شعراء عمانيون كتبوا في مقام المديح النبوي
06 سبتمبر 2025
06 سبتمبر 2025
محمد بن سليمان الحضرمي -
نظم الشعراء العمانيون كغيرهم من الشعراء العرب، قصائد كثيرة في مقام المديح النبوي، يمكن وصفها بأنها أشبه بقلائد النور، ومن أكثر التجارب حُضورًا وحظوة في الذاكرة الشعرية العمانية القديمة، تجربة الشاعر أبو حمزة سالم بن غسان الخروصي (ق: 10هـ)، والمعروف بلقب اللوَّاح، وفي ديوانه المطبوع في جزأين عام 1989م، عن وزارة التراث القومي والثقافة، يتحفنا بقصائد في المديحين الإلهي والنبوي، واختص كذلك بمديح الكعبة الشريفة، معبِّرًا عنها برمز «ليلى الشريفة»، كهذا البيت: (إلى ليلى الشَّريفَةِ حَنَّ قلبِي وَأنَّى لِي على البُعْدِ اللقاءُ)، وقوله: (سأرتَكِبُ الخُطوبَ لِوَصْلِ ليْلى فمَا يَخْشَى أخُو العَزْمَاتِ خَطْبا)، (حَمَلنا يا رَسُولَ اللهِ مَدْحًا إليكَ وَحامِلينَ إليكَ ذَنْبا).
وتبلغ قصائد اللواح الخروصي في مقام المديح النبوي 16 قصيدة، يبدأها ببراعة استهلال عاشقة، من ذلك قوله: (عَذابُ الهَوَى في قلبِ مَنْ رَامَهُ عَذْبُ وَحَوْبُ حَبيبِ النَّفسِ يَسْترُهُ الحُبُّ)، حتى يبلغ شأوه ومبتغاه في مقام المديح: (وإني بحَبلِ المُصْطفى مُتَمَسِّكٌ فَحَاشا رَسُولَ اللهِ أنْ يَقَعَ الجَدْبُ)، (أقلِّبُ خَدِّي فوْقَ تُرْبَةِ قبْرِهِ - وَقَدْ سَاعَدانِي الدَّمْعُ فانهَلَّ وَالقلبُ)، وما أجمل بيته هذا الذي يصف فيه بلغة صوفية ندية، أنه شمعة العشاق: (أنا شَمْعَةُ العُشَّاقِ في نارِ الهَوَى وَأرَى الهَوَى فوقَ اللهيبِ أذابَنِي).
وبعض قصائد المديح جاء على شاكلة «نهج البُرْدَة»، لناظمها شهاب الدين البوصيري (ت: 696هـ)، التي ألهبت مهج الشعراء العرب، بين من يكتب على نهجها قصيدة أخرى، تشاكلها وتعارضها على الذات الرَّويِّ والقافية، وبين من يتفنَّن في تخميسها وتشطيرها، ويجد في ذلك لذة شعرية، حتى أن عبدالله الخليلي (ت: 2000م)، خصص لها ديوانًا شعريًا أسماه «المُجتليات»، صدر مطبوعًا ضمن «الموسوعة الشعرية لأمير البيان»، شطَّر فيه قصيدة نهج البردة، وسمى تشطيره «رُوح البردة»، ثم خمَّسها على وجهين، حمل الوجه الأول اسم «نَفَسُ البُرْدة»، والثاني «أَرَجُ البُرْدَة»، مدفوعًا بعشق خاص للقصيدة البوصيرية، يعبِّر عن ذلك في تقديمه للمُجتليات بقوله: (إني عَلَقْتُ بِها، وانطويتُ على أحشائِها، لما بزَّني فيها من عناية ربَّانية، وما هزَّني عليها مِن سعادة رحمانيَّة، ينتهي مضمارُها إلى مدى لا يُشقُّ له غبار، ولا يُدركُ له مدار، ألا وهو الثناء والإطراء لخير الأنام).
وغير «المجتليات» المُشطَّرة والمُخمَّسة، فللشاعر الخليلي تجربة أخرى، تشكلت في مجموعة من القصائد، نشرها في باب المديح النبوي، بديوانه الأول «وحي العبقرية»، الصادر في طبعته الأولى عن وزارة التراث القومي والثقافة عام 1977م، في ذلك الباب نقرأ قصيدتان هما «مَجْلى الأنوار»، مطلعها: (آيُ حَقٍ بها اسْتنارَتْ ذُكاءُ رَسَمَتْها الأنْوارُ أنَّى تَشَاءُ)، (في صِحَافٍ مِنَ الهِدَايَةِ والرُّشْدِ عَليْها مِنَ الضِّيَا لَألاءُ)، وقصيدة «بين القبر والمنبر»، التي نظمها على شاكلة القصيدة البوصيرية، وتدخل في نمط المعارضات الشعرية، مطلعها: (بَيْنَ الرِّياضِ وَبَيْنَ الرُّوْحِ وَالنَّغَمِ حَقُّ الأبُوَّةِ فِي مَوْصُولةِ الرَّحِمِ)، (وَبَيْنَ مَضْجَعِ مَنْ أهْوَى وَمِنبَرِهِ رَوْضٌ مِنَ الخُلْدِ لمْ يًورِقْ وَلمْ يَقُمِ).
وتخاميس قصيدة البردة من الشعراء العمانيين، تعد قليلة قياسًا بالمعارضات والتخميسات التي كتبها الشعراء العرب على مر العصور، ومع ذلك لم تعدم التجربة الشعرية العمانية من الإسهام في هذا الجانب، جمعها الباحث مرشد بن محمد بن راشد الخصيبي (ت: 2012م)، في كتاب حمل عنوان: «البُرْدة وتخاميسها»، حصر فيه قصائد كتبها ثمانية من الشعراء العمانيين، وغير الخليلي نقرأ في هذا الكتاب تخميسات أخرى رائقة، لكل من الأدباء والشعراء خلفان بن محمد الرواحي، وسعيد بن خلف الخروصي، وسليمان بن مهنا الكندي، وعبدالمجيد بن محمد الأنصاري، ومحمد بن سعيد المخلدي، وناصر بن سالم الرَّواحي، وهلال بن سالم السيابي، يمثِّل الكتاب تجربة توثيقية مهمة، لتخاميس قصيدة البُرْدة أو «البَريئَة»، وهي تسمية أخرى تحملها هذه القصيدة التي سارت بها الرُّكبان، وشقَّت أستار الغيب منذ ثمانية قرون، وما تزال تنير دياجير الظلمات في الليالي الحوالك، كقمر يسطع بفتون في سماء المديح النبوي.
إن هذه التخاميس تؤكد على محبة هؤلاء الشعراء للقصيدة البوصيرية، فيما تجربة الشعر العماني، في قصائد المديح النبوي، تتجاوز هذا النظم المعارض، إلى كتابة قصائد خاصة بمقام المديح النبوي، وما سنذكره هو لضرب المثل فقط، كنماذج من التجربة الشعرية العمانية، وإلا فهي أكثر من أن تحصر في مقالة صغيرة، ويخطر على البال الشاعر أبو مسلم البهلاني (ت: 1920م)، ولهذا الشاعر الكثير ست قصائد في المديح النبوي، ولطول بعضها يمكن النظر إلى تجربته بعين الاجلال، منها قصيدته الرَّائية «الغوث السَّريع بالحبيب الشفيع»: (غَوْثَ الوُجُودِ أغثْنِي ضَاقَ مُصْطَبَرِي سِرُّ الوُجُودِ استلِمْنِي مِنْ يَدِ الخَطَرِ)، (نُورَ الوُجُودِ تدارَكنِي فقد عَمِيَتْ بَصِيرَتي في ظلامِ العَيْنِ وَالأثَرِ)، وعلى هذا الرتم الوديع، تسير نداءاته الشعرية، بين غوث الوجود، ونور الوجود، ورُوْح الوجود، ورَوْح الوجود، وأنس الوجود، وعين الوجود، وعز الوجود، بلغة صوفية مبللة بنسائم العشق النبوي.
وله قصيدة قصيرة تبلغ ثمانية أبيات: (ظُهورُكَ في أفْقِ الوَجُودِ كريمُ وَذِكرُكَ في الغَيْبِ القَدِيمِ قَدِيمُ)، (وَسِرُّكَ قبلَ الكوْنِ فِي الكُلِّ رَحْمَةٌ تَمَنَّى مَسِيحٌ خَطَّها وَكَلِيمُ)، وهو بهذا التبتل الشفيف، يضفي على تجربته خصوصية، فهو لم يقلد الشعراء في مديحهم النبوي، بكتابة المألوف والمعروف من سيرة النبي محمد صلى عليه وسلم، لكنه شاء أن يمثل أمام مقام النبوة بمديح، يُعلى من شأنه إلى مقامات عِرفانية عَليَّة، يقول مخاطبًا النبي الكريم: (وَجئْتَ وَأرْواحُ الوُجُودِ صَدِيَّةً إليكَ، وَرَوْضُ الصَّالِحاتِ هَشِيمُ)، (فآنَسَتِ الأرْواحُ مِنكَ رُوَاءَها وَفاحَ لِهاتِيكَ الرِّياضِ شَمِيمُ)، (فيَا مَدَدَ الأمْدادِ يا مُصْطفَى أفِضْ لنا مَدَدًا نَحْيا بهِ وَنَقُومُ).
ولم يقتصر أبو مسلم في مقام المديح النبوي على كتابة الشعر فقط، بل أتبعه بمحاولة نثرية في كتابة مولد نبوي، صدرت بعنوان «النشأة المحمَّدية»، لكنها ما تزال في أذهان القراء في طور النشأة فقط، وحضورها القرائي ضعيف قياسًا بنتاجه الشعري، أي أنها لم تدخل ضمن المتداول الشعبي، ولم يبلغ بها البهلاني ذلك الشأو الذي بلغت به تجربته الشعرية.
وفي سياق هذا الحديث، حول الشعراء العمانيين، الذين مثلوا بقصائدهم وقلائد أنوارهم، في مقام المديح النبوي، تبرق في الذاكرة أسماء عمانية أخرى، بدءًا بتجربة الشاعر الضرير راشد بن خميس الحبسي (حي في عام: 1150هـ)، فإن لهذا الشاعر قصائد في المديح النبوي تبلغ قرابة الثلاثين، وهو من الشعراء المقربين من بعض أئمة اليعاربة، فبدت تجربته في كتابة شعر المديح النبوي، أشبه بنجمات تلمع في فضاء مليء بالشهب، ومن أعذب أبياته في المديح النبوي قوله: (هَبَّتْ لنا ريحُ السُّرورِ نَسِيما فَشَفَتْ أسًى تحتَ الضُّلوعِ مُقيما)، حتى قال: (طابَتْ خواطِرُنا بها فكأنَّها صَهْبَاءُ كانَ مِزاجُها تسْنيما)، (تمَّتْ بذِكرِ محَمَّدٍ أزْكى الوَرَى حَسَبًا وكانَ نمِيمُها تعظيما).
ولم تسعف قريحة شيخ البيان محمد بن شيخان السالمي (ت: 1927م)، لكتابة الكثير من القصائد في المديح النبوي، على ما يمتلكه هذا الشاعر الكبير من بيان بلاغي لا يشق له غبار، ما سوى قصيدتين أشبه بشمعتين أنار بهما ديوانه، الصادر في طبعته الأولى عام 1979م، في مدينة عَمَّان بالأردن، القصيدة الأولى تتضمن 19 بيتًا مطلعها: (لِهَوَى الحِجَازِ بأفْقِ قلبي مَبْدَأُ فلِذا يَعُودُ لِيَ الغَرَامُ وَيَبْدَأُ)، والثانية لم تزد عن خمسة أبيات.
والحديث عن التجربة الشعرية العمانية في المديح النبوي، طويل وذو شجون، لا يمكن أن أفي حقها في مقالة محدودة المساحة، والنماذج الشعرية فيها كثيرة، وخير ما يعبِّر عنها، بيتان لابن شيخان السالمي بقوله: (كُلٌ بأودِيَةِ المَدِينَةِ مُغْرَمُ وَهَوَى ثرَاها في القلوبِ مُحَكَّمُ)، (تَتَجَمَّعُ المُهْجَاتُ مِنْ تِذكارِهِمْ لكنَّها في سُوحِها تَتقسَّمُ).
محمد الحضرمي كاتب عُماني
