No Image
ثقافة

جيمس بالدوين وعنصرية أمريكا

14 نوفمبر 2023
بين ضفتين
14 نوفمبر 2023

منذ سنوات قليلة ماضية، ثمة «ظاهرة» (إن جازت التسمية) بدأت تنتشر عند بعض دور النشر الفرنسية وتتمثل في إعادة ترجمة بعض الكتب، التي كانت أصدرتها من عقود، معللة ذلك بأن اللغة التي تُرجمت بها أصبحت قديمة، لذا ثمة ضرورة بتحديث لغة النص المنقول عبرها. فكرة تجعلنا نتذكر ما قاله الشاعر تي. أس. إليوت، بضرورة إعادة الترجمة كل عشر سنوات (وكان يتحدث عن الشعر يومها)؛ لأن هناك لغة مستعملة تموت، وتحل مكانها لغة جديدة.

لست هنا، في وارد مناقشة هذه الفكرة، بل أنها تطرأ على بالي وأنا أقرأ رواية الكاتب الأمريكي جيمس بالدوين «رباعي هارلم» التي تعيد منشورات «ستوك» (الفرنسية) ترجمتها ونشرها (المرة الأولى منذ خمسين سنة)، لتضيف إليها مقدمة جميلة كتبها الروائي الكونغولي -الفرنسي آلان مابانكو. يمكننا أن نضيف أيضا، أن ثمة اهتماما متزايدا اليوم بأدب بالدوين (1924 ــ 1987) وبخاصة في ظلّ بعض الاحتجاجات العنصرية التي أصابت الولايات المتحدة منذ سنوات. من هنا، قد تبدو قراءة بالدوين بمثابة «ضرورة» لفهم ذهنية التمييز العرقي التي لا تزال حاضرة في تلك البلاد، (وهو ما ينسحب أيضا على ما نشهده اليوم في العديد من أصقاع العالم). فإذا كانت رواية «رباعي هارلم» هي «واحدة من أجمل أغاني الأخوة والحب والرجاء والكفارة» (كما يقول مابانكو في مقدمته)، فإن منشورات «ستوك» تترجم أيضا كتاب «أنا لست زنجيك»، وهو كتاب غير مكتمل لبالدوين، إذ توفي بينما كان يعمل عليه، وقد تحول منذ سنوات قليلة إلى فيلم سينمائي، عرف ضجة بدوره، من حيث أنه يستعيد اغتيالات بعض القادة السود في أمريكا.

نحن إذن، أمام نصين مختلفين تمامًا، الأول عبارة عن رواية متقنة تشهد على تنوع موهبة بالدوين: حوارات ممتازة، شاعر رثائي، يبني حبكة رواية «كونية»، تشكل مرآة لنفسه ولأقرانه. بينما نجد في الكتاب الثاني مجموعة من الانطباعات والمشاهد الحقيقية والمراسلات والوثائق حول «ثلاثة سود قتلوا في ستينيات القرن الماضي». من هنا، نفهم ما قاله ذات يوم ليروي جونز (أميري بركة)، عن صديقه بالدوين بأنه «فم الرب الأسود الثوري»، لذا فإن قراءة النصين يسمح لنا بفهم توتر الكاتب الداخلي الذي يبدو في حالة من التأهب المستمر، على جميع الجبهات، وهو يخاطب الحشود والطلبة. كان بالدوين بدوره مناضلا شرسا على الرغم من أنه أيضا، يتأمل في نفسه.

في «رباعي هارلم»، التي نسير فيها برحلة مع أربعة مراهقين، في «هارلم» خمسينيات القرن الماضي، يقف جيمس بالدوين على أرض يألفها جيدا منذ ولادته، إذ قضى هناك طفولته بأكملها، في ذلك الحي الفقير في كنف عائلة معدمة وكبيرة. تزوجت والدته من قس، وأصبح هو نفسه، عندما كان مراهقًا، واعظًا لمدة ثلاث سنوات في كنيسة أخرى، بينما كان شقيقه ديفيد منشدا في جوقة في مجموعة إنجيلية.

يوفر هذا الإطار العائلي المألوف خلفية وشخصيات رباعي هارلم: جوليا، المُبشرة «الغريبة» التي كانت تلهب المؤمنين في أوقات الصلوات، جيمي، شقيقها الأصغر، الأخوان مونتانا، هول وآرثر، «إمبراطورا السول» (Soul)، المنشدان في حفلات موسيقية من أجل الإيمان، ولكن أيضًا من أجل الحقوق المدنية. ثلاثون سنة تنساب أمامنا في هذا العمل المليء بالحب والعنف ولمّ الشمل والهجر، إذ مع موت آرثر كان لا بدّ من تقديم «جردة حساب» عن حيوات كل هؤلاء.

هذا هو التحدي الذي تواجهه رواية بالدوين، الطموح في أن تعالج، تقنيًا، المكان والزمان، السخاء في طريقتها لإظهار الثراء الإنساني، والدفء، وسعة الحيلة، وروح الدعابة عند الشباب السود. صحيح أن ثمة الكثير من أبعاد السيرة الذاتية هنا لكن طريقة الكتابة هي التي تقنعنا، وهي ما يسميها الكاتب «اللغة السوداء» (التي دافع عنها في مقالة العام 1979 في مجلة «نيويورك تايمز»: «إذا لم تكن الإنجليزية السوداء لغة، فأخبرني ما هي اللغة»)، هذه اللغة التي تعبر عن مشاهد جميلة (وإن كانت صادمة في الواقع) مثل المثلية الجنسية وسفاح القربى، أجواء الحانات الليلية بأهوائها وعواطفها، لكن أيضا هناك مشاهد «الجغرافيا السياسية» التي نجدها مع الحرب الكورية، وبداية التحرر الإفريقي، وانسحاب فرنسا. ما من مثالية في معالجة ذلك كله: ثمة إعدامات خارج نطاق القانون في الجنوب، والجنون، والمخدرات (اللذان يشكلان الصديقين الوحيدين). من هنا يمكن القول إن الرواية تتغنى بالاحتفاء بالتجربة السوداء وتلخص حياة فنان وشاهد.

***

أثار فيلم «أنا لست زنجيك» حين صدوره العام 2017 «تعطشًا جديدًا لبالدوين، وفضولًا، ودافعًا، وحبًا لهذه الروح الغامرة التي تجسد الإنسانية، على حدّ تعبير راؤول بيك مخرج الفيلم (من هاييتي)، الذي عمل، في البداية، على مخطوط من حوالي ثلاثين صفحة يعود تاريخها إلى يونيو 1979، كان يحمل عنوان «ملاحظات لتذكر هذا البيت». وأي ذكريات! إنها حول الرجال الثلاثة الذين اغتيلوا في غضون خمس سنوات: مدغار إيفرز، 12 يونيو 1963، مالكولم إكس، 21 فبراير 1965، ومارتن لوثر كينغ، 4 أبريل 1968. قتلوا؛ لأن كل واحد منهم، وعلى طريقته، كان يناضل من أجل القضية السوداء، وقبل أن يبلغوا سن الأربعين. عندما تولى جيمس بالدوين مشروعه هذا، كان في الخامسة والخمسين من عمره، وكان يشعر بأنه الابن الأكبر المسؤول عن أخوته الصغار: لقد فهم أن الأرواح الثلاثة تجيب بعضها البعض وتكشف عن ذواتها، وتتصادم في تنوعها الاجتماعي.

كانت البداية خلال رحلة أولى قام بها إلى ولاية كارولينا الشمالية، وقد أثارته صورة ملصقة على أكشاك بيع الصحف، عائدة لدوروثي كاونتس، تلميذة سوداء تبلغ من العمر خمسة عشر عامًا، تتعرض للبصق والشتائم. «كان من الممكن قراءة الفخر والتوتر والألم الذي لا يوصف على وجه هذه الفتاة وهي تقترب من معبد المعرفة، وسخرية التاريخ خلفها». فيتذكر لقاءاته الأولى مع مالكولم إكس، الداعية المسلم، الذي بدا مثل «شعلة حارقة» بحسب البيض الذين كانوا يحضرون خطاباته، واتفاقه مع إيفرز الذي طلب منه مرافقته في تحقيقه في مقتل رجل أسود. كان الأمر محفوفا بالمخاطر؛ لأن مكتب التحقيقات الفيدرالي (إدغار هوفر) بدأ بمراقبة «المؤلف الزنجي» وكتابة التقارير: «المعلومات الاستخبارية التي تم جمعها تصور بوضوح الموضوع كفرد خطير، لذا يمكن توقع بعض الأعمال العدائية ضد الدفاع الوطني والأمن والعام في الولايات المتحدة خلال المواقف الحرجة. وبالتالي، لقد أضيف اسمه إلى ملف الأفراد المطلوب مراقبتهم». (18 ديسمبر 1964)

هذه «الملاحظات»، التي أصبحت نص فيلم «أنا لست زنجيك»، كانت الأخت الصغرى لجيمس بالدوين، غلوريا، قد سلمتها إلى راؤول بيك ليصنع منها فيلمه الوثائقي. فإذا كانت «رباعي هارلم» تشير إلى اتحاد الأخ والأخت في شبابهما، تأتي «ملاحظات» («أنا لست زنجيك»)، لتشير إلى اتحادهما مرة أخرى، بعد الوفاة. تماما مثلما فعلت الشاعرة مايا أنجيلو حين تحدثت في الجنازة، بمودة، عن أخيها، بينما قدمت توني موريسون احترامها الكبير للذي سبقها.

المفارقة في أن هذه العائلة السوداء الكبيرة، اجتمعت مرة أخرى حول نعش في جنازة.