ضربة الإكليل قراءة ناقدة لرواية سمحة
خلافًا لكل القراءات النقدية، التي تسير جنبًا إلى جنب مع الفن الأدبي وداعمة له، وكما قيل "النقد هو الذوق لذلك الإبداع الأدبي"، حيث إن العلاقة بينهما متكاملة، فإن قراءتي لهذه الرواية للكاتب خالد بن علي المخيني ستكون كرحلة بحرية بثيمة البحارة والسفن.
نحمل حمولتنا داخل السفينة، ونرفع الخطاف والباورة "المرساة"، ونطمئن على الشراع العود والفتيني "الشراع الصغير"، نتفقد القبيط "مقدمة السفينة"، متأبطين النالية "الخارطة"، والرحمانيات، مطيعين لأوامر المجدمي "رئيس البحارة"، والنوخذة "قائد السفينة"، متكئين على حرفية (الوستاد مول) "كبير النجارين"، وكما يقول الكاتب: "متأبطا دفتري وقفت على شاطئ خور البطح"، الذي عرف فيما بعد "إن الوقوف على أرض صلبة ساكنة أعز الأماني في ذلك الوقت"، ونحن نحمل معنا "رواية سمحة" في رحلتنا هذه، للكاتب خالد المخيني.
رحلة يتقاذفها الشعور الجمعي بالحنين، عبر تداعٍ حر للمشاعر، رغم التماسك البنائي والنسق الداخلي للحكاية، فتسير الرواية في اتجاه واقعي متخيل، أو كما يقول الفيلسوف الإيطالي أممبرتو إيكو: "هي لا تقول الحقيقة، لكنها لا تكذب"، فيحكي لنا الكاتب بقالب روائي بناء على بعض المعطيات مع الامتزاج بالخيال الروائي، ليصور لنا أحداثًا مماثلةً لتفاصيل غرق السفينة الصورية، لتسير الحكاية عبر موج متلاطم في أحداث دينامية متغيرة، في رحلة عبر عوالمها السردية.
وكانت سمحة منذ البداية ليست ككل السفن، فهي غنجة تختال بين صويحباتها من سفن البوم والسمبوق والبدن، وربما لم تكن الأكبر، إلا أنها تعرف " أن لكل سفينة مميزاتها، وأن ما يصنع الفارق هم البحارة والنوخذة كما يقولون"، لنلتقي بشخوص الحكاية وطاقم السفينة والذين هم شخصيات الرواية: النوخذة، والمجدمي، عقيل بن عبدالله "نجار السفينة"، وعبيد " أفضل ماسك دفة في صور"، ومبارك "صاحب العنبر"، لتتسع فيما بعد بؤرة السرد فيكون لكل شخصية منهم حادثة وقصة، لكن أبرز ما يميز السفينة حقًا، أنها جاءت مع الأقدار: "السفينة اختارتني أم أنا اخترتها"، ولنكون نحن في حكاية لم نخترها بل هي اختارتنا، تحكمها وتقودها حتمية القدر، في نزوع واتجاه نحو القدر.
وفي وحدة اصطلاحية بثيمة البحارة، تعبر عن حياة الإبحار، وقضية الانفتاح على البحر والمراسي والموانئ والجزر والبلدان البعيدة، فهي رحلة صوفية منذ البداية، "اخلع ناقتك فأنت في سمحة"، وعبر مونولوج داخلي لشخصية عقيل المتخيلة الناجية، "من يصغِ لصوت البحر، ويصاحب النجم فيهتدي به، يعرف كيف يسمع الناس، حتى وإن كان يعرف المعلومة سلفا"، لتمضي سمحة وتتوالى معها الأحداث، " تمشي الهوينى في ممر أفعواني"، في رحلة عبر عوالمها السردية، ما يجعله نصا أدبيا يحمل زخما شعوريا وجماليات بلاغية، حيث تكون الكلمة هي المادة الفنية للأدب ليتعدى الكاتب ذلك، ويعالج النص من زاوية ذات هيمنة تاريخية فلسفية، منحازا للمذهب الأدبي القائل: "الفن للفن"، وفي بناء تخيلي تمتزج فيه الحقائق مع الخيال.
ليبدأ الكاتب بعدها رص الأحداث تلو الأخرى، كما يرص النوخذة والعمال البضائع والصناديق على متن السفينة، في بساطة تلخص معاناة البحارة، ليحملها على ظهر الحكاية، ليشحنها ويرسو بها إلى قلوبنا قبل عقولنا، في أحداث متفرقة كحادثة عبيد، حيث "الشر يعالج بالشر"، ومداواة الشيء بمثله، في تماثل بنيوي مع الأحداث، في قراءة ضمنية لما وراء اللغة من فلسفة وحكمة تتعدى دور اللغة، فكما يقول أرسطو: إن للحكاية خمسة أجزاء: التحول، والتعرف، والعقدة، والحل، ووداعية الألم، مشتملا على عناصر الأدب الأربعة: العاطفة، والمعنى، والأسلوب، والخيال، لتبدأ الرحلة وتبتعد عن الساحل، ميممين صوب أحداث النهاية، "كلما زادت المسافات يزيد الشوق ولا ينقص"، وفي عرف يقضي" بألا تودع زوجات النواخذة أزواجهن على الشاطئ، يكتفين بوداعهم على عتبات البيوت".
لينقلنا الكاتب بعدها إلى محطات رست عليها سمحة، بداية برسوها في مسقط، حيث كانت "كل الابتسامات على وجوه الرجال من شمع، سرعان ما يذوب مع أول استدارة للأزرق العظيم"، لتلتمع الأسطورة والحكاية عن قصة "الفاتنة المذبوحة"، ليعبر الكاتب بمنطقه العميق عن تلك الأساطير فيقول: "منذ الأزل يفسر الناس الظواهر الطبيعية التي يعجز عقلهم عن إيجاد سبب منطقي لها بقصص من نسج الخيال، تدخل في الموروث الحكائي للشعوب، فنقول عنها "أسطورة"، ومرورا بمدافع البوكيرك ومبنى بيبي مريم، لتلتمع حكايات أخرى داخل مغارات تشابه مغارة علي بابا، وصولا إلى قريات، يمنون أعينهم بشواهد مسقط البارزة، "سوقها، عقبة سداب، قلاع مسقط، بيت العلم، وبوابة مسقط، ويحلمون بحلوى صنقور".
لم تتسارع الأحداث إلا مع هدير صوت محرك السفينة، ونسمات الصباح الخفيفة لم تحرك جسد الغنجة الثقيل كما ينبغي، الشراع الكبير لم يمتلئ بالكامل، أمر النوخذة بتشغيل محرك السفينة، لتبدأ بعدها نقطة التحول في الأحداث مما يجعل المشاهد قريبة من ذهنك معبرة عن قدرة الكاتب على التصوير بمشاعر متدفقة فياضة، ليحكي لنا من حكايات البحارة، التي كانت "كخبز التنور الساخن ومكبة عصيدة مع قهوة بالهيل"، يتسامرون إلى أن يصلوا إلى تلك المراسي، وأحيانا يصل بهم الحوار شكل المحاججة والسفسطة بين البحارة، لتطل عليهم حكاية "البالوز"، فتقض من اطمئنانهم، ليعرفوا بعد ذلك أن "الفضيلة الكبرى ليست في أن تكون حرًا، وإنما في أن تناضل من أجل الحرية".
وتستفيق بعدها الأحلام من سباتها وسمحة "تخط طريقها نحو شرق إفريقيا، والبحارة يقتلون الوقت بالغناء"، كحلم عبيد "أصبحت فكرة بناء ورشة صغيرة لصناعة السفن لعائلتي لا تفارقني أبدا، وغدوت مسكونًا ومهووسًا بها".
وينتبه العقل بعدها على معارف عميقة تلامس القاع، لتستقر عليها مرساة خبرة البحارة، "فهل من الممكن أن تعلق المرساة في الصخور؟"، ليبحث القارئ ويستشف بين السطور عن عمق القاع، ونوعه الذي سترسو عليه الصخور برمي مخطاف التوقعات، وإن كانت في صحراء من الملح، ليتعاون الطاقم بعدها لرفع المرساة للمغادرة، وعبر تأملات لأولئك البدو الرحل، وحياتهم الرعوية "الذين زاوجوا بين الجمال والبحر"، ليقودهم التأمل إلى السماء" عدد النجوم هائل فوق رأسي، كم تبلغ يا ترى؟"، ليكونوا على موعد جديد، مع قدر باهظ الثمن، يوم أن رمى مبارك شبكته وغفا، ليحصل على جوهرة البحر الطافية، العطر غالي الثمن "العنبر"، ليقول بعدها وبحكمة عميقة: "لا أدري لم لا تكتمل الأشياء الجميلة دائما، إنها لعنة القدر الأزلية، لا تكتمل أبدًا".
وصولًا إلى جزيرة سقطرى ورأس حافون الصومالي، ونسير بمحاذاة بمبا وصولًا إلى أرخبيل زنجبار، " مهوى أفئدة البحارة"، سألت الجميع عن تفاصيلها، كل له حكاية مختلفة هناك، لكنهم أجمعوا على جمالها، ويقول عنها واقع آخر: "فردوس أسطوري في الظاهر"، لتبدأ بعدها حكايات بطعم "القرنفل".
إلى أن هبت رياح الكوس منذرة بنهاية للحكاية، وحملت معها الحكايا القديمة بدءًا من جرثومة الجدري، إلى تغير الأحوال الجوية بدءًا من الأمواج الطويلة: "هي سفير واضح لما ستؤول إليه الحال بعدها"، إنها "ضربة الإكليل"، "ما أجمل البحر ساكنًا، وأشنعه مضطربا"، ليتسارع عمل البحارة عبر تعاون ملحمي، " كتجهيزات الأشرعة واستبدال بعض الحبال بحبال أخرى"، لتكون بعدها كل تلك المحاولات كتحصيل حاصل.
ليقف السارد على زاوية التقاط الصورة، ليصور بانوراما المنظر عن بعد، لتتحول بعدها سمحة إلى "ريشة في مهب الريح"، "وليس لها سوى الإذعان لمشيئة الأمواج"، لتحول سيرها "بغير هدى تتقاذفها الأمواج والأقدار".
التمع البرق في لحظة "حوَّل الظلمة إلى نهار"، ليكون وميضا إلى المصير الذي يمليه عليهم القضاء والقدر، وتحكمه "قوى الطبيعة القاتلة"، ليعرفوا أن "وزن الصارية عبء عندما تميل في اتجاه واحد".
لتشق سمحة طريقها نحو ذلك الجبل في مجال تصويري، "تبدى موتا عملاقا باسطا ذراعيه يستعد لاحتضانهم"، بينما "الرياح ترقص رقصة الجنون دونما توقف"، إلى أن غصت الحكاية في أفواه الأهالي عبر تصورات تحتمل الغموض وتتعدد فيها التفسيرات، وهم يتسامعون عن لغز اختفاء سمحة وفقدانهم لـ140 بحارا، ليقف الراوي المتخيل أخيرًا فيقول: "أما أنا فلم أذرف دمعة واحدة بعد، ترافقني خيالاتهم في كل حين، وأصواتهم لا تفارق مسمعي، وأطيافهم تسكنني، أرى سمحة مع كل سفينة مبحرة".
