No Image
ثقافة

فلج «الفرسخي» والعودة للحياة بقصائد الماء

06 أبريل 2024
06 أبريل 2024

قبل أيام، تبادل الناس في ولاية منح عبر الهواتف النقالة، صورًا ضوئية لأنفاق مجهولة ومهجورة لفلج مندثر يسمى: «الفرسخي»، التُقِطت من أعماق مجراه الذي كان مغطى بالتراب ردحًا من الزمن، وواضح من الصور المنشورة عمق الفلج الذي يبلغ ثلاثة عشر مترًا، وارتفاع مجراه إلى ثلاثة أمتار، بحيث يشعر السائر بداخله أنه يكتشف عالمًا مذهلًا من الحفر وشق الصُّخور.

تلك الصور المنشورة حفزتني هذا الأسبوع أن أكتب عن تجربة إحياء الأفلاج المندثرة أو الميتة، التي لم يبق منها سوى أطلال، وأكداس من التراب تعرف باسم «هجيج»، تتناثر في سطح الأرض، وفتحات جوفية تعرف كل واحدة منها باسم «فُرْضَة»، تغوص في عمق يصل إلى مجرى الفلج، وترتبط مع بعضها بنفق يسمى «سَلْ»، وكأنما للمفردة دلالة استلال الماء من العيون الجوفية، يسير في سلسلة طويلة بدءًا من النبع وحتى المصب، ويبلغ عدد تلك الفتحات في معظم الأفلاج بالمئات، بعض الأفلاج تبلغ أطوال أنفاقها عدة كيلومترات.

تمثلتْ هذه التجربة في محاولة مجموعة من الشباب في ولاية منح، يخضر العطاء في أياديهم، لإحياء فلج «الفرسخي» العريق، الذي ينبع من وادي «المعيدن»، المتدفق من هضاب الجبل الأخضر، وينتهي الفلج بقرية «معمد»، حيث يغذي الجزء الجنوبي منها، لكن الفلج اندثر، ولم يتبق منه سوى أطلال تذكِّر به، وبعضها كان متماسكًا بسبب الأحجار المضفورة في جوانب الفتحات الجوفية، ورغم صعوبة إعماره بسبب التهالك الكبير فيه، إلا أن همة الشباب في إحياء الفلج، وجهودهم من أجل تحقيق ذلك، جعلتهم يغامرون في اكتشاف تلك الأنفاق العميقة، فكانت النتيجة أن تلك المجاري مغمورة بنهر محتبس في جوف الأرض، في حين أن هذا الفلج كان لعقود من السنين مجرد ذكرى وأثرًا بعد عين، وقبل ذلك كان نهرًا خصيبًا لقرون من الزمان، أما الأراضي التي يغذيها فتحولت بعد جفاف الفلج إلى صحراء، تنمو فيها أشجار الغاف والسمر والسرح، و«شريعة» الفلج أو «المِشْراب»، حيث يشرب منها الماء، صارت ذكرى في مكان ما، يروي الأهالي مكانها ولم يروها بأعينهم، والمفاجأة أن الفلج المطمور لا يزال ينبض بالحياة، والعيون فيه تسيل بقصائد الماء.

إن هندسة حفر الأفلاج المذهلة، تمثل إحدى خصوصيات الاستقرار في عُمان، ناهيكم أن بعضها يحتفظ بأكثر من ذاكرة، ذاكرة ثقافية، تتمثل في «النسخة» الورقية المتوارثة من جيل إلى جيل، توثق أصول الفلج وملكيات الناس له، ولفلج «الفرسخي» وثائق بيع وشراء تعود إلى قرنين ونصف القرن من الزمان، وكتب الشعراء في مديحها قصائد شعرية بالغة الرقة، وكأن حروفها صيغت من تلك القطرات العذبة السائلة في السَّواقي.

وليس «الفرسخي» الفلج الوحيد المندثر في ولاية منح، هناك أفلاج أخرى كثيرة أصبحت مجهولة المجرى، وبعضها باقية، مدفونة في عمق الأرض كفلج «السليماني»، وفلج «الشَّرْجة»، وفي جانب آخر من منح، لا تزال أطلال «فلج مالك» واضحة المعالم في بلدة الفيقين، وكان فلج «المطيب» يسقي مع فلج «الصليب» ضواحي بلدة «المعرى»، وأفلاج أخرى تغذي بقية قرى الولاية، تبدو أشبه بكائن يزحف في عمق الأرض، ويترك وراءه أكداسًا من التراب، هناك في أعماق الأرض شق الأجداد مجاري لهذه الأفلاج، فغذت القرى زمنًا طويلًا، وجاء زمن آخر، تغيرت فيه الحياة، وقلبت عليها ظهر المجن، فجف بعضها، بسبب موجات الجدب، وانتقال الناس إلى مناطق قروية أخرى، ولكن ما لا يحتاجه البشر فالطبيعة تتكفل به، إذ ستواريه في رحمها الحنون، وباطن الأرض مخبأ آمن لمفاتيح الحياة الضائعة، هناك تختبئ بعيدًا عن الأنظار، حتى يأتي جيل آخر، يتعطش إلى جرعات الماء العذبة، وتبدأ قصة جديدة في اكتشاف فلج مجهول، ليتحرك ببطء وخجل في سواقيه، وكأنه يكتشفها من جديد، وقد ينبع من بئر في مكان آخر، فالمياه لا تحب الرُّكود، إلا أن تكون في حالة رَيٍ دائمة، وتدفقٍ يفيض من الجداول.

خلال الأيام الماضية، ترددت على فلج «الفرسخي»، بصحبة وكيل الفلج: حامد بن سليمان الفيلاني، وبلغت معه موضع المنبع، وهو ما يعرف بالأم، «أم الفلج»، التي تغذيه من صفو نميرها، وشرح لي عن أمله ورغبته أن يرى الفلج يجري كما كان، وبحسب قوله: دورنا الآن أن نعيد الفلج للحياة، فقد بذل الأجداد في حفره وشقه جهدا كبيرًا، يؤكد ذلك طول مجراه الذي يزيد على ثلاثة كيلومترات، وهذا ما يقوله مسعود بن مبارك السليماني، الوكيل الثاني للفلج: إنه بتكاتف الجهود، ودعم أهل الخير، سوف تعود المياه إلى سواقيها.

كان المكان الذي تسير فيه ساقية فلج «الفرسخي» ميدانًا لملتقى خمسة أفلاج أخرى، تسير باتجاه منح، وتغذي القرى المتجاورة، والمتراصة في بعض أطرافها كالعناقيد، خمسة أفلاج تجري في أنفاق مخبوءة تحت الأرض، وكأنها أنفاق قطارات سرية، تتفاوت في الأعماق، ولمحت في بعض المواضع وجود ضفور قديمة، وأسس لبيوت أو أبراج أو خزانات مياه، ونحن لا نعرف شكل الحياة قبل قرون من السنين كيف كانت، إنما نرسم بأذهاننا نسخة تقريبية لصورتها الأولى، بحسب ما نراه من آثار وأطلال، تعود إلى تلك الأزمنة الغابرة.

الوثائق تتكلم: لسان فصيح عن حياة من تتحدث عنهم، وتقدم كشفًا بأسمائهم والعملات المتداولة بينهم، وقد أبقى الزمان مجموعة من الوثائق الخاصة بملكيات فلج «الفرسخي»، بما يشكل دفترًا صغيرًا من نسخة الفلج، احتفظ بها الباحث خلفان بن سالم البوسعيدي، في أرشيفه الكبير المكون من آلاف الوثائق، شغف بجمعها زمنًا طويلًا، وهنا تظهر أهمية الاحتفاظ بالوثائق، لأنها تكشف عن حياة الناس في بيعهم وشرائهم ومشاركاتهم ومسمى عملاتهم، وهذا نص إحدى الوثائق: أقر جمعة بن مسعود بن حجي الساكن «فليج بو نخيلة»، من ناحية منح، بأنه قد باع لمحمد بن عبدالله بن حجي المعروي المنحي، أثر ماء من «رَدَّة سابع الأولى»، ومن «رَدَّة سابع الأخرى»، من فلج «الفرسخي»، يدور على مداره بما يستحق، بمائة فضة محمدية، بيع القطع، وقد بري المشتري إليه من ثمن المبيع، براءة قبض واستيفاء، بتاريخ عشية الاثنين لست ليالٍ خلون من شهر رجب، من شهور سنة ثلاث وثمانين ومائة سنة وألف سنة، من الهجرة النبوية: (1183هـ)، وواضح من العقد أنه كتب قبل 262 سنة هجرية.

وفي وثيقة أخرى ورد هذا النص: أقر سالم بن حبيب الحسيني المنحي بأنه قد باع لازوردة بنت جمعة بن علي المعروية المنحية، مال خميس بن سالم الشامسي المعمدي المنحي، من سقي فلج الفرسخي، من قرية منح، بحدوده وحقوقه وطرقه وسواقيه، بستمائة محمدية فضة، بيع القطع، وذلك بتاريخ ظهر الخميس لعشر ليالٍ خلون من شهر شوال، من سنة ثلاث وتسعين ومائة سنة وألف سنة: (1193هـ). ومن قراءتنا لعقد البيع، الذي مضى عليه 252 سنة هجرية، تظهر أسماء قبائل كانت تعيش في منح، والعملة المتداولة وهي الفضة المحمدية.

بقية الوثائق المتوفرة عن هذا الفلج كتبت باللغة ذاتها، كاشفة عن أدبيات البيع والشراء قبل قرنين ونصف قرن من الزمان، ولكن أبلغ هذه الوثائق هو ما لم يكتب بعد، وما طوته الأيام وضاع من يد الناس، فما ضاع يفوق الوصف والتوثيق، تعيد كتابة التاريخ الحضاري للإنسان العماني، وهذا فيض من غيض، وقطرة انسلت من نهر طويل، يجري في ساقية تمتد جداولها بامتداد الزمان العماني الخصيب.

أوصاف هذا الفلج يصدق عليه قول الشاعر الكبير محمد بن عبدالله المعولي المعروي، (حي: 1114هـ/ 1702م)، الذي حتمًا عاش في فترة ازدهار «الفرسخي»، ولعله شرب من مائه، ولكن لم يبلغنا وصفه الشعري فيه، إنما بلغتنا من ديوانه المنشور قصيدته البديعة، التي كتبها في فلج «الأصغرين»، المجاور لفلج «الفرسخي»، وهو وصف ينطبق على كليهما:

يا سَيِّدَ الأنهارِ مِنْ دارِنا

مَنْ كانَ جَارًا لَكَ لَمْ يَعْسُرِ

وَمَنْ شَرَى ما أنْتَ تسْقيهِ مِنْ

نَخلٍ وَمِنْ أرْضٍ فلمْ يَخسَرِ

قُدِّسْتَ مِنْ نهْرٍ وَمِنْ جَدْوَلٍ

قَدْ فازَ مَنْ يَشْرِي وَمَنْ يَشْتَري.

محمد الحضرمي كاتب وصحفي عماني