زنجبار شخصيات وأحداث
زنجبار شخصيات وأحداث
ثقافة

زنجبار .. الفردوس المليء بالأسرار والحكايات السَّاحرة

18 يونيو 2022
أضاميم
18 يونيو 2022

لم تكن مجرد لوحة تشكيلية لقصر «بيت العَجائب»، تلك التي تلقاها جلالة السلطان هيثم بن طارق أدامه الله وأبقاه، هديَّة من رئيسة جمهورية تنزانيا المتحدة مساء الأحد الماضي، بل وكأنها أهدته القصر ذاته والتاريخ ذاته والحضارة العُمانية ذاتها، في مكانها الأفريقي الباذخ أبَّهة وجمالاً.

ولم تكن مجرد لوحة رسمها فنان أفريقي مشغوف بالحضارة العُمانية، في أوج ازدهارها المزهر، شرق وجهها المشرق، بل كانت عودة فنية إلى الأزمنة التي كانت فيها عُمان إمبراطورية عظيمة، واعتراف ضِمْنِي بحضارة عمانية، أشرقت على الشرق الآسيوي والافريقي، كالشمس تلقي بأشعتها على هذا العالم، المليء بالأسرار والحِكايات السَّاحِرة.

أظهرت اللوحة التفاصيل البارزة للقصر، بشرفاته العالية، وإطلالته المنيفة على البحر، كمَلاك يطل من شُرفات السَّماء، ونرى فيها صورة لقارب شراعي، وكأنه يلقي التحية على القصر الجميل، وفي اللوحة تتلوَّن الأشجار التي تحفُّ بالقصر، مصوِّرة لحالها في مختلف فصول السنة، فيما أغصانها تتأوَّد بالنسيم مع تماوج البحر، في هذه البقعة السَّاحلية، التي شهدت أحداثاً كثيرة لمجد عاشه العُمانيُّون، منذ بناء هذه التُّحفة المعمارية عام 1883م، في عهد السيد برغش بن سعيد (ت: 1888م)، ثاني سلاطين زنجبار.

لقد حركت هذه اللوحة الفنية الكثير من الشُّجون في داخلي، وما زلت أُسُّر في نفسي، أن زيارة هذا الفردوس الجميل، فرصة للتعرُّف على تلك الضفة الإفريقية، وكلما رأيت فيلماً تسجيلياً عنه، أو قرأت كتاباً يتناول لمحات من التاريخ العماني فيه، أجدني مشدُوهاً ومجذوباً إلى هذا المكان الأخضر، متذكراً أنَّ زنجبار كانت جنة العُمانيين، ولذلك أغلب من هاجروا إليها، عاشوا فيها عقوداً من السنين، بعد أن طابت لهم الحياة، وماذا يريد الإنسان غير أن يعيش حياة هانئة.

قبل أيام كنت أتبادل الحديث، مع الكاتب زاهر بن حارث المحروقي حول زنجبار، التي بناها العمانيون، وعمروها بالقصور والبيوت والمساجد، وفلحوا أراضيها، وأسهموا في تنشيط الحركة التجارية فيها، وهناك شخصيات عاشت أحداث الانقلاب، بتفاصيله الدقيقة الذي حدث في عام 1964م، وأصبحوا اليوم من كبار السن، وكثير منهم صاروا في ذمَّة الله، ومثل هؤلاء مصادر مهمة لكتابة سير غيريَّة، وبرحيلهم يضيع تاريخ إنساني مهم، وألفت النظر إلى أهمية تدوين المذكرات لتلكم الشخصيات، أو تدوين سيرهم من خلال الجلوس معهم، وتوثيق عصارة أفكارهم، أنموذجاً لذلك تلك المذكرات التي اعتنى بجمعها وتحريرها الباحث محمد بن عامر العيسري، عن سيف بن محمد الطوقي، وصدرت بعنوان: «سطور من صحائف العمر»، فهم ثروة من الذكريات المحفوظة في الوجدان.

ولا نغفل ذكر بعض من باحثينا وكتَّابنا، الذين ذهبوا إلى زيارة هذا الفردوس الجميل، منهم الأديب الشاعر محمد الحارثي (ت: 2018م)، كانت رحلته إلى زنجبار عام 1996م مصدر إلهام كتابي، وصفها في كتابه: «عين وجناح»، الكتاب الذي حصل على «جائزة ابن بطوطة للأدب الجغرافي» عام 2003م، بل إن زنجبار تسللت برشاقة إلى نصوصه الشعرية، كما في نص: «المقهى الطافي أمام بيت العجائب»، نشره في مجموعته: «أبعد من زنجبار»، ونص «رحلات صناديق الشاي والقرنفل بين سيلان وزنجبار»، المنشورة في مجموعته الأخيرة: «الناقة العمياء»، وأحسب أن تحقيقه للآثار الشعرية لأبي مسلم البهلاني، جاء بدافع خاص وسبب خفي من إقامة الشاعر في زنجبار.

وفي ديسمبر 2012م، التقيت بالناشر رياض الريِّس، فحدثني عن رحلته إلى زنجبار، التي كانت لأيام معدودة في شتاء 1997م، ودوَّن تفاصيلها المُدهشة في كتابه: «صَحافي ومدينتان: رحلة إلى سمرقند وزنجبار»، ولكن في زنجبار الكثير مما لم يُكتب عنه، فيها حياة الإنسان العُماني الذي عاش بين رياضِها ردحاً من الزمن، فالسلطان سعيد بن سلطان البوسعيدي (ت: 1273هـ/ 1856م) أدخل في أرضها زراعة القرنفل، لتصبح مصدر خير وفير للمجتمع الفقير، والسلطان برغش بن سعيد (ت: 1305هـ/ 1888م) أدخل المطبعة الحديثة عام 1880م، ابتاعها من الآباء اليَسُوعيين في بيروت.

ومع دخول عام 1911م، صدرت الأعداد الأولى من صحيفة «النجاح»، بتحرير الشاعر أبو مسلم البهلاني (ت: 1920م)، هل نقول: إن عمان عرفت الصَّحافة في مهجرها الأفريقي مطلع القرن العشرين؟!، حتماً وبالتأكيد، وكنت في عام 2001م قد أعددت بحثاً بعنوان: «تجربة الصَّحافة العُمانية في زنجبار خلال النصف الأول من القرن العشرين»، ومن خلال لقاءاتي ببعض الباحثين العُمانيين، الذين ساندوني بتوفير المصادر والمراجع، كالدكتور محسن الكندي، وحينها كان يضع اللمسات الأخيرة لكتابه: «الصَّحافة العُمانية المُهاجرة»، ثم ترددي على ما عرف آنذاك الوقت بـ«غرفة عُمان» بمكتبة جامعة السلطان قابوس، وتصفحي فيها لأعداد «جريدة الفلق»، تعرَّفت على صحافة كانت تواكب الأحداث في عمان وزنجبار، وتنشر نصوصاً شعرية ومقالات لكتَّاب عمانيين.

وقد أحسنت الباحثة د. هدى الزدجالية صُنعاً، في الكتابة عن الأثر الثقافي والفكري للعمانيين في شرق أفريقيا، جامعة في كتابها ما يتعلق بذلك الأثر، خلال قرن من الزمان: (1870 – 1970م)، مستفيدة من مئات المصادر والمراجع التي احتشدت في دراستها.

وكذلك للكاتب سعود بن علي الحارثي، كتاب يسرد فيه تفاصيل رحلة، قام بها إلى بلدان السَّواحل، ويسلط ضوء الكتابة على بعض ما أوجده العمانيون قديماً وحديثاً فيها، ووثق في الكتاب مشاهداته في تلك الرحلة، بأسلوب سلس، حمل الكتاب عنوان: «من زنجبار إلى دار السَّلام»، وإلى جانب المادة المكتوبة، اختتم الكتاب بملحق للوثائق والصور الضوئية، والمكاتبات والرسائل الخطية، وهي برأيي أجمل ما يتفرَّد به الكتاب.

لكن الدراسة التي تناولت دور العُمانيين، وتحدثت عن أهم الشخصيات المؤثرة في الوجدان المجتمعي في زنجبار، هي برأيي التي أنجزها الباحث ناصر بن عبدالله الريامي، وصدرت بعنوان: «زنجبار شخصيات وأحداث 1827 – 1972م»، لأنه كتب عن معرفة ومعايشة وخبرة بالمجتمع في زنجبار وشغف معرفي، وفي هذا الكتاب قدَّم الريامي توثيقاً لـ30 شخصية مهمة ومؤثرة، في فصل عنوانه: (شخصيات عمانية خالدة)، وبالتأكيد هناك شخصيات أخرى ذكرت في ثناء فصول الكتاب، وأخرى تستحق أن يُخَلَّد دورها، وما يزال شرق أفريقيا مليئاً بالتراث الثقافي، والحكايات الإنسانية التي لم تُكتب بَعْد.

وفي زنجبار كما علمت من بعض الأصدقاء تراث فكري من المخطوطات والكتب التي ألَّفتها عقول عمانية، ونسختها أقلام عمانية، ولكن أين هي اليوم؟ أين ذهبت نفائس المخطوطات العمانية في زنجبار؟ لا أجد إجابة واضحة، ولعل ما سلم من الحرق والنهب محفوظ في المتاحف، ولعل بعضه تلقفته أيادي الباحثين، ولو على شكل مصوَّرات، ويقال: إن بعضه ينطبق عليه الآية الكريمة: (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) سورة يوسف، آية: 20.

زنجبار، الفردوس المَليء بالأسرار، كيف تخلَّى عنها الكتَّاب، ولم ييمموا شطرها؟، ولم تكن مزارهم الذي يستلهمون منه أفكارَهم، كيف لم نزر هذه البقعة الأفريقية الجميلة!، كيف لم نلتفت بجدية إلى التراث الفكري العُماني فيها، ولماذا ننتبه متأخرين، بعد غياب المخطوطات وضياع التراث، متناسين أن زنجبار أرض السَّلاطين، وأرض كبار الفقهاء؛ ناصر بن جاعد الخروصي، وأبي مسلم البهلاني؛ أرض النونية الحَماسية: (تلكَ البَوارِقُ حَادِيهنَّ مِرْنانُ)، وميمية الأشْواق: (مَعَاهِدُ تِذكاري سَقتكِ الغَمَائِمُ)، وأرض المؤرخ جمعة بن سعيد المغيري صاحب «جهينة الأخبار»، أرض المستكشف حمد بن محمد المرجبي «تيبوتيب»، أرض الصَّحافة العُمانية الأولى: النجاح والفلق والنهضة والمرشد، أرض الكتب التي طُبِعَت فيها؛ أجزاء من «قاموس الشريعة»، و«مختصر البسيوي» وغيرها من الكتب التي هي من نوادر ونفائس الكتب، وهي الأرض التي نشأ فيها سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي، وما يزال موصُولاً معها بحبل مودة وقربى ووشائج لا تنقطع، وهي أرض «المدينة الحجريَّة»، الحارة العُمانية بأزقتها الضيقة ومنازلها القديمة، أرض الأحلام الجميلة، للمهاجرين الباحثين في أرض الله، عن رزق وراحة ورفاه.