رمزية «العِجْل» في الرسوم الصخرية بوصفه مقدَّسا
محمد بن سليمان الحضرمي -
لم يحظ حيوان آخر بمثل ما حظي به «العِجْل»، من رمزية بلغت حد التقديس، وهي رمزية يمكن فهمها أن الانسان حاول منذ أزمنة بعيدة، أن يوجد علاقة مع هذا الكائن البري، حتى استطاع ترويضه وإدخاله بيته، وإسكانه في وجدانه الديني، وهذا ما توحي به الرُّسومات الصَّخرية في الكهوف والجبال، التي تبدو أشبه بوثائق ورسائل، وصلتنا من الرَّعيل الأول للإنسان البدائي القديم، لقد امَّحى ذلك العالم البشري المجهول، عدا ما تركه من رُسُوم في ألواح الصَّخر، ووشْم يلوح على ظاهر الحَجَر.
نفهم هذه الرمزية بوضوح، كلما أمعنَّا النظر فيها بعين التأمل والتفكر، بوصف «العِجْلِ» كائنًا مقدسًا لدى الشعوب البدائية، فإذا ما بحثنا عنه في القرآن الكريم، نجده حاضرًا في آيات كثيرة وبصور مختلفة، بدءًا بأمِّه «البَقَرَة»، التي أحيا الله بها الموتى، بعد أسئلة حائرة من قوم موسى، وبحثهم في تفاصيل التفاصيل، ذلك الجنس البشري التائه في الحياة، والمشهور بالتعنُّت والكِبْر والجدل العقيم، وقصة البقرة شاهد على ذلك، خلَّد ذكرها القرآن في سبع آيات متتاليات، من الآية رقم 67 وحتى الآية رقم 73 من سورة البقرة، وهي أطول سورة في القرآن، وكشفت تلك الأسئلة الحوارية في نهاية القصة، عن لوحة فنية ارتسمت فيها صورة البقرة، بلون مبهر يسرُّ الناظر: (بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) [البقرة/69].
ونقرأ مفردة «العِجْل» في أكثر من آية قرآنية كريمة، تتناول جانبًا من قصة نبي الله إبراهيم عليه السلام، وتقديمه العجل لضيوفه، فمرة نراه عجلًا «حَنِيذًا»، كما في الآية: (فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذ)[هود:69]، يقول الزمخشري في تفسيره «الكشَّاف»: (فما لبث في المجيء به بل عجَّل فيه، أو فما لبث مجيئه، والعِجْل ولد البقرة، وكان مال ابرهيم عليه السلام البَقَر، و«حَنِيذ» مشوي بالرَّضف في أخدود، أي على حجارة مُحمَّاة، وقيل حنيذ يقطر دسمه).
ومرَّة نراه عِجْلا سَمِينًا، كما في الآية رقم 26 من سورة الذاريات: (فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ) [الذاريات:26]، وهي رمزية واضحة لذات القصة، على إسباغ الكرم من سيدنا إبراهيم على ضيوفه الكرام، أنْ ذبح عِجْلًا سمينا، وقدم لحمه مشويًا على الحجارة، ألا تعطي هذه الحادثة صفة يتميز بها العجل دون غيره، حين يُقدَّم لحمه مشويًا، في مائدة يجتمع حولها نبي وملائكة؟
ونرى العجل بصورة أكثر ككائن مقدَّس، في كثير من الآيات القرآنية، التي خلدت قصة سيدنا موسى عليه السلام، حين اتخذ قومه العِجْل، بعد غيابه أربعين ليلة، في رحلة مواعدة التكليم والمناداة والمناجاة، التي تشرَّف بها كليم الله في الجانب الأيمن من جبل الطور بسيناء: (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ) [البقرة/51]، (وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا) [مريم/52]، وورد ذكر العِجْل تصريحًا في عشر آيات، احتوتها ست سور، وهي: البقرة والنساء، والأعراف وهود وطه والذاريات.
بل إن العِجْل هو الحيوان الوحيد الذي ذُكِر صوته في القرآن الكريم وهو «الخُوَار» في آيتين، الأولى في سورة الأعراف: (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لهُ خُوَارٌ) [الأعراف/148]، والثانية في سورة طه: (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ) [طه/88]، والغريب أن قوم موسى سَبَكوا هذا العِجْل من حليِّهم النفيسة، فكان ذلك الصوت الذي يخرج من جوفه المعدني، كلما تشبَّع بالهواء، أشبه بخُوار العِجْل الحي، ومن رمزية الوصف لهذا العِجْل، نفهم أنهم سبكوا تحفة فنية بلغت غاية الاتقان، وما كان أمامهم بعد أن وقعوا في غواية صوت الخُوار وبريق الحُلي، إلا أن أضلَّهم «السَّامِري»، واتخذوه إلها يُعبَد.
في دراسة منشورة لكاتبها وليَم نظير بعنوان «الثروة الحيوانية عند قدماء المصريين»، تناول فيها «الحيوان في الفن المصري القديم»، من بينها تمثال البقرة «حَتْحُور»، عُثِرَ عليه في معبد الملكة «حتشبسوت» بالدير البحري بطيبة، محفوظ في المتحف المصري بالقاهرة، يصفه المؤلف وصفا شعريا بأنه يمثل البقرة المصرية، بعيونها الحالمة ونظرتها الغامضة.
ويكتب نظير في دراسته هذه: يعد تمثال البقرة «حَتْحُور» أحسن قطعة فنية من تماثيل الحيوان، ويلاحظ وجود تمثالين لطفلين، أحدهما يقف تحت رأس البقرة، يُظَن أنه للملك تحتمس الثالث، والآخر جاثيًا يرضع من ضرعها، وقد لُوِّن التمثال باللون الأسود، رمزًا لفقد الحياة، فلما رضع الملك من لبن البقرة، عادت إليه الحياة مرة أخرى، وجرى الدم في جسمه، فانقلب إلى اللون الأحمر.
وفي أرض الواقع، تتلوَّن الصخور النابتة في بطون الأودية، وفي سفوح الجبال وداخل جدران الكهوف، بالكثير من الرسوم المنقوشة ببراعة لكائنات حية، حاول الانسان أن يتعايش معها، كالإبل والأحصنة والوعول والظِّباء وغيرها، نراها في رسومات محفورة في صفحات الصخور ومن بينها رسومات للعِجْل أو الثور، فيظهر مرة مكتنزًا باللحم والشَّحم، ومرة أخرى بقرون طويلة، وتظهر بعض تلك الرسوم للعجول محفورة في الصَّخر على شكل نقط، تبدو أشبه بنجوم خافتة، وكأنها انعكاس لمجموعة «كوكبة الثور» في السماء، وهو عنقود نجمي مزهر، يعرف باسم الثريا أو الشقيقات السَّبع، وكذلك تخيل المصريون السماء على شكل بقرة، ترتكز على الأرض بقوائمها الأربعة، فقد رأوا السماء تحنو على الأرض، وتظلها برحمتها، وتدر لها أحلاب الرزق، وهذه الإشارة بنصها وردت في الكتاب السابق.
ومن أجمل الرسوم المحفورة في الصخر، تلك التي رأيتها قريبًا من الصخرة المعروفة باسم «صخرة كولمان»، قرن رخامي مقبب، يقع أسفل «قرن كُدَم» الجبلي، أشبه بفنار في بحر الرمال، أو منارة تروي بروحانيتها سيح أجرد، إلا من أشجار السمر والغاف، وواحات النخيل لبعض القرى المتجاورة، بين أطراف بهلا وعتبات الحمراء، والأهالي يطلقون عليها اسم: «حصاة بن صلت»، وقريبًا من هذه الصخرة الشهيرة، تظهر جلاميد من الصخور الصلدة، كأنها بقايا مدينة مهجورة من زمن الأسلاف، نُقِشَت في إحداها رسمة عجل أو ثور بطريقة التنقيط، وكأنها كوكبة من الثريات، كتلك الذي يظهر تلألؤها في السماء، لعلها محاولة من الانسان ترويض هذا الكائن النفور، ولربما ارتقى به بعد ذلك، ليصبح كائنا مقدَّسًا، محفورًا في وجدانه الديني، هذه النقشة تشبه إلى حد كبير الثور المتوحش أو «بَيْزُون»، الذي عثر عليه مرسومًا في كهف بمدينة «التاميرا» في شمال اسبانيا، يعود إلى العصر الحجري القديم، ذكره ديورانت في موسوعته قصة الحضارة (الجزء الأول، ص165).
لكنه نظر إلى تلك الرسمة بوصفها فنًا خالصًا، يقول: ومن الجائز أنها رسوم لم يقصد بها إلا الفن الخالص، دفع إليها الابداع الفني، وما يصاحبه من لذة فنية خالصة، ذلك لأن أغلظ الرسوم كان يكفي لتحقيق غايات السحر، وفي كثير من الحالات بلغت هذه الصور حدًا من الرقة والقوة والمهارة، وهو محق في تحليله، فهي لوحات فنية لها دلالتها لدى نقَّاشها الأول.
وفي أمكنة أخرى من سهول عُمان، يظهر العِجْل أو الثور مرسومًا بوضوح، في وادي تنوف، وبلادسيت، ووادي عدي، وجبال قريات، أمكنة سحيقة سكنها الإنسان البدائي قبل آلاف السنين، وما تزال بصمته الفنية تظهر محفورة فيما تبقى من الصخور الناتئة في تلك الهضاب، إذ بعض منها تعرَّض للتجريف والتحجير، وما تبقى من تلك النقوش يؤكد أن لها رمزية لدى الانسان القديم، فلقد اهتم بها كثيرًا، وروَّض جماحها، وقهر نفورها، حتى أصبحت قريبة منه، يحرث بها الزرع، ويقدم لحمها وجبة دسمة لأهله وضيوفه.
ولا شك أن هذه الرُّسوم المحفورة على ألواح الصخور منذ آلاف السنين، تمثل لغة بصرية تقرأ تفاصيلها العيون، وترسل معانيها إلى الذائقة الفنية، لنفهم منها ذلك الارتباط الحميمي بين الانسان والحيوان، حين كان يرى الإنسان البدائي في هذا الحيوان النفور، ذي القرنين الحادَّين كائنًا مقدَّسًا.
