الدكتور الأهواني يمين الصورة رفقة الدكتور عبد الحميد يونس
الدكتور الأهواني يمين الصورة رفقة الدكتور عبد الحميد يونس
ثقافة

عبد العزيز الأهواني في مرايا تلاميذه

12 مارس 2022
مرفأ قراءة...
12 مارس 2022

- 1 -

على مدى الأسبوع الماضي بأكمله؛ كنت أعكف ساعاتٍ طوال على قراءة وتأمل بعض ما تركه أساتذتنا الأجلاء من تراث لم ينشر، وأعيد (ضمنًا) اكتشاف بعض إنتاج رائد حقيقي من رواد الدراسة الأدبية والنقدية بل الفكرية أيضًا، ومثقف مصري عربي كبير، ربما لم يحظ بالشهرة التي حظي بها تلاميذه، وما أكثرهم وما أبعد تأثيرهم بدورهم في أجيال وأجيال! واقتصر حضوره الكبير على التدريس، ورعاية أبنائه من الباحثين والدراسين.

أتحدث عن الأستاذ الجليل والمثقف العروبي الكبير الدكتور عبد العزيز الأهواني (1915-1980) الذي تحل ذكرى رحيله الـ42 في 13 مارس، وهو لمن لا يعرفه، ولم يسمع به من الأجيال الجديدة، رائدٌ حقيقي من رواد الدراسة الأدبية والنقدية والترجمة، وتحقيق النصوص، ومثقف مصري ذو توجه قومي عروبي "أصيل"، ينتمي إلى الرعيل الثاني من خريجي الجامعة المصرية في الثلث الأول من القرن العشرين (تخرج الأهواني في قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة عام 1938)، وهو أحد أنجب تلاميذ الدكتور طه حسين، ومن أوائل المتخصصين في مجال الدراسات الأندلسية، بالجامعات المصرية والعربية، بل هو أحد آباء الدراسات الأندلسية، وأحد آباء دراسة الفولكلور في العالم العربي. وله في ذلك ما يشهد بريادته وأستاذيته وأصالته (راجع كتابه عن «الزجل في الأندلس»، وكتابه الأشهر «ابن سناء الملك ومشكلة العقم والابتكار في الشعر»، على سبيل المثال).

وقد لفت انتباهي تعدد اهتمامات الأستاذ ورحابة مشروعه ولغته الجميلة الجذابة وقدرته على المحاورة والتتبع والاستقصاء؛ وقد أنجز رحمه الله ترجمة الجزء الأول من رائعة ثربانتس «دون كيخوته»، ولكنه لم يكملها في موقف احتجاجي ضد نشر الترجمة محذوفا منها فصل تحسس منه البعض!

- 2 -

وقد اشترك الأهواني مع فريقٍ متميز من خريجي قسم اللغة العربية بجامعة القاهرة في تحقيق المصدر الأندلسي باذخ الثراء والأهمية والقيمة، «الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة» لابن بسام الشنتريني، الذي ظهر للنور في ثلاثة مجلدات ضخمة.

يحكي المرحوم محمود علي مكي عميد الدراسات الأندلسية في الأدب والثقافة العربية؛ وتلميذ الأهواني، قصة هذا المشروع قائلًا:

"انصب اهتمام عبد العزيز الأهواني على الأدب الأندلسي، والذي يعتبر رائده دون منازع. وتعود بداية ذلك الاهتمام إلى عام 1938 عندما كلفه عميد كلية الآداب بجامعة القاهرة الدكتور طه حسين شخصيًا بتحقيق كتاب «الذخيرة» لابن بسام الشنتريني، رفقة شابين آخرين عُيِّنا مثله معيدين بالكلية؛ هما خليل عساكر، وعبد القادر القط. وقد أصبح الثلاثة فيما بعد من كبار الباحثين، وإن كان الأهواني وحده ثبت في مجال الأندلسيات حيث أنجز بجامعة القاهرة رسالة الماجستير عن «الموشحات الأندلسية»، ثم رسالة الدكتوراه عن «الزجل في الأندلس» واهتم بشكل خاص بتراث ابن قزمان القرطبي أمير زجالي الأندلس".

ورغم قلة كتب الأهواني المنشورة (قرابة الـ4 أو 5 كتب) فإن تراثه من المقالات والدراسات زاخر ومهم وأصيل (وهو في أيدٍ أمينة، وسيرى النور في القريب بإذن الله بفضل جهد وإخلاص بعض تلاميذ تلاميذه الرائعين، وأقصد الدكتور خيري دومة الذي يعكف منذ سنوات على جمع وتصنيف ودراسة وتحرير أعمال الأهواني غير المنشورة وإعدادها للنشر في طبعات حديثة مدققة).

لم يذكر اسم الأهواني أمامي أبدًا إلا مقرونا بأسمى آيات الاحترام والإجلال والتبجيل؛ وأذكر أن قاعة الدرس المتاخمة لقسم اللغة العربية بكلية الآداب كانت تحمل اسمه، وفي مارس من كل عام تلقى فيه محاضرة تذكارية على شرف المغفور له عبد العزيز الأهواني (ولا أعلم إن كان هذا التقليد مستمرًا أم لا؟)

- 3 -

ودائما ما كنت أسمع أستاذي المرحوم الدكتور جابر عصفور الكثير والكثير عن أستاذه الروحي الأهواني، وما لعبه من دور إنساني، قبل الدور الأكاديمي والعلمي في حياته، وأنه كان أنموذجًا للمفكر الجليل والعالم الكبير والأستاذ الأب الذي يحنو على تلامذته كل الحنو. ودائمًا ما كان يتذكر تفاصيل لقاء صباح الثلاثاء الذي كان ينظمه في بيته، ويستضيف أبناءه وأصدقاءه من الباحثين والمثقفين والمعنيين بشؤون الأدب والنقد والفكر عمومًا، عن هذا اللقاء يقول جابر عصفور:

"ولا أزال أذكر جلسة الثلاثاء في بيته التي كنت أتحلق فيها حوله مع أساتذتي وزملائي أمثال عبد المحسن طه بدر، وأمينة رشيد، وسيزا قاسم، ونصر أبو زيد، وسيد البحراوي، وشكري عياد، وفاطمة موسى، وغيرهم، ونشترك في حوارات ثرية لا تنقطع. لا أنسى له ديني الشخصي، سواء في مواقفه التي كانت لي نعم العون في حياتي، أو في جلساته الحوارية التي كنا نتحلق حوله فيها كل ثلاثاء، ممارسًا دوره السقراطى (نسبة إلى سقراط الفيلسوف اليوناني) الذي لا يُنسى، والذي ساعدنا جميعًا على أن نكون أساتذة بحق، وأن نحقق أمله ورجاءه فينا".

ويضيف الدكتور جابر "وقد تتلمذت على يديه، وجلست منه مجلس التلميذ في قاعات المحاضرات الخاصة بقسم اللغة العربية بكلية الآداب في جامعة القاهرة. وكان من أقرب الأساتذة إلى عقلي ونفسي. ولا شك أنه كان أبعدهم أثرًا في تكويني المنهجي والفلسفي، ومساعدتي على صياغة منهج خاص بي في المساءلة النقدية للأفكار والنظريات. ولذلك فديني كبير له، ولا أستطيع أن أوفيه حقه مهما فعلت، وقد قام بالتدريس لي فعلا في قسم اللغة العربية؛ ابتداء من عامي الثاني في القسم، وظل أستاذًا لي إلى أن تخرجت في القسم، وأصبحت معيدا ثم مدرسًا ثم أستاذا مساعدًا".

أما المرحوم الناقد الدكتور سيد البحراوي أحد تلاميذ الأهواني المقربين؛ فيقول عنه:

"لم يكن عبد العزيز الأهواني أستاذًا جامعيًا فقط، بل كان عالما في الدراسات الأدبية ومثقفًا مارس الدور النضالي الطبيعي للمثقف"، وقد حلل البحراوي في دراسة له ما أسماه بـ"عناصر نظرية الثقافة" في كتاب عبد العزيز الأهواني «أزمة الوحدة العربية»، قائلًا: "نستطيع أن نكرر أنه كان يمتلك رؤية متكاملة للثقافة العربية مفهوما ووظيفة، ليس فقط على المستوى النظري بل إنه كان يملك تصورا عمليا أو برنامجيا لحاضر هذه الثقافة ومستقبلها".

فيما تقول عنه واحدة من تلميذاته البارزات؛ الناقدة الدكتورة سيزا قاسم:

"يعيش الأهواني في نفوس تلاميذه ومريديه، فهو جذوة لا تنطفئ، ولن تنطفئ أبدًا، تنير الطريق وتبعث الدفء في القلوب"..

- 4 -

وهذه أمثلة لثلاثة نقاد ينتمون إلى أكثر من جيلٍ نقدي وأكاديمي وفكري تتلمذ على الأهواني، وتأثر به وتشرب منه روح العقلانية النقدية، وأسس البحث المنهجي والفكر المنفتح الحر، وهناك مثال آخر من جيلٍ أحدث، ربما كان آخر الأجيال التي تتلمذت على الأهواني بشكل مباشر، أو تلقت العلم على يدي تلاميذه؛ يقول الناقد والأكاديمي خيري دومة عن الأهواني:

"كان اسم عبد العزيز الأهواني يتردد على مسامعنا من أساتذتنا الذين هم تلاميذه: عبد المحسن طه بدر، جابر عصفور، عبد المنعم تليمة، سيزا قاسم، سليمان العطار، نصر أبو زيد، سيد البحراوي. كان هؤلاء يجتمعون سنويًّا، وبرعاية من الكبير مصطفى سويف للاحتفال بمحاضرة كبيرة في العلم.. لم يترك الرجل كتبًا كثيرة، لكنه ترك مدرسة كبيرة في التفكير والوطنية والعلم، تركت آثارها العميقة، لا في قسم اللغة العربية وحده، بل في مصر كلها".

إن اسم عبد العزيز الأهواني جدير بأن يكون حاضرًا في الذاكرة الثقافية العربية، وأن تُجمع آثاره ومحاضراته (وهو ما يحدث بالفعل وستظهر أولى ثمرات هذا النشاط في غضون أشهر قليلة)، ويُعاد نشر أعماله الأندلسية التي يجتمع فيها روح الشرق والغرب، وأبحاثه العميقة في الأدب الشعبي، وتحقيقه القيم لعددٍ من المخطوطات العربية والإسبانية، وترجمته الرفيعة لرواية «دون كيخوته» لسيرفانتس، قبل أن يترجمها عبد الرحمن بدوى بعقد كامل أو يزيد.

رحم الله الأستاذ الأصيل.