No Image
ثقافة

تاريخ الإبادة الجماعية في معتقلات الاحتلال الإيطالي لليبيا

01 ديسمبر 2023
الناس عانوا في صحراء لا تعرف الشجر أو الماء
01 ديسمبر 2023

بغلافٍ عليه خريطة لـ«معتقل العقيلة»، رسمها الحاج محمد عصمان الشامي، أحد المعتقلين به، خصص كتاب «الغرفة 211» الدوري، عدده الجديد حول «ذاكرة الاستعمار» في ليبيا، وهو ملف شديد الأهمية إذ يكشف صورة قاتمة لفظاعات الاستعمار الإيطالي في المجتمع الليبي، ثم طمسه لكل الأدلة والأرشيفات الخاصة بجرائمه، ومثلا حتى هذه اللحظة فإن هوية المئات ممن ماتوا في معتقلات إيطاليا، سواء في صحراء سرت أو غيرها، ليست معروفة، لا أسماء، ولا صور، ولا ذكريات، كأنهم لم يولدوا، أو كأنهم هباء منثور. ماتوا غرباء مقهورين في بلدهم، لكن الأمل في مجهودات باحثين يحاولون بصدق وإخلاص كشف النقاب عنهم، كما يفعل الدكتور علي عبد اللطيف حميدة، الذي خصصت المجلة الملف لتناول وتحليل كتابه «الإبادة الجماعية في ليبيا: الشر، تاريخ استعماري مخفي».

ولد الدكتور علي عبد اللطيف حميدة في ودان، بليبيا، وتلقى تعليمه بجامعة القاهرة في مصر وجامعة واشنطن، سياتل. وهو الرئيس المؤسس لقسم العلوم السياسية في جامعة نيو إنجلاند، في مدينة بيدفورد، بولاية «مين» الأمريكية. ونشر مقالات مهمة في مجلة «الدراسات» الإيطالية، و«المجلة الدولية» لدراسات الشرق الأوسط، و«المستقبل العربي»، وفصلية «العالم الثالث»، و«المجلة العربية» للدراسات الدولية.

في حصيلة بحثه، كما تذهب مقدمة الملف، يقف الدكتور علي عبد اللطيف حميدة على الطرق التي أحاطت تجربة الإبادة الجماعية في ليبيا بالصمت متسائلا عن خفايا استبعادها حتى ثمانينيات القرن الماضي من التفسيرات التاريخية للفاشية، داعيا إلى ضرورة أن تتجاوز الدراسات النقدية الجديدة النظرة الضيقة، عبر النظر إلى الإبادة الجماعية في المستعمرات خارج أوروبا، والإصرار كذلك على المسؤولية الأخلاقية والسياسية للدولة الإيطالية، وضرورة إجبارها على فتح الأرشيفات ليتسنى معرفة الأسرار المخفية المحرجة وتأمين صوت لمن نُسي ظلما.

وفي مقدمة كتابه «الإبادة الجماعية في ليبيا»، التي تنشرها المجلة بالكامل، يؤكد الدكتور علي عبد اللطيف حميدة أن ما يعرفه العرب عن المقاومة الليبية للاستعمار الإيطالي يرتبط فقط بشخصية شيخ الشهداء عمر المختار، وتحديدًا طريقة إعدامه العلنية، إذ أراد الفاشيون الإيطاليون إخماد روح المقاومة بالإرهاب العلني لأحد أهم قادة المقاومة في المنطقة الشرقية، وبالطبع فإن القرَّاء العرب يتذكرون هذا المشهد الدموي، وبالذات بعد مشاهدة فيلم المخرج السوري الأمريكي الراحل مصطفى العقاد «أسد الصحراء». وهذا الفيلم بلا شك عمل فني مبدع ومهم، ولكننا، بحسب حميدة، ننسى أو لا نعرف الأحداث الدموية الأخرى، وبالذات معسكرات الاعتقال الستة عشر خاصة معتقلات الموت الأربعة الجماعية، والتي لم يكن عمر المختار معتقلا بها، ويعني حميدة 110 آلاف طفل ورجل وامرأة اعتقلوا في الفترة ما بين 1929 وحتى عام 1934 ومات أغلبهم جوعا ومرضا في هذه المعتقلات، أي: ما بين 60 إلى 70 ألفا، بسبب سياسة عنصرية ممنهجة سمَّاها «الإبادة الجماعية في ليبيا».

ولكن لماذا حدثت هذه الجريمة الجماعية في شرق ووسط ليبيا؟ يجيب حميدة: «لأن المقاومة قُمِعَت وهُزِمَت عسكريًّا في الغرب الليبي، واضطر معظم قادة المقاومة للهجرة إلى الجنوب الليبي أو إلى المنافي في تونس ومصر وتشاد والنيجر بعد عام 1922».

ولكن ماذا يعني بالتاريخ المخفي؟ يقول: «كما هو معروف ومتاح، فإن تاريخ النازية وإبادة اليهود والغجر والاشتراكيين قد أصبح معروفا بعد محاكمات نورمبرغ، بالإضافة إلى سياسة تعليم وإنتاج هذه المحاكمة في الكتب والمدارس والجامعات والأفلام والمتاحف كل عام في غرب أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. ولكن في المقابل تناست الذاكرة الرسمية جرائم الفاشية الإيطالية في الدراسات الأدبية المعاصرة، بل وغُيِّبَت حتى في الأفلام والثقافة والإعلام، بل أقول إن هناك، وإلى حدٍّ كبير، تجاهلا وجهلا في العالم العربي بهذه الجريمة وتفاصيلها وتداعياتها على الحاضر، بل إن هناك أجيالًا شابة في ليبيا تعاني من عدم الفهم لهذه الجريمة الجماعية».

يرى حميدة أن الفاشية الإيطالية نجت من المساءلة والمحاكمة حتى بعد سقوط هذه الدولة في عام 1943. هذا السكوت القانوني والأخلاقي عن جرائم الفاشية الإيطالية لم يكن سهوا أو خطأ، بل كان نتاجا لسياسة العنصرية المركزية الأوروبية وظروف الحرب الباردة ومعاداة الشيوعية في إيطاليا والمجتمعات الغربية بعد سقوط الفاشية وبروز الاتحاد السوفييتي والحزب الشيوعي الإيطالي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وهزيمة القوى النازية والفاشية.

يحكي: «أخبرني أحد الناجين قصة مؤثرة لامرأة لديها طفلان عوقبت بالجلد ثم قُيِّدت بسارية العلم المركزية في معتقل العقيلة طوال اليوم. طلبت من رجل مساعدتها في الليل. اقترب منها ووجد معها الطفلين، طفلا صغيرا متمسكا بجسدها، وطفلا رضيعًا كانت تحمله على الرغم من أنها كانت مربوطة بالعمود. طلبت من الرجل أن يضغط على صدرها حتى يرضع الطفل، ففعل. وفي موقف آخر مختلف، كان رجل عجوز مضطجعا في ظل خيمة، وكان هناك صف من النمل على ذراعه. وعندما حاول صبي عابر إزالة النمل، نهره الرجل العجوز قائلا: لا. وفي وقت لاحق فقط أدرك الصبي أن الرجل العجوز يريد الاحتفاظ بالنمل لأنه، أي النمل، كان يحمل الحبوب من مخزن مستلزمات المعتقل».

ويعلق: «هذه ليست حكايات مضحكة، بل قصص أناس يواجهون الموت. تحدَّث الناجون من المعتقلات عن أحداث أخرى تسبَّبت، وفق تفسيراتهم، في وفاة الكثير في المعتقلات الأربعة الكبرى. لم يزوِّد الجيش الإيطالي المعتقلين بالأدوية والملابس. كان لدى آلاف الأشخاص طاقم واحد من الملابس، دون أحذية، ولم يستحمُّوا لمدة ثلاث سنوات لدرجة أن البراغيث والالتهابات أصبحت حالة منتشرة بين المعتقلين وجعلتهم عرضة للإصابة بأمراض مثل الجدري والتيفود والعمى. كان محمد عصمان الشامي في الحادية عشرة من عمره عندما اعتُقِل مع والدته في معتقل العقيلة سيئ السمعة. كان يرتدي قميصًا واحدًا لمدة ثلاث سنوات ولم يكن لديه حذاء. وروى أنه بسبب عدم وجود صابون للاستحمام في تلك الفترة، انتشر القمل والبق في ملابسهم لدرجة أن والدته كانت تأخذ خرقة القميص البالية وتغليها في الماء لقتل القمل والبق».

كانت سياسة الاعتقال، كما يقول حميدة، مجرد جانب واحد من استراتيجية أكثر شمولا لسحق حركة الجهاد من خلال استهداف قاعدتها الاجتماعية، تصاحبها سياسات وحشية مثل الإعدامات، ومصادرة الأراضي، وتسميم المحاصيل وحرقها، وقتل المواشي، وتشييد سياج من الأسلاك الشائكة فعليًّا، وهكذا على طول الحدود المصرية لجعل شرق ليبيا سجنا أو معتقلا. كان بنيتو موسوليني، ومارشال بيترو بادوليو، وإميليو دي بونو، ورودولفو غراتسياني، المصممين الرئيسيين للسجن في المعتقلات والإبادة الجماعية. وكان هؤلاء القادة الفاشيون واضحين وصريحين في نيَّة الإبادة الجماعية عبر سحق المقاومة وقاعدتها الاجتماعية بأي وسيلة.

ويقول: «كانت السياسة الإيطالية عازمة منذ البداية على إبادة السكان. عندما زرت المعتقلات ومنطقة الجبل الأخضر، أدركت سبب اختيار الفاشيين لصحراء سرت لاحتجاز السكان المقاومين في شرق ليبيا، فهي صحراء بلا شجر ولا ماء، وهي أرض بعيدة جدًّا عن موطن الناس في الجبال، والوديان، والغابات، ونجوع شمال برقة. إنه أيضا مكان يمكن فيه بسهولة حبس الأشخاص المعتقلين وسجنهم وكان الهروب منه مستحيلًا. كانت المسافة طويلة، واضطر الناس إلى المضي سيرا على الأقدام والسفر في سفن قديمة متهالكة ولم يحصلوا على الماء أو الطعام أو الدواء، والأسوأ من ذلك أنه في كثير من الحالات حُرقت حبوبهم وأطعمتهم أو صودرت. وكانت الضربة الأكثر تدميرا للناس هي خسارة ماشيتهم التي بلغ عددها 600 ألف في عام 1929».

حميدة أكد أن تدمير الماشية هو عامل رئيس وراء الإبادة الجماعية وموت ما لا يقل عن 60 ألفا في المعتقلات في عام 1934. يعلق: «أنا لست الباحث الأول الذي أدرك أهمية هذا الدمار، فقد لفت إيفانز بريتشارد وديل بوكا الانتباه إلى جريمة القتل اللاإنسانية هذه التي أسمِّيها إبادة جماعية، ما أخطط للقيام به هو ربط النظام الإيكولوجي والبيئي والعضوي الذي دمج البشر مع حيواناتهم في التجارة الاقتصادية شبه البدوية والحياة الثقافية في شرق ليبيا. وإنني أقترح أن تدمير قطعان الماشية هو عامل رئيسي وراء وفاة الآلاف من المسجونين في المعتقلات، وتشكِّل الأدلة الأرشيفية وسرديات الناجين نظرة متماسكة حول هذا القتل الجماعي لقطعان الماشية».

أما الباحث فؤاد المغربي فيقول في قراءته لكتاب «الإبادة الجماعية في ليبيا» إن حميدة عمل ما يقرب من عشر سنوات على تأليفه، قضاها في الترحال بين ليبيا وإيطاليا ومصر وتونس لدراسة الأدلة الأرشيفية، حيث اكتشف أن الإيطاليين إما أخفوا أو أتلفوا الكثير من السجلات الأرشيفية التي توثِّق لما فعلوا في معسكرات الاعتقال، كما قاموا بوضع العقبات في طريقه. ويعلق: «لو أن أي باحث آخر واجه نفس المشاكل التي واجهها حميدة كان سيتوقف في مرحلة ما، ولكن ليس مؤلفُنا، فقد شَقَّ بِهمَّةٍ طرقا أخرى ليستمر في بحثه عن الإبادة الجماعية في المعتقلات.

كان على «حميدة» أيضا، بحسب المغربي، التغلب على التوجس الطبيعي لدى الناس من الباحثين الذين يمكن أن يكونوا على علاقة بالحكومة، وأنهم يقومون بجمع معلومات قد تُستخدَم ضدهم. إلا أن حميدة لحسن الحظ نجح في الامتحان عندما اكتشف الناس أنه ينحدر من عائلة عريقة عُرفت بمشاركتها في المقاومة ففتحت له الأبواب واستقبله الناس.

وحتى تكتمل الصورة أجرت «الغرفة 211» حوارا شاملا مع حميدة، حول كتابه، وكيف عمل على مدار سنوات في جمع العيِّنات، وتقصي الأراشيف والوصول إلى أي معلومة عن بعض المعتقلين. تسأله المجلة: كيف تمكن الإيطاليون من البقاء هادئين بشأن ممارسات الإبادة الجماعية، بينما كانت الدول الأخرى، ألمانيا، وإلى حدٍّ ما الولايات المتحدة وكندا، أكثر استعدادا للاعتراف بماضيها العنيف؟ أيضًا، في المعاهدة التي وقعتها إيطاليا مع ليبيا، يبدو أنهم يعترفون بماضٍ مليء بالذنب، هل تعتقد أن هذا كافٍ، بالنسبة لنا كليبيين ولهم؟ فيجيب حميدة: «لم تكن هناك أبدًا محاكم جرائم حرب ضد الفاشيين الإيطاليين الذين كانوا وراء الفظائع والإبادة الجماعية في ليبيا، وأخرى في إثيوبيا ويوغوسلافيا. الحلفاء الغربيون الذين استغرقوا عامين لاحتلال إيطاليا خلال الحرب العالمية الثانية احتاجوا إلى الفاشيين الإيطاليين في الحرب ضد ألمانيا النازية، وكانوا أيضا بحاجة إلى تعاون هؤلاء الفاشيين لمواجهة شعبية الحزب الشيوعي الإيطالي بعد الحرب. وقبل كل شيء، كانوا بحاجة إلى العنصرية الأوروبية التي تنظر إلى الآخرين باعتبارهم بشرا أقل».

الكتاب الدوري «غرفة 211» يصدر عن مؤسسة أريتي للثقافة والفنون، بإشراف البروفيسور خالد المطاوع.