علي الأنصاري
علي الأنصاري
ثقافة

تراجع جمالية القصيدة الغنائية وسط اللامبالاة والاستسهال والأناركية.. (الوطنية أنموذجاً !)

05 ديسمبر 2021
05 ديسمبر 2021

من أين نبدأَ؟ دائماً ما نواجه هذا السؤال بتوجسات حائرة عندما نفكر في الكتابة أو النقاش أو حتى الحديث عن القضايا الجذمورية الشائكة، ونؤجل ما يتخمر في أذهاننا من أفكار متقاطعة، أو ننطلق دون تسمية الأشياء بمسمياتها، أو نخنق الشغف في داخلنا كحلٍ نهائي ليس من مصلحة أي أحد، وكل هذا على حساب هيمنة الفوضوية الداعمة للسطحية على الوضع العام وسيطرة التيار الواحد على الذوق الجمعي المُرغم في مساحة جغرافية معينة. لماذا أكتب هذه المقدمة؟! في آخر 10 سنوات، وفي مثل هذا التوقيت بالتحديد (بعد انتهاء موسم الإنتاج الفنّي والإبداعي الخاص بالمناسبات الوطنية)، أستطيع الجزم بأنني أخصص مساحة مناسبة من الوقت لمتابعة الأعمال الفنية التي طرحت على الساحة بـ «عين المُحلل» بعد أن تابعتها في المرة الأولى سريعاً بـ «عين المُتذوق»، ولأنَّ العمل الفني يتكوّن من عناصر كثيرة تتكامل فيما بينها ليخرج إلى المُتلقي بصورته النهائية متكئاً على الجانبين (البصري والسمعي)؛ فإنني سأركز في هذه المساحة على «كلمات» العمل فقط (القصيدة الغنائية كمحاولة لتقريب مفهوم ليس من السهل توصيفه)، لأنها الحلقة الأضعف والورقة التائهة طوال السنوات الماضية- بالنسبة لي على أقل تقدير- للكثير من الأسباب، أبرزها: لا مبالاة المُنْتِج، واستسهال الشاعر، وأناركية التقنية الحديثة (وبالتحديد التواصل الاجتماعي).

مسؤولية المنتج

من وجهة نظري الشخصية؛ أرى أن «مُنْتِج» العمل الفني (المنتج المجهول خصوصا) هو السبب الرئيسي فيما وصلت إليه القصيدة الغنائية (الفصحى والعامية) بصورة عامة والوطنية بصورة خاصة من التراجع في المستويات إلا ما ندر، أقول هذا من واقع تجربة عملي ومساهمتي في إنتاج مجموعة من الأعمال في فترة سابقة (في الجانب البصري فقط وليس الشعري)، حيث كان المُنْتِجون في «جميع» هذه الأعمال ينصب جل اهتمامهم قبل البدء على مكان التصوير، الشخصيات التي ستظهر في العمل، الفنان أو الفنانين، الملحن واللحن، استوديو التسجيل... وكل عناصر العمل تقريبا باستثناء اختيار الشاعر (كلمات العمل)، الذي يأتي في آخر الطابور الطويل غالباً ـ هذا إن لم يتم اختياره بعد بدء العمل- فكثيراً ما يحدث مؤخراً أن يقوم الملحن بتعليب مجموعة من الألحان «احتياطيا ـ وتجميدها في ثلاجته الفنية، ومتى ما طُلب إحداها، قام بإرسالها للشاعر كي يقوم بتركيب الكلمات عليها، تماماً كما هو الحال في ألعاب «البازل»!، وفي أحسن الأحوال، يقوم المنتج بصورة مباشرة أو عن طريق الملحن باختيار شاعر معين- وأحياناً يقوم الملحن بكتابة الكلمات بنفسه دون الرجوع لشاعر توفيراً لميزانية مشروع الجانب السمعي إن تم إسناده بأكمله للملحن ـ لكتابة كلمات العمل، ولكن للأسف أيضا لا يكون هذا الاختيار بناء على كفاءة الشاعر وجودة قصيدته وأعماله السابقة في هذا المجال... إلخ، وإنما لاعتبارات غير منطقية نابعة من اللامبالاة وإيمان المنتج بضرورة «الحضور» في الحدث فقط ومشاركة الآخرين على حساب «غياب» التميز والإجادة وتقديم عمل متكامل، فغالباً ما يتم الاستعانة بالشاعر (الأرخص) الذي سيرضى بالقليل من النقود مقابل ظهور اسمه لثانية واحدة في «التتر الأخير» على الرغم من وجود ميزانية كبيرة تصرف على عناصر هامشية في العمل، (الأسرع) الذي يخرج من ثوبه البشري ويتحول إلى برنامج حاسوبي بإمكانه تسليم الكلمات بأمر من المنتج وفي وقت قياسي بصرف النظر عن المحصّلة النهائية، «الأسهل» وهو المغمور عادة والذي يتخلى عن شاعريته وينصاع لرغبات أرباب العمل المبالغ بها في حياكة القصيدة، فيتقمص الشاعر في هذه الحالة دور «الخيّاط»، ويقوم بتفصيل الكلمات بناء على رغبات الآخرين، وليس لإيمان عميق بـ «المسخ» المكتوب الذي سيحاول أن يُلبِسَهُ للذوق العام، بالإضافة إلى اعتبارات أخرى أتعس يفرضها المنتجون بسبب عدم فهم أغلبهم للشعر ورسالته وماهيته (أو تذوقه على الأقل)، أو رغبتهم في استنساخ عمل تم إنتاجه في ظروف مختلفة تماماً، أو توجيه العمل بهدف إيصال رسالة (لشخص واحد/ فئة واحدة) دون الاكتراث بالآخرين، أو غطرسة المنتج المقيتة التي ينبغي أن لا تحاول المساس بها إذا أردت أن تمسك أتعابك في نهاية المطاف!

استسهال الشاعر

يبدأ الاستسهال بـ «قبول» الدخول في تجربة كتابة القصيدة الغنائية من أوّل «طلب مفاجئ» دون اشتغال سابق من الشاعر على كتابة هذا النوع من الجنس الأدبي أو التعمق في تفاصيله والاطلاع على تجارب مختلفة (تاريخية/ حالية، عربية/ أجنبية... إلخ) للإلمام به من جميع النواحي، وامتلاك المعارف والأدوات اللازمة التي تمكنه من تجويد ما يكتبه، ولن «يرفض» الشاعر- في الأغلب- الدعوة الموجهة له من «المُنْتِج» أو أي كان للمشاركة في العمل؛ لأن نرجسيته لا تسمح له بأن يقول "لا أعلم"، بل "تشيطن" بداخله فكرة البقاء في دائرة الأضواء واصطياد الأصداء وإضافة بند جديد في ملف سيرته الذاتية دون عناء، وفي الوقت نفسه حصوله على «مقابل مادي» لا يهم في هذه المرحلة التفاوض على مبلغ «وَقدره»، وفي اعتقادي ـ ومن خلال وجودي في الساحة الشعرية سواء كاتبا أو صحفيا ـ أن هذا الاستسهال نابع من تكريس الكثير من الشعراء صورة ذهنية خاطئة تكوّنت خلال السنوات الماضية عن الشعر/ الشاعر الغنائي، فعلى سبيل المثال وليس الحصر، عندما تسأل أحدهم ما رأيك بقصيدة «الشاعر الفلاني»، فيجيبك: تقصد «الشاعر الغنائي الفلاني»؟ وهذه الإجابة تحيلك إلى «تصنيف» غير رسمي تم وضعه في الخيال وبدأ الكثير منهم يعتمده في الواقع، ومفادها أن الشاعر الغنائي «غير مكتمل»، فهو يكتب في فصيل واحد من الشعر فقط، فيما نمخر نحن ـ كما يعتقدون ـ كل بحور الشعر وأنواعه وأغراضه، وسبب وجود هذه النظرة الدونية تتمثل في ندرة الشعراء الغنائيين البارزين والمتفردين في الساحة المحلية على عكس ما هو عليه الحال في الساحات الشعرية الأخرى، وفي الوقت ذاته تصدّر أسماء- لا علاقة لها بالشعر في معظم الأوقات- لمشهد القصيدة الغنائية (وتحسب عليه سواء أخفقت أو أوغلت في الإخفاق). ويستمر مسلسل استسهال الشاعر بعد «القبول» في صور ومشاهد مختلفة، فلو كان قد اكتفى بالشكل التقليدي الذي اعتاد عليه (القصيدة الكلاسيكية العمودية) لكان خيراً له وللآخرين، ولكن ستجده يحاول كتابة «المربوعة» أو «التفعيلة» أو يجمع بين هذا وذاك وطَرق أشكال جديدة لا يفقهها، أو يضطر ـ غير آسف ـ لاستخدام مصطلحات غير شاعرية ـ أو حتى غير عربية ـ تلبية لرغبة المنتج، (فعلى سبيل المثال: لو كانت الجهة المنتجة للعمل اقتصادية، فلا تستبعد سماع مصطلحات مثل: بورصة، أسهم، تداول، سعر الصرف... إلخ في الأغنية التي يفترض أن تكون خالصة لوجه الوطن)، أو تجد الشاعر الشعبي يكتب بالفصحى أو العكس أو يمازج بين الاثنين وهكذا دواليك، وأخيراً وليس آخرا ً، يصل الاستسهال ببعض الشعراء إلى حالة من الإسهال، والكتابة لأكثر من خمسة أعمال أو أكثر في وقت واحد ولغرض واحد، بالأفكار نفسها، والكلام المرصوف نفسه!

أناركية التقنية الحديثة

فاقمت اللاسلطوية على وسائل وقنوات الاتصال والتواصل الاجتماعي من أزمة تراجع جمالية القصيدة الغنائية (وبالتحديد الوطنية في ظل ندرة الإنتاج الفني في الأغراض الأخرى) بصورة مباشرة وغير مباشرة ـ بصرف النظر عن الجانب المشرق لهذه التقنية ومساهمتها الكبيرة في انتشار الأغنية الوطنية محليا وخارجيا ـ ففي الوقت الذي كانت فيه سابقاً تُبث الأعمال عبر قنوات تلفزيونية وإذاعية معينة، كان لا بد أن تمر القصيدة قبل تحويلها لعمل فني على لجنة رسمية معتمدة لتقويم ومراجعة نصوص الأغاني، وإن كان دور هذه اللجنة ضئيل ويقتصر غالبا على عدم تجاوز النص للتابوهات المتعارف عليها محلياً ويتجاهل غالبا جودة النص ومحتواه (لأسباب معلومة وغير معلومة)، إلا أن وجودها يشكل ضرورة نوعا ما كي لا تزداد القصيدة سوءا وتخلو حتى من البديهيات من جهة، وإحساس الكاتب/ة بوجود جهة مشرفة تدفعه إلى بذل المزيد من الجهد والاشتغال على القصيدة، أما حالياً، ومع ثورة التقنية والفضاء المفتوح؛ أصبحت كلمات الأغنية تخرج من «واتساب» الشاعر إلى «يوتيوب» المتلقي بخيرها وشرها «الفني» دون أي تنقيح أو استشارة أو نصيحة، الأمر الذي لم يساهم فقط بظهور أعمال دون المستوى، وإنما تجاوز ذلك بكثير، لتفرز لنا هذه الفوضوية قصائد غنائية ـ إن صحت تسميتها بذلك- لا تلتزم بأدنى متطلبات القصيدة كالوزن واللغة السليمة... إلخ، ومن جانب آخر، أدّى التطور الكبير والمستمر في هذه التقنيات إلى تركيز المُنتج في التنافس على مضاعفة جودة الجانبين البصري والسمعي في العمل الفني، فتجد مثلا استخدام أحدث التقنيات في التصوير والإخراج والمونتاج من جانب، ومحاكاة الألحان والموسيقى العالمية أو النبش في الفنون الموروثة من جانب آخر، (وهذا شيء رائع)، غير أن هذا التنافس لا يتجلى بصورة واضحة في (كلمات الأعمال) التي ظلت تراوح مكانها في مساحة هامشية جداً، و(ربما) السبب وراء ذلك هو أن نسبة كبيرة من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي من فئة صغار السن (كما تشير الإحصائيات الرسمية)، وبراجماتية المُنتج تجعله يؤمن بأن نجاح العمل الفني هو وصوله لأكبر شريحة ممكنة من المتلقين، وفي هذه الحالة، هذا الأمر لن يتحقق إلا بالإبهار البصري والإشباع السمعي للسواد الأعظم من مستخدمي التواصل الاجتماعي، وليس بتجويد «كلمات العمل» التي تأتي في مؤخرة اهتمامات جيل فَرضت عليه العولمة وإدمان التقنية (وأشياء أخرى لا لزوم لذكرها) تغيير نظرته وأولوياته ومقاييس الجمال لديه مقارنة بـ «جيل الطيبين».

لهذه الأسباب الثلاثة، وأسباب كثيرة أخرى- كغياب النقد الحقيقي في الساحة الشعرية بشكل عام، وعن القصيدة الغنائية بشكل خاص، وانتشار المحاباة في اختيار كتّاب الأغاني وتفشي المجاملة الشعرية، وكذلك اعتماد أغلب المنتجين أو الرعاة في تنفيذ الأعمال الفنية على غير المختصين- تراجعت القصيدة الغنائية على الصعيد المحلي، وواصلت في السنوات الأخيرة حالة التوهان والتردّي، فطغت عليها اللغة المباشرة غير المبتكرة وغابت عنها الصورة الشعرية المكثفة، وكثر فيها استخدام القوالب الجاهزة والجامدة والخالية من الإحساس إلى أن بلغت مرحلة الاستنساخ والتشابه، وسندرك هذا الأمر لو سألنا أنفسنا: كم عدد الأعمال الفنية الوطنية التي أنتجت خلال آخر 20 عاماً (على أقل تقدير)؟ وكم عدد الأعمال التي بقت كلماتها عالقة في الذاكرة وتلامس وجداننا من مجمل هذه الأعمال! ومن خلال الإجابة سنجد أن الأمر يتطلب وقفة جادة من جميع الأطراف، تبدأ من اهتمام المُنتج باختيار الكلمات الأمثل للعمل الفني واستشعار الكاتب لحجم الرسالة السامية التي يحاول إيصالها إلى المتلقي.