No Image
ثقافة

حياة شاعر

12 مارس 2024
12 مارس 2024

هل أنّ الشعراء (والفنانين بشكل عام) أناس شرسون، غير مرتبطين بأي شيء على الأرض، بما في ذلك الأفكار التي يطرحونها، أم أنهم أناس منطوون على أنفسهم لا علاقة لهم بالحياة التي يعيشون حقبتها، كما رسم ذلك ذات يوم ميلان كونديرا في روايته «الحياة في مكان آخر»؟ هل هم هكذا فعلا؟ أم أن الشعر طريقة في العيش، بمعنى أن الأمر برمته لا يزيد عن تصرفات منتقاة لإضفاء مزيد من هالة ما على سلوك الشاعر؟ وربما أيضا يمكننا القول إنه «العيش في الشعر» مثلما كتب ذات يوم الشاعر الفرنسي غيوفيك؟ توصيفات عديدة، لا بدّ أن تراود القارئ ويفكر فيها، مع مجموعة نصوص «حياة شاعر» للكاتب السويسري، الناطق بالألمانية، روبرت فالزر، الصادرة قبل فترة وجيزة (بترجمة فرنسية عن منشورات «زويه» في باريس) وتضم خمسة وعشرين نصا «مذهلا» حول جميع الجوانب التي تنطوي عليها حياة هذا «الشرس وغير المرتبط».

ولنستدرك سريعا: إنها ليست مجموعة من القصص القصيرة، ولا نصوصا شعرية، بل سلسلة من التعليقات التي كتبها فالزر استنادا إلى لقاءات عرفها بينما كان يسير وحيدا في أنحاء سويسرا. حين يكون الشاعر «في نزهة، يتوقف عند أشياء قليلة: بيرة في نُزل، شجرة ليأخذ قيلولة، صاحبة منزل ودودة. حتى أنه يتحدث إلى الموقد أو زر القميص»... لذا نحن أمام صفحات مليئة بـ«الخفة» ولكنها مشبعة بخيبات أمل «رجل لم تكن لديه ثقة في نفسه».

ومع ذلك، كانت شخصية فالزر شخصية مراوغة ومثابرة، تنطبق عليها شخصية الشاعر بامتياز. لذلك دعونا نتعمق في هذه القطع النثرية التي ألفها خلال الحرب العظمى (الحرب العالمية الأولى) وقدمها إلى ناشره في شهر مايو من سنة 1917. في ذلك العام، بدأ فالزر يعرف شهرة ما وقد اعتبر كاتبا صاحب صوت فريد وغريب الأطوار، «ورائع مثل صوت الفلوت». لم يكن معروفا من قبل في بلاده إذ قضى عدة سنوات في برلين، حيث نجح هناك بالدخول إلى العديد من الدوائر الأدبية والفنية الكبرى، وإن كان لم يحظ بالنجاح الذي عرفه شقيقه كارل، مصمم الديكور المسرحي.

في عام 1913، بدأت رحلة العودة إلى موطنه، إلى بيني، في برن. والسؤال الأول الذي واجهه، هل ستكون حياته بمثابة جردة حساب لحياته الماضية؟ من هنا بدأ فالزر في تصويب نظرته حول المدينة كما حول نفسه، وجهّها إلى ما هو في أعماقه، أي بعيدا عن النظرة الاجتماعية وقريبًا جدًا من هذه الطبيعة التي غذّته وشكلته.

قيل إن الشاعر كائن داخلي، لكنه كائن رث. يرتدي ثيابه بشكل سيئ. تيمة الملابس والمظهر المنحرف تتكرر باستمرار في نصوص الكتاب. في كلّ مكان يذهب إليه، يذكر فالزر ملابسه الرثّة، و«قبعته المستعرضة»؛ وفي كلّ مكان يُستقبل فيه، يتعرض لمآخذ عديدة. «ليس هناك أي معنى في الرغبة في الظهور بمظهر غريب وعجيب،» لذا يقول له ماكس دوثيندي (شاعر) الذي التقى به في فورتسبورغ، «هذه الملابس مناسبة للذهاب في نزهة على الأقدام في أركاديا». إلا أنه لم يصر على ذلك، لم يهتم، لم يلم نفسه. وبالتالي، فهو غير مبالٍ باللياقة و«الغندرة»، وليس مذنبًا جدًا بتنمية «جنس» مرتبط بمظهره لأنه كيانه. قال لخالته: «هذا التعديل الأصلي، كما ترين، هو جزء مني».

هل أن الملابس هي من تصنع الشاعر؟ أم تلك النظرة الغريبة الأطوار؟ الاستقلالية البادية للعيان؟ غياب الجمال أو الأناقة؟ ماذا لو كان الأمر مجرد كليشيه؟ أم أن ذلك كله هو من بقايا الرومانسية؟ عند فالزر، تهتز حرية خام، خشنة مثل الملابس المستعملة التي يعارضها المجتمع. حرية تتماشى مع حساسية شديدة ومؤلمة، يبدو أن الملابس تحميها. ولأن العالم يؤذيه: «لم أذهب أبدًا إلى المجتمع، أي حيث يلتقي العالم بمن يعتقد أنه العالم»، يكتب وهو يلجأ إلى منزل داخلي، حيث يتعايش مع الموت والكآبة السوداء. لقد عانى من هذه الكآبة منذ وقت مبكر جدًا في حياته. عاش حداد الحياة منذ أن عرف الطب النفسي الذي قضى يتعالج به طوال السنوات الثلاث والعشرين الأخيرة من وجوده. عندما يستقبله المكرمون، يغادر في تكتم لأنه يريد أن يكون «مبتذلا وعمليًا ومعقولًا». يبدو أن حياة الشاعر هي حياة عنيدة، كما يقول فالزر. مدفوعًا بنوع من العناد، لا يستطيع أن يفعل غير ذلك. حياة لا يستطيع أغنى راع أن يملأها.

حياة واحدة ولكنها متعددة، أو بالأحرى، خصبة. العديد من نصوص هذه المجموعة ترى المؤلف ينقسم على نفسه، يلتقي بنفسه، ويتحدث إلى زر قميصه، وموقده. «في يوم من الأيام، كانت هناك موهبة تقضي أيامها في غرفته»... هكذا يقدم نفسه. إنها حياة مزدوجة، ثلاثية... اقرأ «العامل»، فهو الأخ التوأم للشاعر.

يختبر الشاعر فالزر شكلا من أشكال الثبات المتحرك. يتقدم إلى الأمام، ويتبع طريقه. إنه ليس مسافرًا بسيطًا، بل «مسافر متجول»، وليس متجولًا بسيطًا، بل «متجول متشرد». هناك، في هذا التكرار، هذا التصميم، يلاحظ، يرى، يمتص السماوات، النغمات، الكائنات، الغيوم التي تنزلق مثل الأفكار، رمادية، عاصفة، مظلمة، عذراء فجأة ومضيئة.

كتب روبرت فالزر هذه الرسومات المجنونة، هذه الملاحظات المختصرة والمشرقة، بينما كانت الحرب العالمية الأولى مستعرة وبدأت في تدمير «عالم الأمس»، عندما ذهب الأدب مع الجنيّات. في بيته، يمتزج الأمراء والقلاع والعوسج والمتحولات مع التجريد، تمهيدًا للحداثة. لكن، في الحياة الواقعية، في التاريخ أو في زمن الخلافة، تم الانتقال على مراحل، تبعًا للعوامل العديدة التي تخلق عصرًا ونهايته وبداية آخر.

الرواة المختلفون لهذه النصوص المتعددة متشابهون بشكل غريب. إنهم ثرثارون لا يوصفون، ولهم «لسان حاد» وينغمسون في المناجاة، لأنهم بمفردهم معظم الوقت. وحتى لا يفسدوا المرح، فإنهم يتسمون بالوقاحة على نحو غير محترم، ولا يترددون في صدم أعضاء المجتمع الجيد، والأشخاص الشرفاء، بملاحظات غير لائقة. ماذا يفعلون بأيامهم؟ يمشون ويتجولون معظم الوقت، ويراقبون الطبيعة السويسرية الساحرة بحزن وعفوية. يكفي حقًا لإثارة سخط الأشخاص الأكثر احترامًا بيننا.

حياة شاعر، في نهاية المطاف، هي نقيض لما يسمى بالحياة «المعقولة»، نقيض للحبس البرجوازي، والمنافسة الرأسمالية والحربية «المحترمة» للغاية. إنها قراءة لأسلوب حياة وصلت إلى حكمتها الأخيرة. ألا تلخص هذه الجملة البسيطة لما أراد فالزر أن يعيشه؟ يقول: «أليس ضوء القمر سوى شيء يُقدم كل يوم للمتسول والأمير»؟

إسكندر حبش كاتب وصحفي من لبنان