ثقافة

رواية "حكواتي الليل" بساطة السرد وحكايات الماضي يرويها رفيق شامي

10 نوفمبر 2023
10 نوفمبر 2023

اعتمد الكاتب السوري رفيق شامي واسمه الحقيقي "سهيل فاضل" على الحكاية "الحدوتة الطويلة" التي كان يتناقلها الناس بكل تشويق وبساطة ليكتب روايته "حكواتي الليل" باللغة الألمانية ويقدمها للمجتمع الغربي وكأنها من أحاديث الف ليلة وليلة.

وصلتنا الرواية مترجمة إلى العربية عبر المترجمة السورية رنا زحكا التي أجادت نقل الرواية "الحكايات" عن النسخة الإنكليزية، بطريقة شائقة لا تقل عن كاتبها بالتأكيد، رغم الوقوع في بعض الأخطاء التي لايمكن أن ينتبه لها القارئ العادي الذي ينغمس بالقراءة كون بعضها أخطاء إملائية أو طباعية وما شابه ذلك.

وللرواية قبل صدورها قصة شائقة أيضا لا تقل عن فصول الرواية الأربعة عشر التي جاءت تحت عناوين منفصلة على شكل فصول هي عبارة عن أسئلة ومنها انطلقت الحكايات الكثيرة دون أي مقدمة أو تمهيد يذكر.

فالروائي كتبها للقارئ الغربي أولا كما أسلفت، وقدم فيها تفاصيل كثيرة عن العوالم الدمشقية وعن الأماكن والتواريخ وعن الحالة الاجتماعية والعادات السلوكية وغيرها الكثير، وجاءت في 252 صفحة من القطع المتوسط، ولكن أي دار نشر ألمانية لم تقبل بهكذا تفاصيل وإيقاع الأصوات الصادرة منها إلى أن تبنتها دار نشر أخرى دون أي تغيير وصدرت عام 1989 ولاقت رواجاً واسعاً، ومن ثم ترجمت إلى 22 لغة أخرى وبيع منها حوالي مليوني نسخة في ذاك الوقت.

بالعودة للرواية التي جاءت ضمن إيقاع الحكايات التي يقدمها سارد متمكن وقادر على شد الانتباه بطريقة الحكواتي الذي يعرف كيف يشد المستمعين له، ويتوقف لالتقاط الأنفاس حيناً وتهدئة المستمعين له حيناً آخر.

حاول الكاتب من خلال الرواية تقديم المنمنمات الدمشقية بغالبية تفاصيلها، وأجاد في تقديم الوصف التعبيري الدقيق للمجتمع السوري وأن لم يكن بكل تفاصيله ففي معظمه، قدم الحارات الدمشقية بمسمياتها وأجواءها وعبق الحكايات التي تنبع من جدرانها وحاراتها القديمة وابوابها ونوافيرها وحجارتها وحتى سلوك أهلها، ورسمها بالكلمات كأنها لوحة آخاذة أو قطعة فسيفساء رائعة.

طيات الرواية كانت تحمل بعض النقد للواقع السوري حينذاك من نهاية الاحتلال الفرنسي إلى حيث زمن الانقلابات والفترة التي كانت أيام الوحدة بين سورية ومصر، وأشار لتأثير المطربة أم كلثوم على الشارع العربي "أحبها ملايين العرب الى درجة لم يجرؤ معها رئيس أي دولة بإلقاء أي خطاب في أمسية الخميس لأنه كان يعلم أن ليس هناك أي عربي واحد يستمع إليه" "ص 42".

كل هذا كان حاضرا من خلال ما قدمه من حكايات لفك الخرس الذي أصيب به بطل الرواية سليم العربجي" وكنيته مستمدة من صفة لمن يعمل على العربة، حيث كانت سائدة في ذلك الوقت للتنقل والسفر أيضا"، كان سليم أيضاً يجيد قص الحكايات بطريقة مشوقة جداً، ومن خلالها يجذب زبائنه المسافرين معه من بيروت إلى دمشق يستمع منهم ويحكي لهم، ولديه قدرة عجيبة على إنقاذ طائر السنونو من الموت عندما يقع أرضاً.

وعندما أصبح لايقوى على الكلام بسبب "الجنية" نسبة إلى الجن، التي كانت تلهمه سرد القصص، بل وتعشقه، وقد كبرت في السن وعليها أن تتقاعد، وبذلك سيفقد العربجي صوته اذا لم ينفذ طلب ملك الجان ويستلم سبع هدايا فريدة من نوعها حتى ترافقه من جديد جنية أخرى تساعده في سرد القصص من جديد، وحتى ذلك الوقت كان مسموح له أن يحكي فقط 24 كلمة واذا لم ينفذ الشرط سيصبح اخرس فعلا..

جمع الشامي في روايته سبعة أشخاص كانوا أصدقاء العربجي وكلهم يتجاورون بالعمر عند العقد السابع تقريبا: علي الحداد، ومهدي معلم الجغرافيا، وموسى الحلاق، وفارس الوزير السابق، وتوما المغترب، ويونس القهوجي، وعصام الذي كان مسجوناً لذنب لم يرتكبه، وكانوا يجتمعون كل ليلة ومنذ سنوات مع بعضهم البعض.

وعندما توقف العربجي عن الحديث خوفا أن لا يفقد صوته وينطق بقية الكلمات "المهلة" تباحث الأصدقاء السبعة في أمر صديقهم، والبحث له عن حل يعيد له صوته ويخرجه من قصة الخرس التي حللها كل شخص بطريقته، كما أثارت غرابة كل أهل الحي، وفي النهاية قرر كل واحد منهم أن يحكي لسليم قصة غريبة جدا لعلها تستفزه ويعود للحكي أو تثير فيه الفزع كما كان يعتقد، على مبدأ "داوها بالتي كانت هي الداء" وتناوبوا على قص الحكايات، كل ليلة يقص احدهم قصته، وجاءت بطريقة غريبة وجميلة تداخل فيها الخيال مع الواقع ومع المعتقدات الشائعة حينذاك، ولكن في اليوم الأخير كانت المفاجأة عندما جاء دور علي الحداد الذي لايتقن أي حكايا فقرر أن يصحب معه زوجته الضليعة بالقصص الغريبة أن ترافقه وتحكي بدلا عنه، ووسط استغراب الحضور من مجيئها الغير اعتيادي حكت قصتها الغريبة جدا، التي جعلت سليم يصرخ "لم اسمع في حياتي كلها قصة كهذه، وقد خرج صوته الجهوري من أعماق روحه"، "ص 246" وتعالت الأصوات في الغرفة من أصدقاءه مبتهجين لعودة صوت سليم وكذلك فعل الجيران.

تقنية السرد تبدو هنا بسيطة جدا، ولا يوجد فيها تعقيد، وتأتي الحبكة مع كل قصة يرويها احد المتحدثين السبعة، بطريقته، ولم تخل الحكايات من سرد الكثير من الوقائع الحقيقية التي جرت حينذاك، واختلط الواقع بالخيال بالتاريخي بطريقة متقنة دون أن تفلت خيوط القص من يد الراوي الذي بدا مفتونا في نقل الواقع الدمشقي بكثير من تفاصيله في تلك الحقبة من الزمن ولم يمل أي تفصيل صغير في الأبنية والحارات وطقوس الناس وعاداتهم ومعاناتهم والوضع المادي في ملامسة ناعمة وشفيفة تدفع القارئ للبقاء ضمن الرواية حتى النهاية.

اللغة الرشيقة في الوصف صاحبت الكثير من المشاهد التي تم حياكة المشاهد من خلالها وعبر غالبية الأحاديث التي تم التنقل مابينها برشاقة مترجمة أتقنت حرفتها جيدا.

النهاية المفرحة التي جاءت على لسان امرأة أجادت فن القص على عكس ما يعتقد بأن الحكواتية هم الأمهر في السرد عبر ماهو متداول ولكن رفيق الشامي أراد للنهاية السعيدة أن تكون عبر المرأة، ليثبت أنها تملك فن السرد وكذلك مفاتيح الحلول.

يبدو أنني تأخرت كثيرا في قراءة رواية من روايات الروائي السوري رفيق شامي الذي يكتب أعماله باللغة الألمانية، ومن ثم يتم ترجمتها للعربية عبر لغة أخرى. تأخري في الاطلاع على الرواية رغم أنني امتلكها بنسخة الكترونية، ولكنني آثرت أن أقرأها عبر الكتاب الورقي فوقعت بين يدي نسخة قديمة جدا منها، ورائحة الورق الأصفر الرديء الذي تمت الطباعة عليه كادت أن تسبب لي مشكلة تنفسية، ولكنني آثرت المتابعة فيها، فمنذ زمن لم تلامس أصابعي كتاب ورقي، وكنت سعيدا بهذه الرواية التي طبعت عام 2011 عن منشورات الجمل في بيروت.