رواية «فستق عبيد» لـ سميحة خريس

19 يونيو 2021
19 يونيو 2021

قراءة ـ بدرية البدري -

(لا يُفيد الاختباء من القدر، فهو نسر مفترس يراقبنا بصبر كيفما أراد، ويحط مختطفا مصائرنا وقتما أراد)

هذه الجملة التي وردت على لسان (أغواش)، هو مختصر رواية (فستق عبيد) (الصادرة عام 2017م عن دار الآن الأردنية والفائزة بجائزة كتارا 2017م ) لم يتسنَ لعائلة (كامونقة) الإيمان به، كما آمنت به عائلة (أغواش) فالجد (كامونقة) لم يكن يعلم وهو يستمتع بصهيل ضحكات حفيديه (رحمة) أو (رفمة) أو (رهمة) كما تغير اسمها بتغير الأشخاص الذين ينادونها به، أن ماضيه الذي ظنَّ أنه تخلص منه، سيلحق حفيدته الأثيرة لديه.

وأن حقول الفول السوداني، أو (فستق العبيد) كما كانوا يسمونه لن تنجح في حمايتها، كما خطط عندما قرر زراعة الفول السوداني، لأن خاطفي الأطفال يغرونهم بقبضة فول سوداني في كفوفهم ليختطفونهم، ويبيعونهم بعد ذلك، لذلك أُطلق على الفول السوداني اسم (فستق عبيد).

و(رحمة) ذاتها لم تكن تعلم وهي تُرسل ابنتها مع (ديقو) الرجل الغريب، لمجرد أنه أخبرها أنه من قريتها التي اختُطِفت منها، أنها تُرسلها لمصيرها ذاته الذي أرادت حمايتها منه.

وذلك نفسه ما يُفجَعُ به القارئ في نهاية الرواية، راكضاً خلف الكائنات الخفية التي تحدّث عنها (كامونقة) وساندته ليتمكن من العودة إلى قريته بعد سنين من العبودية، كما ساندت (رحمة) لتبقى قوية، وتواجه الذل والعذاب من أجل ابنتها (اللمون) كما أرادت تسميتها نسبة إلى جدتها زوجها جدها (كامونقة) أو (لوشيا) كما منحتها الراهبة (لوشيا) اسمها أثناء تعميدها بعد أن رفضوا تعميدها لأنها بدون أب، أو (تركية) كما أسمتها عائلة (أغواش) بعد أن رأوا في اسم تركية ما يتناسب وشكلها، ودينها، وأن اسم لوشيا لا يليق بها، أو (كريولو) كما أُطلق عليها لحظة ولادتها لأن شكلها يوحي بأنها نبتت من أم سوداء وأبٍ أبيض، فاستحقت هذا اللقب.

رواية (فستق عبيد) رواية صيغت بتسلسل مستمر، لتقرأ الحكاية من بدايتها إلى نهايتها، وربما هذا ما يجعل القارئ يستمر في القراءة دون توقف، لأن كل حدث يأخذه إلى الحدث الذي يليه، هو لا يحتاج إلى الركض بين الفصول ليفهم سير الأحداث، يكفيه أن يواصل القراءة ليفهم ويتألم، ويشعر بحقارة أولئك الناس الذين يقايضون ثلاث نسوة بقبضة شاي.

تُختطف (رحمة) من قريتها في دارفور، وتؤخذ في رحلة طويلة إلى ليبيا والجزائر، وتنتهي بها في البرتغال.

لم تكن وحدها، فهناك الكثير من العبيد الذين زُج بهم في قبو السفينة، وتم التخلص من كل من يمرض برميه ميتاً أو حياً في عرض البحر، ليواجه الغرق أو الأسماك التي تمزق جسده المنهك والنتن أمام نظر الجميع.

ولكنها وحدها كانت على ظهر السفينة، كأي سيدة حرة، وذلك ما جعلها تثق بسيدها أو مالكها الذي اشتراها لتخدم زوجته، وما لبث أن رأى فيها الأنثى التي يتمنى، ربما ليشعر بكرامته معها، بعد أن سلبته إياها زوجته (الدوقة كارولينا) التي تحدّت أهلها وتزوجته وهو ابن آمر المزرعة الذي يخدمهم، وما لبثت أن شعرت بالندم، وظلت تنظر له بفوقية، ولكن تلك العاطفة لم تُنجها من زريبة الخنازير بعد أن وضعت ابنتها التي أنبأ لونها بأصلها الأبيض، رغم عدم اعتراف (رحمة) أو (سارماغو) بأبوّته للطفلة.

صمدت (رحمة) مستحضرة الكائنات الخفية التي كان يتحدث عنها جدها، وهو يخبرها حكايته مع زريبة العبيد، مؤازرة إياه في حربه التي شارك فيها طوعاً بعد انضمامه لثورة المهدي وخليفته (عبدالله بن محمد التعايشي)، متحولاً هناك من عبد إلى جندي، ومن (كامونقة) إلى (معتوق)، متذكرا أن أول اسم أطلقه عليه والده كان (سيد) نسبة إلى عسكري مصري تعرف عليه يوماً ما، ولكن سيد العسكري المصري رحل، تاركا لسيد الدارفوري اسمه، وللإنجليز الحلبة.

تعددت الأصوات في الرواية، ليحتل أغلب أبطالها صدر صفحاتها، واضعين النقاط على الحروف، مالئين من الأسطر ما فرغ، ومُذيبين من القلوب ما تحجر. في مقطعٍ ما من الرواية تقول رحمة - متحدثة عن جدّيها: (لو كنت أعرف أني سأفارقهما يوما، وأقطع البحر إلى بلادٍ أهلها بيض الجلود، لكنت أحببتهما كما يجب).

هذا بالضبط ما نشعر به جميعنا عند كل فقد، ولكن أحدا منا لا يفعله في الوقت الذي يجب عليه فعله، ونكتفي أن نردد بعد فوات الأوان: لو كنا نعلم!