No Image
ثقافة

حمدي أبوجليل كتب سيرة أمه ثم رحل إليها

20 أكتوبر 2023
امرأة حققت حلم الباشا محمد علي
20 أكتوبر 2023

لم يكن حمدي أبوجليل يعرف أنه سيموت مثل أبيه في السادسة والخمسين من عمره، لكنَّ تكرارَ الرحيل في العمر نفسه يُحيلُنا إلى فكرة «العود الأبدي»، فنحن مسجونون في دائرة، نورِّث الطاقة ونتوارثها، ما نلبث أن ننمو كنباتاتٍ هشَّة حتى يذرونا الفناء.

لم يكن حمدي يعلم وهو يدوِّن عمر أبيه في روايته الأخيرة «ديك أمي» -التي صدرت بعد وفاته بأيام- أن الجينات تقرر كل شيء بما فيه الموت.

عاش حمدي مشغولًا بنفسه وعائلته، محاولًا أن يفهم تلك التركيبة العجيبة للبدوي في صحراء مصر، إذ يتعامل مع الناس باعتباره ملك الملوك، مع أنه لو نظر أسفله سيرى قدمين حافيتين.

فقرٌ مع عزة نفس عالية، جوع مع شيم نبلاء، قرصنة مع أخلاق كبار العرب، وقد ساعده فهم هذه التناقضات في إبراز مقدرته الممتازة على «السخرية»، أو بتعبيره هو «الضحك»، لكن حمدي كان يبالغ في ذلك العنصر، أقصد «الضحك»، حتى يطغى على بقية العناصر، فيترك روايته غريبة، كأنها منبتَّة الأصل، وليست -كما كان يفخر دومًا- امتدادًا لنهر الرواية المصرية العظيم من منبعه نجيب محفوظ مرورًا بفروعه خيري شلبي وإبراهيم أصلان ومحمد مستجاب وصولًا إلى مصبِّه كتَّاب التسعينات ومن تلاهم.

كان يقول لي ساخرًا إنك تكتب وفق «نوتة» بينما يكتب هو على «كارتونة»، وقد كان محقًا، فأنا أفهم الكتابة كأنها أغنية، يلزمها أن يسير الكاتب -كما يفعل المغنِّي- على طبقة صوتٍ محددة، ولا يخرج عنها إلا بفهم، أما حمدي فقد كان يتحرك بكثيرٍ من العشوائية، قد يزعق فجأة، أو يضحك بلا انقطاع في وقت لا احتياج فيه إلى الضحك، وكنت أردُّ على سخريته قائلًا: «أنت تغني في أوركسترا مرتديًا بيجاما».

صاغ حمدي مقولاتٍ تخصُّه وآمن بها، فعرَّضته للانتقاد، وقللت من مقروءيته. كان يقول مثلًا: «اكتب بلغتك وسيسمعك العالم»، وهي عبارة يخاطب بها نفسه غالبًا وتعني: «اكتب بلهجتك البدوية وسيسمعك العالم».

وإذا كان التمسُّك باللهجة المحلية قد قلل من مقروئية (الرواية المصرية) عربيًا في السنوات الأخيرة، فما بالك بلهجة تخص منطقة صغيرة أو قبيلة؟ بالتالي بدت أعماله الأحدث مثل «الصاد الشين»، و«يدي الحجرية» صعبة القراءة، وحتى روايته الجديدة «ديك أمي» لم تخل من هذه اللهجة، إلا أنه حاول تقنينها، فوضَعَها بين أقواس حتى لا تختلط باللغة الفصيحة، كما أنه وضع هوامش لتفسير كلماتٍ يظن أنها غامضة، لكنه ترك في الوقت نفسه عشرات الكلمات الأخرى الأكثر غموضًا بدون تفسير.

بدا حمدي في سنواته الأخيرة كأنه يغرفُ من بحر، وأصدر العديد من الأعمال، لكنه للأسف لم يتوقف ليراجعها، أو ليراجع مقولاته، ولم يستمع إلى أصوات أصدقاءٍ نصحوه بأن يخفف من مغالاته في التمسك باللهجة المحلية، كما أنه بعد رواياتٍ متماسكة على مستوى الحبكة والبناء كـ«لصوص متقاعدون» سيطرت على أعماله حالة من الحكي بلا هدف، صحيح أنه مثلًا ناقش في «الصاد شين» ما لاقاه بطله، أو بالأحرى ما لاقاه هو شخصيًا، من أهوال في ليبيا ثم هروبه إلى أوروبا، إلا أن الرواية لم تتأمل بعمق مصائر بشر أجبرهم العوز الشديد على التضحية بأرواحهم في عرض الصحراء والبحر، واكتفت بسرد المواقف القاسية الضاحكة التي تعرَّض لها.

أما روايته الجديدة «ديك أمي»، فليست رواية إذا قسناها على أبسط شروط ذلك النوع الأدبي، إنما هي أقرب إلى مجموعة حكايات غير مترابطة، وغير ملضومة سوى بخيطين، هما خيط المكان (عزبة دانيال) وخيط الشخصية الأساسية وهي الأم، (أم حمدي) نفسها. وليس هناك هدف للرواية سوى تمجيد تلك الأم، أو كتابة سيرة خاصة لها، عبر نوع من التداعي البسيط، فبينما يحكي مثلًا عن بقرة أمه يتذكر حمارتها، فيكتب قصتها، وبينما يحكي عن حقل أمه يتذكر جيرانه الذين ينهبون كيزان ذرته وثماره، وبينما يتحدث عن أبيه أبوحامد عيسى وفشل مغامرته في الإسماعيلية وعودته خائبًا ثم استقراره خفيرًا لمدرسة «جمال عبدالناصر الابتدائية» في (الفيوم العاصمة) يتذكر الفنانة صباح وأنها كانت في طريقها لإحياء حفل في فندق الأوبرج -وهو منتجع أقيم خصيصًا للملك فاروق على بحيرة قارون- فعبرت به ثم اصطحبته في سيارتها الكاديلاك المكشوفة ليريها الفندق بنفسه بعد أن عاملها في البداية بنوع من الكبرياء لا يليق بوظيفته ولا بهيئته.. إلخ.

فصول العمل صغيرة جدًا، وعناوينها ملخِّصة لها، فالغيط غيط أمه، والبقرة بقرتها، والفرح فرح رقصت فيه، وليست هناك ذروة يبحث عنها العمل، ولذلك لا يمكن اعتباره رواية كلاسيكية، وليس هناك أي محاولة لوضع ما يشبه النسق، أو البناء، وهناك مشاكل ضخمة تتعلق بتحرير العمل، فبعض الحكايات مكررة بكلمات مختلفة، ومنها مثلًا حكاية يعود فيها الأب جوعانا ويبحث عن زوجته (أم حمدي) فيجدها تفلح الأرض ويستشيط غضبًا باعتبار أن نساء البدو محرم عليهن أن يشتغلن في الفلاحة، فماذا يقول الناس عن امرأة تشمِّر الجلباب عن ساقيها لتنثر البذور، أو تقطف الثمار، وماذا يقول الناس عن رجل يترك زوجته بمفردها في تلك الأرض الواسعة بدون حماية؟ يحمل الزوج قفَّة القطن بين يديه وينثرها فيعود القطن لوزًا كما كان وكأنه لم يُجمع، كما أن فصل «البقرة» ليس فيه أي كلمة عن البقرة، والعمل مليء بأخطاء نحوية وإملائية لا حصر لها، وإن كان حمدي قد سلَّم الدار العمل غير مكتمل فكان واجبها تحريره، وتنقيحه لغويًا، وإلا يبدو الأمر وكأنه استهانة به بعد رحيله.

أفضل ما يمكن فعله مع عمل حمدي «ديك أمي» هو قراءته بدون تصنيفه كرواية، وتجاهل مشاكله وأخطائه، يمكن قراءته ببساطة على أنه عمل عن عائلة حمدي وبالأخص عن أمه وما واجهته بمفردها، حتى تحفظ لنفسها وابنها آخر فدان من أرض زوجها، أو قراءته باعتباره مجموعة حكايات مترابطة تدور في مكان واحد، وهي حكايات تثبت مقدرة حمدي الفذة على الحكي، وعلى التشويق وجذب الانتباه، وعلى الإمتاع، وطبعًا على الإضحاك، يمكن قراءته كسيرةٍ ذاتيةٍ كتبها الابن للأم أو قراءته كعملٍ سردي يرصد علاقة حمدي بالأم، أو علاقة الاثنين بالأرض، أو علاقة البدو بالفِلاحة، يمكن قراءته من بدايته أو من منتصفه، أو من الخلف إلى الأمام، أو من أي نقطة تريدها، فلا فصل يترتَّب على آخر، وحذف فصل كامل لا يؤثر على سياق القراءة، إنما يخصم من الحكايات الكثيرة حكاية ممتعة، فتعالوا نستمتع معاً ببعضها..

يعود حمدي إلى الماضي ليذكِّرنا بما فعله أجداده. لم يكن البدو الرحل يعرفون قيمة الأرض، ولذلك واجهت خطة محمد علي باشا لتوطينهم ثغرة كبيرة، هي أنهم لا يحبون تملك الأراضي. كان كل منهم يعود إلى زوجته ليخبرها بفخر بالغ أنه «رفض أن يوقِّع على استلام قيراط واحد من أرض الحكومة»، كما «كانوا يبيعون الأراضي لأي سبب ويستبدلونها بأي حاجة. خروف العيد مثلًا كل سنة، أو العلاج»، ولذلك فإن دفاع أم حمدي المستميت عن الفدان الباقي من ميراث أبيه «أبوحامد» كان مدهشًا وغريبًا وسط قبيلة تكره الأراضي، وبذلك كانت أول بدوية تحقق للباشا محمد علي رغبته في توطين العربان.

ينحِّي حمدي أمه كثيرًا ليخبرنا بقصص فرعية، عن أشخاص غريبي الأطوار، فمثلًا يحكي عن علاقة قبيلته بالطب: (لما عرفوه سائلًا ومسحوقًا ومبرشمًا عاملوه أو تناولوه باعتباره علاجًا ومتعة، أي والله متعة، وأكاد أقول مشروبًا، أو «كيْفًا» يُقبل عليه الناس مرضى وأصحاء، وأي علاج يصلح لديهم لأي مرض، ولي جد من جدودي الأشاوس جُنَّ بالدواء، انفعل بالدواء لدى ظهوره بيننا حتى جُنَّ به، وعلَّق في رقبته طوقًا من زجاجات الدواء الفارغة، وفتح بمدخل بيته في أول العزبة صيدلية من فوارغ زجاجات وعلب الدواء، ورتَّبها بدقة، حسب الصنف واللون والمرض أيضًا).

يعود حمدي إلى أمه وعلاقتها بالأرض، يقول إنها قسمتها نصفين تفصل بينهما ترعة، في الشتاء تزرعها بالقمح والبرسيم، القمح للأسرة والبرسيم لبهائمها، أما المحاصيل الأخرى كالطماطم والبطيخ فلم تعرفها الأم وأدخلها حمدي إلى خطة الزراعة بعد أن كبر قليلًا، وفهم أن الأرض مثلنا قد تشعر بالملل من فرط التكرار.

يحكي حمدي عن سارقي الأرض، وهم رجال ونساء وأطفال عزبتين كاملتين لم يتوقفوا عن شن الغارات عليها ونهب محاصيلها، كانوا كذلك يتركون بهائمهم لترعى فيها، وكانت الأم تشكو أنهم لم يتركوا لها ولو بصلة واحدة. المدهش أنها فوجئت ذات يوم بشيخ البلد نفسه، بشحمه ولحمه، يقتلع كيزان الذرة، وخافت أن تفاجئه فربما يتطور الأمر ويستمع الناس إلى شجارهما ويأتون على صوتها ويتساءلون لماذا تقف مع رجلٍ غريبٍ وسط الزرع، فتتحول القصة من قصة سرقة إلى علاقة آثمة، ولذلك كظمت غيظها، لكنها لم تتركه في حاله. هجمت عليه في بيته وواجهته بالسرقة ولم تترك له فرصة للإنكار وحصلت منه على وعد بألا يقرب أرضها حتى يموت.

يخصص حمدي فصلًا لقصة زواج أمه وأبيه، بعد مطاردات من الأب ومعاملة جافة من الأم، ثم يتذكر أن الحياة ليست مجرد أشخاص وإنما هناك مكان كذلك، فيخصص الفصل التالي لبلده «بوطاحون» أو «عزبة دانيال» وعلاقتها بعزبة «الغرق» التي توقع جمال حمدان أن يهجرها الناس وتصبح أرضًا بورًا بسبب انخفاضها الشديد، لكنها على العكس تحولت إلى أكبر سوق في الفيوم.

كانت أمه تذهب إليها متخفية حتى لا يشاهدها العربان لتشتري وتبيع، لكنهم رأوها طبعًا، وبالتالي توقفت قليلًا عن زيارتها، قبل أن تقول لنفسها إنها لا تفعل شيئًا خاطئًا وتعود إلى تكرار الزيارة، ويتطرق حمدي أيضًا إلى العلاقة بين البدو والفلاحين، فالبدو يستأجرون الفلاحين للعمل في أراضيهم، إذ أنهم يأنفون العمل بأيديهم، ويعتبرون الفلاحين أقل منهم طبقيًا. يكتب حمدي: «السلطة في عزبتنا محسومة، البدو حكام والفلاحون محكومون والأمور مستقرة».

يتذكر حمدي دائمًا أن هناك شيئًا فاته، فيعود إليه. تحدث مثلًا من جديد عن وثيقة تمليك أمه الفدان، يحكي أنها خلعت عقدها ووضعته في يد الجدة «طامية» وضغطت على يدها بقوة فنزَّ الدم عليه، وصارت الوثيقة مدموغة بالدم، وبالتالي لا أحد يمكنه إنكار أن الفدان ملك لها..

يستمر حمدي أبوجليل في القفز من نقطة إلى نقطة، ومن زمن إلى زمن، ومن حكاية إلى حكاية، ومن شخصية إلى شخصية، لا يتوقف ليتأمل، وإنما يمضي بسرعة ليحكي، محاولًا أن ينتزع الضحكات منا، وطوال العمل لا ينسى أن الهدف هو تمجيد أمه، وردُّ الجميل إليها، وتحويل مفردات حياتها البسيطة إلى أسطورة. لم يكف طوال حياته عن ذكرها في جلساته وفي حواراته وفي تدويناته، ولعله آثر الرحيل مبكرًا ليذهب إليها ويريها ما فعله لأجلها.