ثقافة

ثوب فضفاض انحسر عن مهرجان عنوانه "الحرية"

18 أكتوبر 2023
المسرح في إستونيا
18 أكتوبر 2023

عندما دُعيت إلى "مهرجان الحرية" المسرحي في إستونيا في أواسط أغسطس من هذا العام، أثار فضولي أمران، أولهما إستونيا تلك البلد التي لم أزرها من قبل ولا أعرف عنها الكثير ناهيك عن المسرح فيها، كل معرفتي بها لا تتجاوز كونها إحدى الدول التي استقلت عن الاتحاد السوفييتي السابق، وثانيهما عنوان المهرجان، مهرجان الحرية، "Freedom Festival" ترى ما هي الحرية المقصودة هنا؟ حرية الفنان المسرحي وبالتالي حرية العرض المسرحي المُنْتج، أو الحرية بمعناها المطلق العام والمسرح مفردة منها أو يأتي في سياقها؟

عندما طرحت مثل هذا السؤال على أحد المنظمين للمهرجان، هيلين ماندي، "Helen Maandi"، أجابت: ببساطة إننا نعني كل ذلك وللضيف أو المتابع أن يبلور مفهوم الحرية الذي يريد أن يخرج به من المهرجان، الإجابة تركت الباب مواربا، ولكن مع توالي عروض المهرجان بدأ يفقد ذلك المفهوم المتسع للحرية أفقه الشاسع ليجعل بؤرة الحرية من بدايتها إلى منتهاها "أوكرانيا" أو الحرب على أوكرانيا، لاسيما في الجلسات الحوارية، فهو موضوع الساعة، ولقد احتل هذا الموضوع مساحة واسعة من جلسات النقاش اليومية ولكن تلك المساحة لم تخل من جدل أزعم أنني كنت مفتاحه الأول، إن لم يكن الوحيد، وسنأتي على ذلك في حديثنا عن العروض المسرحية.

هدوء وصخب على الحدود الروسية

لم يقم المهرجان في العاصمة "تالين" بل في مدينة "نرفا" وهي مدينة صغيرة نائية تقع على الحدود الروسية، وهنا أيضا دلالة أخرى لا تقل أهمية عن دلالة عنوان المهرجان، فـ "نرفا" لا يفصل بينها وبين روسيا إلا نهر فياض هو الحدود الرسمية، على كل ضفة منه دولة وقلعة وأعلام مختلفة وجها لوجه، ويربط بين الضفتين جسر، قلعة في بدايته في إستونيا تحمل عَلَمُها وقلعة أخرى في بدايته من جهة روسيا تحمل العَلَم الروسي... عندما تقف أسفل الجسر تجد نفسك أمام منظر رائع لافت للانتباه بين دولتين وعلمين، ها أنت ذا تقف على ضفة لتشاهد دولة أخرى بكل تفاصيلها الحياتية ببيوتها وأزقتها وحقولها على الضفة الأخرى بل وعندما تخرج في رحلة نهرية في "نهر نرفا" عليك أن تبقى في نصف النهر الخاص بإستونيا ولا تتجاوز نصف النهر الآخر المحاذي لروسيا أبدا، فتلك حدود جيوسياسية نهرية لا تخترق.

ولعل من المناظر المهمة التي تُرى كل يوم في هذه المدينة هي قوافل المشاة الذين ينتقلون عبر الجسر صباحا ومساء لزيارة أهاليهم في الضفة الأخرى ممن يحملون التصاريح، ولطالما تسمع الأهالي هنا والزوار يتحسرون على الأيام الخوالي عندما كانوا يعبرون إلى البر الروسي بسلاسة ويتجولون في روسيا حتى يصلوا إلى مدينة "بطرسبرج" على بعد ساعتين فقط.

مدينة "نرفا" محورها ضفة النهر، ووسط المدينة يمكن وصفه بأنه مختصر محدود، وهي مدينة رائعة للمشي، السيارات قليلة في شوارع فارهة ذات أرصفة متسعة، المشاة الجوالة هم سادة المدينة الذين تقف لهم السيارات بكل احترام متى شاؤوا العبور.

ورغم أن العمارات في المدينة تتسم بشكلها المصمت ذات الهيئة التكعيبية المتشابهة التي قد لا تستوقف الناظر إليها، إلا أن ما يلفت الانتباه بشدة مقاعد ثلاثية متقابلة أمام معظم أبواب العمارات لجلوس كبار السن والمُقْعَدين وبعض المُرْهَقين من المارة، وفي كثير من الأحيان عندما يكون الجو صحوا مشمسا تتحول هذه المقاعد إلى مجالس لتبادل حديث وحوار ومودة بين سكان العمارة مع بعضهم البعض بل ومع المارة أيضا.

السكان في هذه المدينة الحدودية معظمهم يتحدثون الروسية بما تصل نسبته إلى 90% منهم، وفي عموم إستونيا ربع السكان تقريبا ما زالوا يتحدثون الروسية رغم استقلال البلد منذ عام 1991، وعادة ما يتجنب الإستونيون التصريح عن تلك الحقائق اللغوية، ويمكن القول الثقافية، وإذا ما اضطروا إلى التصريح عنها فإنهم يصرحون بأسى واضح مبعثه إرث مرير وحاضر مستفز.

مدينة "نرفا" الهادئة الخلابة بنهرها ومناظرها الطبيعية وناسها البسطاء بدت وكأنها مدينة رومانسية من مدن أفلام ستينيات القرن الماضي، فكل ما حولك في المدينة يدعو إلى الاسترخاء والدعة والتأمل ولا يشي بأي حال من الأحوال بالصخب الذي سيكون عليه "مهرجان الحرية".

نعم العروض المسرحية في مهرجان الحرية كان لها مسار آخر، فقد تنوعت تنوعا لافتا من حيث الأطر والمواضيع، وإن ظلت تحوم حول موضوع الحرية بشكل أو آخر تقترب وتبتعد عنها بمساحة أو أخرى، ولعل صلة الربط الواضحة بين العروض في المهرجان أنها كلها قادمة من الدول المستقلة عن الاتحاد السوفييتي السابق سوى عرض واحد قدم من تشيلي من أمريكا اللاتينية فكان أيقونة المهرجان المُحتفى بها ما بين الدهشة والصدمة.

كانت القضية الأوكرانية محورا واضحا في المهرجان بمسرحيات مباشرة، إن لم نقل شديدة المباشرة، أو مسرحيات تكثر الإسقاطات على الحرب في أوكرانيا وعلى فظائع الاتحاد السوفييتي السابق باعتبار أن روسيا اليوم ما هي إلا وارثة ذلك الاتحاد الآفل.

ولا غرابة أيضا عندما حور بعض المتداخلين كل المسرحيات التي لا علاقة لها بأوكرانيا من قريب أو بعيد إلى معالجات ترثي أوكرانيا وتنبذ الدكتاتوريات المتعسفة الطاغية في إشارة إلى روسيا، ومثال ذلك مسرحية تتحدث عن معاناة اليهود تاريخيا في ظل العصر السوفييتي، أو معاناة دول آسيا الوسطى من طغيان الحكم السوفييتي الماضي وتدخلات روسيا الحالية والحكومات الموالية لها أو المتعاطفة معها أو السائرة وفق نهجها، بل حتى تلك المسرحية القادمة من تشيلي التي تتحدث عن دكتاتوريات أمريكا اللاتينية لم تسلم من التحوير.

عندما احتضن السفيرُ الوسادة الخالية!!!

إن الشحن العاطفي المتفاقم، وهو شحن مفهوم، يشغل المسرحيين الأوكرانيين وجمهورهم المتعاطف عن صيغ فنية يمتاز بها المسرح بعروضه ويرتقي بها عن الخطاب السياسي المباشر، وهي صيغ أبلغ دلالة وأوقع أثرا، وكنت أحسب أن مثل هذا الأمر البديهي محسوم الفهم فنيا لولا أن العاطفة الجياشة والمواقف الحادة طغت على كل بصيرة فنية حصيفة، فجاءت جلسات المناقشة جلها، إن لم نقل كلها، بصيغة واحدة ونبرة واحدة واتجاه واحد.

ولا نبالغ إن قلنا إن الخطاب النقدي الفني قد توارى لصالح الشكوى والأنين والخطاب السياسي المجتر من مراسلي الإذاعات والتلفزيونات الأوروبية، هذا في الجانب النقدي، ولكن من الإنصاف القول أيضا إن العديد من العروض حفلت بإبداعات مسرحية فائقة لم تأخذ حقها من المعالجة النقدية وتسليط الضوء عليها.

لا شك أن الأحداث الهائلة في أوكرانيا تحمل في طياتها رسائل بليغة إذا ما وظفت فنيا دون الحاجة إلى لهجة خطاب متشنجة، مثل ذلك ما قدم في مسرحية أوكرانية سابقة عندما اعتصم كاتب مسرحي تملكه الرعب في سفح جدار المسرح في كييف تحت إعلان يخبرنا أن المسرح مغلق إلى أجل غير مسمى.

هل نحتاج في مثل هذا المشهد إلى شرح وتفصيل وخطاب؟ وفي خضم الجلسات النقدية أو جلسات التعقيب تمت استضافة السفير الإستوني الذي كان متواجدا في كييف في بداية الحرب، فتحدث للجمهور عن حدث عفوي حصل معه، في يقيني لو وظف مسرحيا لكان أبلغ من ألف خطاب، عندما قال السفير في بداية الغزو الروسي تملكتني الصدمة، وصارت مشاعر مضطربة هستيرية تهيمن علي وعلى تصرفاتي، من تلك التصرفات احتضاني لوسادتي بكل ما أُتيت من قوة، وكأن الوسادة ستعصمني من كل شر آت، لم يكن لدي حيلة سواها، فظللت حاضنا لها طوال تلك الفترة العصيبة، أتساءل الآن هل فعلا الوسادة كانت هي الحامية لي من هول ما يحدث حولي؟ إن احتضان الوسادة قد يبدو حدثا تافها في الأحوال العادية، ولكن أن يأتي من شخصية كشخصية السفير في مثل تلك الظروف الاستثنائية يصبح الموضوع حدثا مسرحيا ذا دلالة فائقة يحمل كل الأبعاد الفنية الجمالية.

في المقالات التالية سنتحدث عن عدد من عروض المهرجان.