033
033
ثقافة

النبأ الأخير لمازن حبيب: بين عُطل آلة الفكرة، وعُطل فكرة الآلة

21 يونيو 2021
21 يونيو 2021

لا يتعلق الأمر بالأنباء التي نسمعُها يوميا في نشرات الأخبار، أو التي يُحتمل أن نسمعَها عن عالم لا ينفك يُحدّث أخباره، ولا تلك التي تأتي في سياقها الطبيعي عبر مذيعين تعوّدنا أن ينقلوا لنا حرفيا، على الهواء مباشرة من داخل أستوديوهات الأخبار، ما أعدّته غرف التحرير على مدار الساعة، مما يجعل أي خروج عن النص وإنْ مجرد لعثمة عابرة مثار اهتمام أو تندُّر، وإنما يتعلق بناقل خبر تقليدي قرر عن سبق إصرار وترصد الخروج عن النص وتقديم نص جديد لم يألفه متلقو نشرات الأخبار.

هذا ما تقرره شخصية قصة "النبأ الأخير" للكاتب العماني مازن حبيب المنشورة ضمن مجموعته القصصية "البطاقة الشخصية للعمانيين" الصادرة عن مؤسسة الانتشار العربي، التي وإن صدرت في عام 2014م إلا أن هذه القصة كُتبت في عام 2006 كما يخبرنا حبيب في نهايتها. تتحدث القصة عن مذيع نشرات أخبار قرّر أن يُقدم خبرا مختلفا عمّا ألفه الناس بعدما فرغ من قراءة نشرة الأخبار الصباحية المُعدّة من فريق التحرير.

سنعرف أن المذيع في قصة "النبأ الأخير" قد قضى 10 سنوات في مهنته يقدم الأخبار المقرّر عليه قراءتها، وأنه لم يَحِد يوما عن النص المكتوب بصرف النظر عن رأيه فيه، ولكنه قرّر أخيرا أنه هو الآخر لديه ما يقوله. وسيطرح القارئ - استعدادا لما سيأتي - سؤالين استباقيين مهمّين: ما النبأ المهمّ الذي يجعل مذيع نشرة أخبار يخرج عن النص المقرّر عليه؟ وهل ستختلف اللغة التي سيعبّر بها في خبره الجديد عن لغة الأخبار المعتادة في نشرات الأخبار؟ لأننا نفترض مبدئيا لغة غير عادية للتعبير عن خبر غير عادي. هذا إذا ما وضعنا في الحسبان ضرورة أن تتسق اللغة مع المضمون؛ لأن كسر البناء التقليدي لنشرات الأخبار يقتضي لغة غير تقليدية كذلك من أجل لفت انتباه المتلقي التقليدي لما سيأتي.

تبرر الشخصية خروجها عن النص بالقول: "كيف لا يكون لي رأي في ذلك؟ هل أنا مجرد ناقل لخبر قام آخرون بصنعه؟ هل أنا مجرد صوت ينقله الميكروفون؟ آهٍ للمهنة المدّعاة! كنتُ أفقد في كل مرة يحدث ذلك شيئا ما في داخلي. لقد كانت كلمات مرصوصة أحاول أن أتلوها بشكل صحيح، وكنتُ أخسر، دون أن أعلم وقتئذ، ذاتي، بعد كل خبر، وبين كل فاصل، وفي نهاية كل نشرة" (ص14 – 15)

بقراءة أولية نستطيع أن نتبين ملمحين جوهريين في الإشكالية الأساسية التي تواجهها الشخصية في هذا النص، وهما:

- أن انفصال ذات الشخصية عن الفعل الذي تقوم به حوّلها مع الوقت إلى وسيلة محض، وجسر عبور منزوع القدرة على إبداء الرأي فيما يعبر من خلاله، فتحوّل إلى "شيء" مُحيّد المشاعر والأفكار والآراء أثناء تقديم الخدمة، على الرغم مما تتطلبه هذه الخدمة الحساسة من مهارات خاصة، ولكن المحصلة هي تكريس فكرة الإنسان ــ الآلة، بعزلِهِ عن أي معنى لما يقوم به.

- اقتران لحظة التغيير بالنهاية، فالشخصية قبل أن تسرد نبأها المختلف تعرف أنه سيكون النبأ الأخير؛ ليس الأخير على مستوى النشرة قبل ختامها وحسب، ولكنه الأخير على مستوى المشوار المهني كله؛ لأن تحطيم فكرة الإنسان الآلة يعني تعطُّلها وعدم صلاحيتها للعمل من جديد وفقا للآلية المعتادة، على خلاف الآلة العادية القابلة للتصليح ومعاودة العمل بالكفاءة السابقة نفسها، وهنا يكمن الفرق بين عُطل آلة الفكرة، وعُطل فكرة الآلة عندما تُخرق أهم شروط العمل التي لا يأمن أحد عدم تكرارها.

وسيتعين علينا معاينة مادة النبأ الأخير من عدة وجوه ترتبط ببعضها موضوعيا وفنيا، وتحكم العلاقة فيما بينها القيمة الضمنية للمغامرة السردية:

- مُفتتح النبأ: ويُفترض أنه الطُعم الذي سيوجّه به المذيع انتباه المتلقي نحو آتٍ مختلف وغير معتاد، ويشده، من ثم، لمتابعة النبأ حتى منتهاه، فلا يغيّر تردد القناة إلى أخرى ولا يغلق المذياع، ولا أنسب لذلك من إشعاره بأن الخبر يهمه هو أيضا. ومدار السؤال في هذه الحال: كيف صاغت الشخصية مفتتح الخبر، وكيف هيأت له؟

يفتتح المذيع النبأ الأخير كالآتي: "... ويردكم الآن، أعزائي المستمعين، أينما كنتم النبأ الأخير لهذه النشرة الصباحية" (ص12). إنها افتتاحية اعتيادية - حتى اللحظة - كأي تنبيه يسبق ختام نشرة أخبار في مئات القنوات الإخبارية وغير الإخبارية، ولكن التحوّل يحدث بدءا من العبارة التالية: "هذا النبأ الذي سأختم به نشرتي لهذا اليوم .. وعشرة أعوام من حياتي المهنية قدمتُ لكم فيها الكثير من الأخبار السيئة، في رأيي، الذي لن أتوانى اليوم عن التعبير عنه .. وأتمنى ألا يخلو هذا النبأ من التسلية أو الإثارة" (ص12). هكذا تحوّلت مادة الخبر من العام إلى الخاص، من العالَم الذي تعوّد أن يُخبَر عنه إلى المُخبِر ذاته، كاشفا للمتلقي معلومة لا يعرفها بالضرورة – وليس من شأنه أن يعرفها - وهي أنه قضى عشر سنوات في مهنته. كما أنه يرجو أن يحقق نبأه الأخير هذا التسلية والإثارة. إنه وعد بالتسلية وإن جاء بصيغة الرجاء، على خلاف الأخبار السيئة التي تعوّد تلاوتها طوال عشر سنين.

لقد حققت الافتتاحية شرطين من شروط الخبر الجاذب: نقلت زاوية الخبر القديمة إلى زاوية جديدة بصرف النظر عن أهميتها المبدئية (من الآخر/ العالم إلى الذات) وفي هذا إجابة عن سؤال (من؟). ووعدت بتغيير نوع الخبر من سيئ معتاد إلى مسلٍ غير معتاد، وفي هذا إجابة عن سؤال (ماذا؟)، تمهيدا للإجابة عن: كيف ومتى وأين، وهي الأسئلة التي تشكل أركان الخبر المكتمل.

- موضوع الخبر نفسه: الذي يُعدّ الغاية التي من أجلها قامت الشخصية بمغامرتها الخطيرة. وسيحدد مضمون هذا الخبر مدى استحقاقه للمجازفة التي ستكلف المذيع حياته المهنية إلى الأبد، منوّها في بدايته إلى أنه يتحمل المسؤولية الكاملة عن الفقرة الأخيرة التي لم يشارك فيها أحد من طاقم الإخراج. غير أن المذيع لن يقول خبرا محددا، وإنما سيتحدث عن حياته مع نشرات الأخبار التي جعلت منه كائنا لا مباليا. يقول: "كم مرة فقدتُ لا مبالاتي عند تلاوة المفجع من الأخبار. وغالبا ما كنت ألقي نكتة سافرة على زملائي حال خروجي بتلهف، من الاستوديو، نحو كوب قهوة سريع، أو مغادرا إلى بيتي. أترك، لحظتها، على الأوراق، ورائي كل الأطفال الذين ماتوا، والعائلات التي قضت، وأنام في آخر الليل غير مكترث لما حدث اليوم، ولما ستسوء به الحياة غدا. إنهم أناس لا يعنونني، وأحداث لا تهمني. كيف أصبحت محايدا وصرت أتحلى باللامبالاة" (ص14). سيتحدث عن هموم يومية لا تشكل لب الخبر المراد، وعندما تحين لحظة البوح به يتغير كل شيء. يقول: "سأزعم، أعزائي المستمعين، بأنه كان لدي الكثير لأشاطركم إياه. لقد فكرت كثيرا قبل أن أقدم على هذه المغامرة بما كنت أود قوله. لكن الذي أشعر به بمجرد ما تقترب شفتاي من الميكروفون هو الخوف" (ص15 – 16). وهكذا تفشل الخطة المعدّة سلفا، ويغرق المذيع في ارتباك غريب على من تعود مخاطبة الجماهير الغفيرة خلف المذياع.

سيتساءل القارئ عن جدوى المغامرة على المستويين: الموضوعي والفني إذا كانت في الختام لن تفضي لتحقيق المنتظر/ النبأ الفريد. سيخرج القارئ من القصة مخذولا كما خذل المذيع نفسه. يقول: "لا ينبغي للمرء أن يتسرع فيثق بنفسه كثيرا، ليخذلها لاحقا، ويخذل الآخرين معه: أن يَعِد المرء بما لا يمكنه الوفاء به. ما أصعب أن تخذل نفسك، قبل أن تخذل الآخرين، دون أن تقنع نفسك وتقنعهم بوجاهة إخفاقك! يا للعار، العالم يستمع إليّ ولا أجيد التعبير عما أرغب في قوله بسرعة، لكننا لم نعتد أن نقول ما نفكر فيه دائما من دون تردد. لقد كانت الحواجز قائمة دائما، وكنا نضع المزيد منها بأنفسنا" (ص16 – 17).

في الشاهد السابق يسحب الكاتب القضية من نقطة صغيرة إلى دائرة أكبر وأشدّ تأثيرا، لا تتصل بخبر مفرد سيمضي – فيما لو قيل - بعد مرور وقت طال أو قَصُر إلى أقبية النسيان أو تجري استعادته على سبيل التندر في أفضل الأحوال أو أسوئها، وإنما تتصل بتحويل الشخصية من حالة خاصة إلى حالة عامة، تواجه مشكلة في التعبير عن الرأي، ومن ثم عدم قدرتها عليه عندما تتاح لها الفرصة، فيحصل الخذلان المشترك.

- اللغة المعبّر بها في النبأ الأخير: وعلينا أن نأخذ في الاعتبار محددين مهمين، الأول منهما: وجود ثلاثة مستويات للغة في النص: 1) لغة المونولوج الداخلي، ما قبل توجه المذيع إلى الاستوديو. 2) لغة نشرة الأخبار التقليدية التي يُفترض أنها قُدمت قبل النبأ الأخير، ولكنها غابت عن النص الصريح لاعتياديتها واقترانها براهنية ضيّقة يفرضها تبدل الأحداث. 3) لغة النبأ الأخير نفسه. وإذا كان لنا أن نقيس لغة المستوى الأول إلى لغة المستوى الثالث في النص فعلى اعتبار متلقيهما، فالأول عبارة عن مونولوج داخلي بدرجة تلقٍ صفرية، أما الثاني فيستقبله متلقون مفترضون يمثلون الجماهير التي تتابع النشرة خلف المذياع.

أما المحدد الثاني فهو مدى مفارقة لغة النبأ الأخير للغة الأخبار التقليدية؛ فإذا كنا نعرف اللغة العامة التي تصاغ بها نشرات الأخبار عادة، ونسمعها مرارا طوال اليوم والليلة، فإن لغة النبأ الأخير لغة خاصة، لغة شخص تحوّل من ناقل خطاب إلى منتج للخطاب. ولكن إلى أي حد يستطيع مفارقة اللغة التي تعوّد على قراءتها على مدى عشر سنوات بمعايير وضوابط صارمة، وإلى أي حد يستطيع الفكاك من سطوتها ليعبر بلغته عن همّ يؤرقه هو ويفترض أنه يهمّ الآخرين أيضا؟

وأحسب أننا نستطيع أن نحدد أربع ظواهر لمفارقة لغة النبأ الأخير للغة الأنباء التقليدية التي سبقتها:

• التحوّل إلى استخدام ضمير المتكلم. يقول: "هذا النبأ الذي سأختتم به نشرتي لهذا اليوم .. وعشرة أعوام من حياتي المهنية قدمتُ لكم فيها الكثير من الأخبار السيئة" (ص12). إنه لفت انتباه حاد يتحول معه الصوت إلى صوت داخلي، يسميه المذيع زميلا: "لا يسعني إلا أن أحيل الميكروفون إلى زميلي، أنا الآخر، وبصوتي الداخلي الذي لا يظهر عادة في النشرة" (ص12).

• الإسهاب الذي يتعارض مع لغة الأخبار المقتصدة والمشدودة؛ فلا ترد كلمة فائضة عن الحاجة ما لم تخدم المعنى المباشر بلا زيادة ولا نقصان. ولكن المذيع في النبأ الأخير يقول على طريقة الأحاديث في المجالس: "فكما سئمتُ وسئمتم، وعجزتُ وعجزتم عن فعل أي شيء حيال تلك الأحداث، أو الاستفادة منها، أو التأسف عليها، ولو مجاملة، فأقترح من باب التغيير، أن أتحدث عني" (ص13).

• التوجه إلى الجمهور بالحديث، وهو ما لا يحدث عادة في نشرات الأخبار في غير تحيات البداية والنهاية التي يحترفها المذيعون عادة. ولكن مذيع النبأ الأخير يشارك المتلقين تكهناته وتوقعاته حيال ما يستمعون. يقول: "ولأنني، لا أستمع إليكم، إلا أنني أتخيل إنصاتكم إلي. وسأعتبر عدم مقدرتي على الاستماع إليكم موافقة مبدئية ونهائية على مقترحي المتواضع، إن كان السكون يعني الرضا" (ص 13).

• التعبير عن مشاعره، وهو الشيء الوحيد الذي تمكّن منه أخيرا بعد عقد كامل من استخدام لغة جامدة في نقل الأخبار. يقول: "أعزائي المستمعين، إنها لحظة سعيدة في حياتي، وإن قصُرت، فإني لن أتوانى عن التلذذ بها بكل ما تحمله السعادة القصيرة من أنانية يود المرء الاحتفاظ بها دون غيره" (ص13). أو كما يقول في موضع آخر: "أشعر بالكآبة والتناقض من كل شيء حولي" (ص14).

وعلى الرغم من فشل المذيع في الإخبار بالنبأ الذي أراد قوله، نجده يكتفي بنصر صغير يتمثل في المحاولة التي ربما استطاعت إيصال الفكرة، إذ يختم قائلا: "لستُ بطلا، لكنني أعلم أيضا أنها ليست اللحظة التي أردتني أن أبدو فيها .. مهزوزا، ومتذبذبا، وغير قادر على أن يقول شيئا فيها، لكنها محاولة، وأظن أن الفكرة قد وصلت..." (ص12) قبل أن ينقطع البث: إششششششششششششش.

وهكذا يبقى النبأ الأخير في حكم المسكوت عنه، ما دمنا غير قادرين على تبين كنهه وتخمين حقيقته، ليقضي بتعليق شهية المتلقين إلى حين مغامرة جديدة قد ينجح صاحبها في التغلب على مشكلة التعبير عن رأيه ويتجاوز مرحلة المحاولة. أو لعله لم يكن نبأً بأهمية محاولة التعبير عنه على الرغم من فشلها، وإن بدا من الوارد أيضا أنه مجرد حلم يقظة لم يكتمل، رآه مذيع نشرة أخبار يومية سئم روتين حياته.