No Image
ثقافة

غزة وملامح الأدب الفلسطيني الجديد

09 مايو 2024
09 مايو 2024

منذ عقدين مضيا، وفي ظل تسارع محاصرة الاحتلال لقطاع غزة، بدأنا نتلمس بداية كتابة جديدة هناك على الشريط الضيق على ساحل البحر الأبيض المتوسط الواسع والكبير. إنها كتابة فلسطينية بخصوصية مكان غزة، لفتت أنظار النقاد والمهتمين بالشأن الثقافي.

وقطاع غزة الذي اصطلح على تسميته بهذا الاسم كنتيجة لنكبة فلسطين عام 1948، محاصر أصلا منذ الاحتلال عام 1967، وما تعرض له من غزو إسرائيلي طوال الفترة بين نكبة عام 1948 ونكسة عام 1967. وقد ظل الاحتلال يضيّق مساحة قطاع غزة، لأجل حصر الناس ودفعهم للرحيل، حيث أنه تم اقتطاع نسبة كبيرة من أرض قطاع غزة حتى بعد الهدنة، فماذا فعل المكان والأزمنة بالكلمات؟ واللوحات؟ والأغاني؟

في هذا السياق المكاني، في ظل هذا الصراع على الأرض والبحر، وفي ظل التضييق على الغزيين لجعلهم يحيون سجنا فيما تبقى من فضاء، يأتي الأدب والفن كمقاومين للاحتجاز، كسرا للطوق باتجاهات قهرت الاحتلال.

وجد الغزيون أنفسهم في سجن بمعنى الكلمة، وليس هذا فقط، بل استمرت الحروب على المسجونين والمسجونات وصلا للحرب المسعورة التي ما زالت فصولها تتابع، معمقة جريمة الاحتلال من جهة، وصمود الناس المتنقلين من خيمة الى أخرى طلبا لبعض الأمان، لا الماء والكلأ الذي تبعه البدو في الفيافي والواحات.

ما الذي يمكن أن ينتجه هذا المكان-السجن من إبداعات؟

إن تناول الأدب الفلسطيني في غزة، يندرج فعلا ضمن أدب الأسرى، حيث يصبح هنا الأدب ملاذا للكاتب لتأمل نفسه ومكانه، حيث يتسع الضيق، ونفاجأ بهذا الأفق الذي يطل علينا من علو، كأن الكلمات صارت سرب لا تحلق هنا فقط، بل صارت عابرة للأماكن في العالم، وما عباءة البحر للكاتبة نيروز قرموط إلا مثالا تجلت فيه عبقرية الإنسان والكاتب/ة معا، والتي وجدت مجموعتها مجالا للترجمة الى اللغة الإنجليزية.

كنت من الذين انتبهوا لهذه النوعية من الكتابة، وتناولت عددا من الكتابات الشعرية والسردية ما بين القصة والرواية، والتي أكثر ما ظهرت لدى الكاتبات، اللواتي يتضاعف الحصار عليهن، مضافا لذلك الحصار الاجتماعي والنفسي.

منهن كذلك نجوى غانم، التي احترفت كتابة القصة القصيرة جدا، والتي استطاعت التعبير عن حياة المحاصرين، خصوصا من تم تشريدهم خلال الحروب الأخيرة، والذين اضطروا للإقامة في الخيم المهلهلة التي تصفر الرياح فيها.

كانت الفكرة تأسيس حلقة للكتابة الجديدة فعلا، حيث في ظل تعدد الإنتاجات الأدبية، بدأت ظواهر أدبية بخصوصية غزة تظهر الى الوجود، على رأسها بالطبع، كسر الجدران والتحليق في السماء؛ ولعل هذا الخيال الجمالي كان سابقا لما حدث من تحليق المقاومين وهم يتجاوزون الحدود والجدران باتجاه فلسطين الوطن السليب.

بدأت الفكرة، ولكن للأسف لم نجد ناظما قويا لهذا التجمع لأسباب متعددة، غير أن المبدعين الشباب العشرينيين والثلاثينيين استمروا غير مستسلمين للسجن البري والبحري، بما يعني أن امتلاك الإرادة يعني الكثير.

من أهم الظواهر التي تطورت في الأدب الفلسطيني في قطاع غزة، ظاهرة تحرر اللغة من الجماليات الكلاسيكية المثقلة، حيث صار الحال نفسه بليغا بحد ذاته، وما على الكاتب إلا وصفه، والتعبير عنه ببساطة.

اللغة في الأدب الجديد، لغة إبداعية فعلا بما فيها من وصف إنساني بليغ، تستلهم حياة الناس البسطاء، ولغتهم، حيث من ناحية أخرى، صار هؤلاء البسطاء هم أبطال السرد، خاصة النساء والأطفال في ظل كل هذا الحصار المركب.

والغريب والمدهش، أنه بالرغم من كل هذا الضيق، فإن اتجاهات الأدب كانت وما زالت متفائلة، غير متشائمة، بدءا من زيادة مساحة الأرض والفضاء، عبر تقدير كل قطعة أرض ترتفع فوقها سماء زرقاء.

لعل من أهم ظواهر الأدب الجديد، على مدار عشرين عاما، هو النزعة الإنسانية بعيدا كل البعد عن أي طابع سياسي فئوي، حيث انتصر الأدب للإنسان، خاصة المهمشين.

لقد ترك العديد من الكتاب والكاتبات مسافة بين ما هو إنساني وما هو سياسي، حيث تم التركيز على البعد الوطني العام.

ولعل هذه الظاهرة تأتي في سياق الأدب الفلسطيني بعد أوسلو بشكل خاص؛ فخلال ثلاثة عقود، راحت النصوص السردية تحتفي بالناس العاديين، مبينة أثر التحولات التي مروا بها.

تأتي تحولات العقدين السابقين متعلقة بالحصار، وصولا الى التحول الصادم اليوم، وهو حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على غزة.

لذلك، فإننا اليوم وغدا على موعد لتبلور أدب غزيّ فلسطيني عالمي فعلا، لما له علاقة باستلاب المكان وتدميره باتجاه الطرد من الحيّز المكاني، حيث تصبح رسالة الكاتب أكثر نبلا، بما تعزز من أسباب البقاء؛ فهذا هو الشاعر الغزي خالد جمعة يستعيد المكان الذي تم السطو عليه وضربه، عبر نصوص نوستالوجيا، تجع نفي المكان أمرا مستحيلا.

من ظواهر الحرب على غزة الآن، والتي لها علاقة بالتحولات التي أثرت على الإبداع في غزة، خلال العقدين السابقين، انتشار أدب اليوميات، حيث أن ما وصلني من كتابات خصوصا للكتاب والفنانين/ات الشباب يوحي بميلاد نصوص ترتقي لهذا الحدث. والملفت للأمر أن بدايات تلك اليوميات ظهرت "كبوسطات" في صفحات الفيسبوك.

ولعل الكتابين الذين صدرا مؤخرا عن وزارة الثقافة، تجليل لهذا النوع من السرد لما هو كائن من حياة يتم استلابها على مختلف الصعد والمستويات. لقد تابع الكتاب والكاتبات من أعمار مختلفة، التفاصيل المتعلقة بالمكان والقصف الشديد، كذلك التفاصيل الشعورية، التي لم تنقطع عن التفكير الوجودي المتصل بالخلاص العام لا الفردي فقط.

في هذا الصدد، يأتي فوز رواية قناع بلون السماء للكاتب الأسير باسم خندقجي بجائزة البوكر للرواية العربية، في هذا السياق الإبداعي المقاوم للأسر بشكل عام. ولعل ذلك سيفتح المجال في السنوات القادمة لولادة مجموعة من الأعمال الأدبية التي ستضيف الكثير للأدبين العربي والعالمي.

هو أدب الاعتقال في الفضاء، في أكبر سجن يتعرض الآن للقتل والتدمير، سيكون هذا المكان الدموي المحصور مجالا لأدب جديد، يتأمل تفاصيل المكان والزمان، في رحلة البقاء الإبداعي المقاوم للنفي والموت. وهو أدب صادم ومصدوم في آن واحد، على وقع هدم البيوت الآمنة فوق أصحابها، تلك التي تستدعي شهادات الناجين عن الراحلين، وتلك رسالة نبيلة، رغم أنها صعبة للغاية.