"شيءٌ واحد ينقص هذه الوحشة" جديد الكاتب عبدالله حبيب
صدر قبل أيام عن دار "روايات" في الشارقة كتاب جديد للأديب والسينمائي العماني عبدالله حبيب بعنوان "شيءٌ واحدٌ ينقص هذه الوحشة: شذرات، تأملات نصوص"، يواصل فيه تجربته الفريدة في كتابة الشذرات التي بدأها في كتابه "تشظيات أشكال ومضامين: عنوان مبدئي في أحسن الأحوال وأسوأها" الصادر عن مؤسسة الانتشار العربي في بيروت عام 2009 ، ثم تواصلت بعد ذلك في كتابه "كثيرة جدًّا هذه اليابسة" الصادر عن دار روايات أيضا عام 2023.
يهدي عبدالله حبيب كتابه الجديد إلى ذكرى الباحث صلاح قاسم البَنَّا "الذي كان يناطح أبراج المدن بالكتب، والذِّكريات، والأحلام، ثمَّ ذهب نبيلاً ووحيداً في المشاريع"، وجمع فيه 999 شذرة موزّعة بين همومه الخاصة وأسئلته عن الشأن العام. هذه الشذرات تتضمن تأملات فكرية ومواقف سياسية وثقافية، وتمتدّ أيضًا إلى تفاصيل حياتية تبدو عابرة للوهلة الأولى، لكنها تكشف عن ملامح عميقة من شخصية الكاتب. ففي بعضها يحضر البحر الذي نشأ بقربه في قريته"مجز الصغرى"، وفي أخرى تتجلى علاقته بالسينما التي كرّس لها جانبًا كبيرًا من مسيرته، وأسفرت حتى اليوم عن ستة أفلام قصيرة، وثلاثة كتب في النقد السينمائي هي "مساءلات سينمائية"، و"حيث الليل أكثر من غياب الشمس"، و"لورَنس العَرَب والأموات"، إضافة إلى ترجمته لكتاب "ملاحظات في السينماتوغرافيا" للسينمائي الفرنسي روبير بريسون. بينما تعكس شذرات أخرى مرارات الغربة وذكريات البيوت القديمة، أو لقطات صغيرة من أحاديث يومية مع أصدقاء ورفاق. يكتب عبدالله حبيب عن ترحلاته في المكان والزمان، عن حوارات قصيرة استوقفتْه في أماكن عامة، أو عن مشاهد إنسانية عابرة التقطها من الشارع، ويمنح هذه المشاهد أبعادًا وجوديّة تضاهي في قوتها نصوصًا مطوّلة. ما يميّز هذه المجموعة أنّها تنقل القارئ بين محطات متباينة: من نقد الواقع الثقافي والسياسي، إلى بوح شخصي حول الصحة أو العائلة أو الحنين. وهكذا يشكّل الكتاب بانوراما من الشذرات التي تحاول الإمساك بتفاصيل اليومي، والتقاط اللمعان الخاطف في الحياة، ليغدو أشبه بسيرة غير مكتملة للكاتب، مرسومة بخطوط متقطعة لكنها بالغة الدلالة.
في حوار معه على قناة عُمان الثقافية للبرنامج التلفزيوني "ضفاف" فرَّقَ عبدالله حبيب بين نوعين من الشذرات: الشذرات الموجزة القصيرة جدًّا (fragment) والشذرات الموسعة أكثر (aphorism)، قائلا إن الشذرات لا تزال تشكل النقطة العمياء في الدراسات الأدبية الحديثة، فخلال الأربعين سنة الماضية صدر بالكاد أربعة أو خمسة كتب عن هذا المجال. وعن أسباب لجوئه لكتابة الشذرات كما هو ملاحظ في السنوات الأخيرة خلال عموده الأسبوعي في جريدة عُمان "أنساغ"، أوضح عبدالله حبيب أنه يعيش حياة محدودة للغاية، فهو شخص صامت تقريبا، وقليل الحديث، وليس في حياته أشخاص كثر، وبعد تقاعده من العمل تمر عليه أحيانًا أيام بلياليها لا يخرج فيها من شقته، كما أنه يخشى الحشود الذين يعرّفهم المخرج الإسباني لويس بونويل (أحد الحاضرين في كتابه الجديد) بأنهم "وجود أكثر من شخص واحد في المكان"، وهذا النوع من الحياة المحدودة جدا التي يعيشها يُنتِج ذلك النوع من الكتابة القصيرة المكثفة، فليس بها ثرثرة كبيرة ولا أشخاص كثر. ورغم أنه يكتب هذين النوعين من الشذرات (القصيرة والموسعة) إلا أنه في الفترة الأخيرة لم يحفل كثيرا بالشذرة الموسعة في سبيل كتابة الشذرة القصيرة الرائقة، كما يقول.
جدير بالذكر أن هذا هو الكتاب العشرون في مسيرة عبدالله حبيب، فله أيضًا – عدا الكتب التي سبق ذكرها – العديد من الكتب التي تتوزع بين اليوميات والرسائل والشهادات والنصوص الشعرية والقصصية، بما يعكس تعدّد مساراته الإبداعية وتجدّد اهتماماته عبر السنين. وهذه الكتب هي (من الأحدث إلى الأقدم): "وجهٌ صغيرٌ يتكدَّس في كل ظهيرة"، و"مفاتيح ضئيلة، سماوات واسعة"، و"كما البحر يمحو"، و"أنامل زغبى على عزلة الشاهدة"، و"قنديل بعيد عن الشمس"، و"الفراغ الأبيض الذي سيلي، رسائل: الجزء الأول"، و"فاطمه"، و"صخرة عند المصب"، و"رحيل"، و"فراق بعده حتوف"، و"ليلميات"، و"قشة البحر"، و"صورة معلقة على الليل". كما شارك الكاتب سعيد سلطان الهاشمي تحرير كتاب عن صديقهما الشاعر الإماراتي الراحل أحمد راشد ثاني حمل عنوان "يوم طار شل السمر كله".
من أجواء "شيء واحد ينقص هذه الوحشة"؛ الكتاب الجديد لعبدالله حبيب اخترنا هذه الشذرة:
"الحُبُّ افتقار. سيكون فقيراً أكثر بمجرَّد تحقُّقه (وهذا تقريباً من كلام المسلسلات التلفزيونيَّة)، سيصبح بعيداً في القرب (في الأفلام السِّينمائية، هذه المرَّة)، سيمسي خيطاً في المطر، سيغدو صينيَّة نار في الذِّكريات، سيمسي كأساً نصف مليء في الباقي، وسيكون قبراً معشباً في الأثر.
الحُبُّ افتقارٌ لأنه أقام الزَّمن دوماً على مَلَكَة ضعف السَّمع واللامبالاة بكل ما هو بعد ذلك.
تعالوا، تقريباً، ننسَ أن ذلك يحدث لنا".
