فيلم "تيرنتي غير المقدسة" .. صراعات مشوّقة تعيد أفلام الغرب الأمريكي إلى الواجهة
عبر تاريخ السينما كانت هنالك قصص سينمائية اجتذبت إليها الجمهور العريض وتميزت بعناصر جذب كثيرة، أولها الصراعات التي لا تنتهي، والشخصيات التي تبقى في الأذهان سواء أكانت تنتمي إلى فئة الخير أو الشر، تلك القصص التي شكّلت في حقبة ما مرحلة ازدهار السينما الأمريكية بشكل خاص، ونقصد بها ما عُرف بأفلام الويستيرن أو أفلام الغرب الأمريكي، أو ما سُمّيت مجازًا بأفلام رعاة البقر.
هذه الحقبة الاستثنائية في تاريخ السينما قدّمت عشرات الأفلام وعشرات النجوم والعديد من المخرجين، حتى وصلنا في زمننا الراهن إلى النظر إلى هذا النوع على أنه نوع من الإرث التاريخي والأرشيف الحافل في تاريخ السينما، وصار جزءًا مهمًا مما يمكن أن يُدرّس في معاهد السينما.
لكن الملفت للنظر هو العودة مجددًا إلى أفلام الويستيرن في زمان الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الرقمية فائقة التطور، وإذا بنا نعود بهذا النوع إلى السيرة الأولى للشخصيات المعتادة من عمدة القرية، والخارجين على القانون، ومعارك راكبي الخيول.
هذا الفيلم للمخرج ريتشارد جراي وكاتب السيناريو لي زكريا، يعود بنا إلى ذلك النوع من الأفلام، وليجدّد لعشّاق أفلام الويستيرن ولعهم بالشخصيات والأماكن، وأن يوجد عناصر فيلمية جديرة بجعل هذا الفيلم مطلوبًا في زمن غير زمنه.
هنا يمكننا التوقف عند ما يسميه بعض النقاد عند كتابتهم عن هذا الفيلم بالثالوث المشؤوم وغير المقدّس، الذي يضم ثلاث شخصيات رئيسية يتقدّمها ممثلان متمرّسان ذوا إنجاز سينمائي كبير، وهما بيرس بروسنان في دور عمدة مدينة تيرنتي، وصامويل ل. جاكسون في دور كريستوفر، الذي يطارد الفرائس باحثًا عن ذهب مسروق كان شريكًا في سرقته، ولكن مؤامرة حِيكت ضده حرمته منه، في مقابل الممثل الشاب برندون ليسارد في دور هنري برودواي، الشاب الذي يسعى لتنفيذ وصية والده بالاقتصاص من الذين تسببوا في وصوله إلى حبل المشنقة.
في نطاق هذا الثلاثي تدور تلك الدراما الفيلمية، يُكملهم ممثلون ثانويون عزّزوا من الصراع ونقلونا مرارًا إلى أشدّ نقاط المواجهة شراسة، وهنا، وفي وسط مساحة الشر والطمع والشراهة والوحشية، هنالك أكثر من نقطة ضوء وعلامة مضيئة نجح كاتب السيناريو في جعلها عناصر جذب في هذه الدراما، ومنهم عمدة المدينة نفسه الذي يثبت أنه يصارع من أجل الحق، وبذلك يُنقذ هنري من متاهته وقلة خبرته، ويُنقذ الفتاة المحسوبة على الهنود الحمر الخارجة على القانون (الممثلة كوريانكا كليتش)، كما أن مواقفه أكثر إنسانية في وسط حشد من الانتقاميين والفوضويين.
ينسج المخرج مسارات سردية يمضي من خلالها بشكل أكثر واقعية، ولهذا فإن شخصياته الرئيسية من البساطة أنه لا يُسبغ عليها تلك القدرات الفائقة، والدليل هو ما يتعرّض له هنري وعجزه المتكرر في الدفاع عن نفسه، لولا إنقاذه في اللحظات الأخيرة تارة من طرف العمدة، وتارة من طرف كريستوفر.
في موازاة كل هذا، نسج المخرج وكاتب السيناريو خطًا سرديًا مرتبطًا بكريستوفر ذاته، فهو نقطة التوازن الأكثر أهمية في هذه الدراما، إنه، إن نظرت إليه، مجرد جوّال يريد استرجاع الذهب المُضاع الذي شارك في سرقته، وهو في المقابل أكثر من دجّال مخادع يستطيع النفاذ إلى غاياته بسهولة، وهو بأدائه المحترف والتلقائي يجعل متابعة ما سيقوم به من مهام أمرًا مفروغًا منه، فهو يتسلّل إلى أي مكان وأي زمن، فالأهم هو الوصول إلى غايته وهي الذهب، مهما كانت النتيجة.
وفي هذا الصدد، يقول الناقد كيث كارلينجتون: "في الواقع واجهت أفلام الغرب صعوبة في جذب الجمهور الحديث، وخاصةً تلك التي قد تندرج ضمن الفئة الأكثر تقليدية. من نواحٍ عديدة، يعد هذا الفيلم غربيًا تقليديًا إلى حد كبير، إذ يتضمّن مجموعة متنوعة من المجازات وأنماط متنوعة من الشخصيات، وحتى المواجهات المألوفة، حتى يمكننا القول إن القصة لا تُعيد صياغة هذا النوع السينمائي، ومع ذلك، فإن السرد القصصي متين وفعّال، وهناك ما يكفي من الغموض والإثارة لإبقائنا منغمسين في أحداثه".
أما الناقد وليام بيبياني في موقع ذي راب فيقول: "في هذا الفيلم لن تجد دراما شكسبيرية، لكن الشخصيات الرئيسية بمجرد وقوفهم أمام الكاميرا وإطلاق العنان لطاقتهم، بإمكانهم أن يأسروا المشاهد على أية حال، إذ لا يزال بروسنان يُبدع في مشاهد الحركة، ويجيد ببراعة الدخول في ساحة المعركة، وفي المقابل بدا أن كيلشر قادر على حمل ثقل درامي كبير، يُضاف إلى ذلك الإخراج والتصوير، فقد كانا على مستوى من الكفاءة. الفيلم لم يكن مملًا، بل يسجّل نجاحًا في جوانب كثيرة".
هذه الحصيلة سوف تحيلنا إلى مفارقات درامية خلاصتها أن للحقيقة وجهًا آخر أو وجوهًا أخرى، فمن الطريف أن يكتشف هنري أن والده ليس ملاكًا ولا شيطانًا، رجل ترك وراءه يدًا ممدودة بالخير ببناء العديد من الأماكن، لكن في المقابل هنالك من يبغضه إلى درجة الاقتصاص منه، ولهذا يأتي دور هنري في محاولة الثأر لوالده ليصطدم بتلك الحقائق المتضاربة، ويمتد التضارب إلى ملاحقة تلك الفتاة المتشرّدة من الهنود الحمر، بينما هي لم ترتكب جرمًا بل هي ضحية، حيث قُتل والداها أمام عينيها، ولهذا يتحقّق ذلك التحالف التلقائي بين العمدة وبينها وبين هنري، وهو ما سوف نشهد ثمرته في المشهد الأخير، حيث تنطلق هي وهنري على ظهري حصانين في فلاة شاسعة، وكأنهما ذاهبان لمهمة أخرى بعدما أصبح هنري هو العمدة بمكافأة من جابرييل.
هنالك بكل تأكيد مساحة من التشويق في هذه الدراما، وأداء لا يتسم بالمبالغة ولا بالإسراف في العنف، وإنما كانت المواجهات يمكن وصفها بأنها شر لا بدّ منه، لا سيما مع وجود عنصر الشر مُمثّلًا في جيديون، والذي يُكمّله الباحث عن الذهب كريستوفر، فكلاهما يشكّلان عنصري توازن في هذه الدراما الفيلمية، وكل منهما يسير باتجاه أهدافه ومقاصده بصرف النظر عن النتائج، ومن الذي سوف يهلك في طريق الوصول إلى ذلك الهدف.
هنا يمكننا التوقف عند الشخصيات الأكثر هشاشة، التي بدت أكثر تأثّرًا بما سوف يحيط بها من سطوة الشخصيات الأكثر شرًا، لكن في المقابل تصبح تلك الشخصيات مضطرّة للدخول في دوّامة الصراعات وإبداء بسالة في الدفاع عن النفس، كما هي الفتاة المطاردة دون ذنب، وكذلك زوجة العمدة التي ترفض الهرب من مواجهة عصابة جيديون وتقف إلى جانب زوجها، وانتهاءً بهنري الذي يكون قد اكتشف لأول مرة في حياته ذلك العالم الشرس من الأشرار الذي كان محجوبًا عنه، ولم يكن قد أعدّ العدّة لمواجهته.
...
إخراج: ريتشارد جراي
سيناريو: لي زكريا
تمثيل: بيرس بروسنان في دور العمدة جابرييل، صامويل ل. جاكسون في دور كريستوفر، برندون ليسارد في دور هنري، جياني كابالدي في دور جيديون
مدير التصوير: توماس سكوت ستانتون
مونتاج: لي سميث
