965
965
ثقافة

عقول افتراضية منذ الأزل

05 ديسمبر 2021
05 ديسمبر 2021

كثرت في الآونة الأخيرة المخاوف حول اتساع رقعة العوالم الافتراضية، واستحواذها على الحياة العامة الواقعية، وما لا نعرفه حقا أن الإنسان ذو عقل افتراضي منذ العصور القديمة، فنحن نحمل في أذهاننا عقولا غائبة وبحضرة افتراضية منذ الأزل، وعبر سلسلة الحضارات القديمة والتي كانت ما قبل التاريخ والحضارات التاريخية، فتجد الناس كل مستغرق في أحلامه مسترسل في أفكاره إلى أن يذوي الواقع من حوله.

فرغم البون الشاسع بين تلك الأزمان والزمن الحاضر، إلا أن العقل الافتراضي كان قديما ومنذ الأزل، من عصور ما قبل الكتابة وما قبل التاريخ، فكانت الفكرة فيها اسطورة متحققة، وتلك الأفكار والأخيلة سهام في قلب القدر لا يخيب، وعرفنا تلك الازمان فقط من خلال ما تبقى من الآثار الصامتة كالمنحوتات والمخططات الصخرية في الكهوف والجداريات، وتماثيل الآلهة والبيوت والكتابة الصورية، أي ما قبل اختراع الكتابة في الحضارة السومرية القديمة، والتي ابتدأت بلا أدنى شك بالفكرة، ليأتي علم المستحثات بعمليات فحص كيميائية دقيقة لتتبع الآثار وما مضى عليها من أزمان.

ليأتي بعدها انسان الهومو وعبر سلسلة من الأفكار المتدفقة من دماغه والتي تتفاعل مع البيئة، ليتبعه العصر الحجري القديم مع انسان النياندرتال وبتطور ملحوظ، إلى أن تبدأ الحضارة في العصر الحجري الحديث مع الثورة الزراعية، وصولا إلى عتبة العصر النحاسي والعصور التاريخية، فتلك الفكرة التي تأتي كلمحة من وميض مذنب هارب، فيسير نحوها الفرد منجذبا ومنقادا نحو موجة الفكرة الرنانة الى ان تزهر وتتجسد حقيقة واقعة هي ما تدفع بعجلة التطور نحو الأمام.

يحتل الوعي الكلي جزءا يسيرا من حياتنا، بينما الأفكار تتنامى في عقولنا، وتتوزع تلك الأفكار ما بين حل المشكلات والمخططات المستقبلية والخيالات الحرة، إلا أن تلك الخيالات لا تتبدد بل تتنامى على مر العصور، فتصنع العوالم التي تليها.

فنحن وعلى نحو فطري عالقين في أفكارنا، وبانتباه شارد يجفل كل حين، حيث نعيش اللحظة والواقع على نحو ضمني معتاد، فهي لا تحتاج الى تركيز ذهني كبير، وخاصة عندما يتحول كل شيء إلى عادة، وفي نظام تلقائي، وخاصة حين نكون محاطين بكل ما نحتاجه، فطبيعة الذهن النشط تحديدا يشرد بسهولة، ويجنح فكره وينحرف الذهن ويتماهى الى حيث تأخذه تلك الأفكار، ولذا نصرف أذهاننا ونطلق سراح الأفكار، ولا نستعمل التفكير الجدي الا في المسالك والمنعطفات التي تحمينا من التهديدات الخطيرة، وعند نقص الموارد الحياتية، الا أنه في أغلب الأحيان فالسيادة للفكرة الشاردة.

فالفكرة كيان مجرد يتواجد في الذهن وليس في العقل والمخ فقط، حيث أن مفهوم الذهن يشمل العقل المادي بعملياته وأفكاره، فيفرز المخ الأفكار آليا وبخطوات دقيقة من الخلايا العصبية تحديدا، وحيث ان وجودية الفكرة تجاوزت وجودية الفرد ذاته، حتى باتت الفكرة مخلدة وكانت السيادة للأفكار النافعة المؤثرة، فبعض الأفكار غيرت مسار التاريخ، ولم تقف عند حدود الخيال فقط، فواقعنا من صنع أفكار سابقة، وبأفكارنا نصنع المستقبل القادم.

فتلك الطفرات التي حدثت، ما كانت إلا بعد مشكلات تمت معالجتها بالعقل بعد اقتناص لتلك الأفكار والخيالات الافتراضية، وأفكار اليوم ستصنع وتشكل الرؤى المستقبلية بلا شك، فتجسدت تلك الأفكار في واقع افتراضي، وخيالات الواقع الافتراضي ستصنع عالما افتراضيا بالكامل، فالإنسان أذكى من كل تلك التقنية الى الحد الذي مكنه من تصميم معالجات الكترونية تفوق قدراته.

وما هذا التخيل في جوهره سوى انسحاب عن اللحظة الراهنة والعيش قيد الفكرة، الى ان اصبح العالم الإفتراضي جزءا من حياتنا، يقضم من الواقع فيحتل الصدارة، فما كان افتراضيا سيصبح واقعا وهو ما أعلنت عنه شركة الفيسبوك عبر مؤسسها " مارك زوكربرج" عن العالم الإفتراضي الثالث أو ما يسمى " الميتافيرس"، والتي تتألف من مقطعين، الميتا: وهو مصطلح يشير الى الفيس بوك قديما، ومقطع فيرس: وهو يعني ما وراء.

فما وراء التخيل نصنع عالما من الخيال، ومن بعد الخيال واقعا معايشا، ومن خلال تلك الفكرة الثورية يحاول " مارك زوكربرج" تقليل الهوة ما بين الواقعي والرقمي، لينشأ العالم الإفتراضي الثالث، وعلى نحو ثلاثي الأبعاد وليكون للخيال خيال آخر، ويكون التعايش مع العالم الإفتراضي شبه حقيقي.

فباستخدام الأدوات المزودة بتقنية الاستشعار كالنظارات الافتراضية والواقع المعزز وارتداء السترات والقفازات، سيكون التعايش مع العالم الإفتراضي شبه حقيقي، ولأن لكل شيء بداية فنحن على اعتاب تحقق الخيال، ورسوخ الفكرة وسيطرتها على أرض الواقع، ولأن عجلة الحياة لا تندفع الى الأمام دون إشارات وأوامر من العقل أو ما يسمى بالفكرة التي يطلقها العقل، ويشكل منها منظومة ملائمة للواقع فتتصدره.

لنستشف ذلك المستقبل الذي يتراءى لنا من خلف تلك العوالم الافتراضية من وحي حاضرنا الذي بدأ يشيب أمامها، منذرا بتسارع كبير في تبدل الأزمان، ليتيح لنا النظر بأمل الى تلك المسارات الجديدة في الحياة العملية والتعليمية والترفيهية.