No Image
ثقافة

صورة

24 مارس 2024
ذات يوم
24 مارس 2024

في لقاء للفنان محمد عبده مع الإعلامي عمرو أديب وأصالة نصري تحدّث أبو نورة (كان عُمري حين توفي أبي سنتين، ذهب لعلاج جلده في المياه الكبريتية على حدود اليمن، وهناك توفي ولم يعُدْ، كانت لأبي صورة معلّقة في جدار البيت، أنزلوها لفتوى شرعية لا تجيز وجود صُور في البيت، بعد حوالي سبعين سنة، ذهبَ يمنيٌّ اشتغل أبوه مع أبي لشركة السفن التي عملا بها قديما، يسأل عن صورة أبيه، فعثر له عن صورة، وأخبروه أن الرجل الذي مع أبيه في الصورة كانت صورة أبي، أنا الفنان محمد عبده).

ركّض الرجُل اليمني من اليمن إليّ في السعودية، وما إنْ عرض عليّ الصورة، ليسألني من هذا الذي في الصورة، أجبتُهُ: هذا أبي، أتذكر ملامحُه من الصورة التي كانت في الجدار، وأنا كان عمري يومها حوالي سنتين) ردّت عليه أصالة نصري: الذاكرة قوية وطريّة في البدايات.

ذكّرني هذا بموقف، وهو أنه بعد وفاة أبي بحوالي سنةٍ أرسل لنا صديقُ العائلة صُورًا بينها صورةٌ لجدّي يوسف بن حميد رحمه الله في عزّ شبابه، ملامحُهُ دلّت عليه أنه هو، وكان بين الصور صورةٌ لطفلٍ لا يتعدّى عمره ربما ست أو سبع سنوات، لم أستطع أنْ أعرفُهُ وأنا الذي ألِف ملامح أبيه لحوالي أربعين سنة، يتذكرها في عنفوان شبابه وحيويته، وفي وقار بداية الشيب، وهو الذي رجع لربه في منتصف الستينات، صورة أبي التي تدرّجتْ أمام ناظريّ لأربعين سنة لم تستطع أنْ تقول لي أن ذلك الطفل هو أبي، في صورةٍ التقطت له قرب سفره مع عائلته في زنجبار، لكن بعض إخوتي عرفوا أن ذلك أبي.

أسفتُ كيف لم أعرف أن ذلك الطفل في تلك الصورة كان أبي. استطعتُ أنْ أتأمل وأتمعّن في تلك الصورة كثيرا، ونبتَ بيني وبينها ألفة شديدة حتى كأن طفل الصورة هذه لم يكبُر ولم يشب، ولم يرتفع لربّه، بينما لا ولم استطع للآن أنْ أشاهد صورًا لأبي ولا لأختي رحمهما الله بملامحهما التي أتذكرها بلا صورة. بعد شكّ مكتومٍ عندي صدّقتُ أن ذلك الطفل في تلك الصورة هو أبوه، حين رأيتُ أبنة أختي الأصغر وكأنها هي التي في الصورة.

ذات زيارة للشيخ موسى بن سالم الرواحي -حفظه الله-، وهو الذي خدم الإمام الرضي محمد بن عبدالله الخليلي -رحمه الله-، أردْتُ منه طلبًا، فقلتُ له:

- يا شيخ موسى يقولون بوجود صورة للإمام محمد بن عبدالله الخليلي التقطها له الطبيب طومسون، والبعض يكذّبُ ذلك، والبعضُ ينفيها، فما رأيُك أنْ تصف لنا ملامح الإمام جيدًا، وأنا أحضرُ رسّام وجوه بارع فيرسمه ويعرضه عليك؟

- أعوذ بالله، أعوذ بالله، أنت باغي تدخلني النار، باغي تدخلني النار، أنا أخلّيك ترسم الإمام،...............

وهكذا نهرني وزجرني الشيخ موسى، لأني عرضتُ عليه رسم الإمام محمد، وكانت صورةُ الإمام عصيّة على التشكل في باصرتي الخيالية، الإمام الذي أحببتُهُ لفرط ما رسم جدّي الشيخ محمد بن علي الشرياني -رحمه الله- صورته في مخيلتي لسيرته العطرة، بل رسمها بدمعتين ترقرقتا، يوم طلبتُ منه ذات مرّة أنْ أعرف أين قبرُ الإمام، طلب من سائق السيارة أنْ يذهب بنا لمقبرة الأئمة بنزوى قُرب مسجد العبّاد، قال لي: شوف هذاك المسجد، قربه مدفون الإمام، بعدها حلّق جدّي عنا بعيدًا في صدى ذاكرة الإمام العطرة، وتالله لقد رأيتُ دمعتيه.

بقيتْ صورةُ الإمام بلا فرشاة ملونة ترسمها، إلى فجر يوم ندِيّ رأيتُ فيما يرى النائم أنّ جدّي -رحمه الله- يخرج من سبلته في بيته الذي كان كعبة الزوّار، ومعه شيخٌ مهيبٌ وقور، سألني جدّي في المنام عن الأزد، وسألتُه: هل أنت زعلان لأني لم أسمِّه حسّان كما كنتُ تناديني؟ أجاب لا؟ ووقع في خاطري أنّ ذلك الوَقور المهيبُ هو الإمام محمد رضي الله عنه.

بقيت صورة الإمام في تلك الرؤيا بملامحها قوية في ذاكرتي، حتى كنّا ذات يوم في مجلس الشيخ محمد بن عبدالله بن علي الخليلي الشِعريّ، والذي حضرتُهُ وحضره الشيخ موسى، وحضره كذلك الأخ يوسف ابن الشيخ محمد، عند خروجنا قال وتسليمي على الشيخ موسى، جذبني له هامسًا في أذني: الولد يوسف يشبه الإمام محمد شوية، فأجبته: صدقت شيخي، بينهم ملامح. وكانت عينا الشيخ موسى تسألني وأين رأيتَ الإمام محمد.

***

في منتصف الألفين التقيتُ بشابٍّ قبيلتُه السالمي، وقال لي إنّه من بيت نور الدين السالمي وابن عمّه الشيخ الشاعر الكبير أبي نذير السالمي، فسألتُه: هل لديكم صورة لأحدهم، أو تعرفون شبيهًا لهم، فقال لي: أما الإمام فلا، ولكن يوجد «ابنٌ» له حيّ، ويقال إنه يشبهه جدًا، تواعدنا على زيارته لرؤية شبيه أبي نذير إلّا أن الأيام حالت دون ذلك، حتى فتحت وسائل التواصل الاجتماعي نوافذ على الناس، والتقيتُ في منصّة تويتر بالدكتور عبدالله السالمي، وهو حاليا اختصاصي أول طب أسرة، فسألتُه عن صورة ابن أبي نذير الذي يشبهه، فأرسلها لي وهو الشيخ يوسف ابن الشاعر أبي نذير، وأنا للآن لا أحدث نفسي أنه يوسف، بل إنه أبي نذير، وهكذا كلما فتحتُ ديوان ذلك الشاعر العظيم، أشعرُ أني بنظري للصورة كأني أحادثه مسامرًا عن شِعره، وأن المسافات الروحية بيننا تقلّصتْ

***

الأرواح ترسمُ بورتريها للأحبة الذين نحبّهم، بل إننا نتمعّن النظر في صُور الكبار والعظماء الذي لم نرهم، لكن رأينا وسمعنا آثارهم، لتقليص مسافات الغياب بيننا وبينهم، إلّا أنّ بعض الصُور إلى الآن لا نستطيعُ النظر إليها، لأنّ شخوصهم الحقيقية في الوجدان، إنها صورةُ أبي وأختي رحمهم الله.