ديوان شاعر الصير الشيخ محمد بن صالح المنتفقي
ديوان شاعر الصير الشيخ محمد بن صالح المنتفقي
ثقافة

المنتفقي.. شاعر الصير

15 مارس 2024
رواد الأدب العماني
15 مارس 2024

أتذكّر تمامًا يوم كنت في "نزوى"، ومن عادتي أن أذهب إلى المكتبات؛ لأرى جديد المجلات الثقافية، فاشتريت كعادتي مجموعة منها، وكان من ضمنها مجلة "تراث"، التي كانت ترفق مع كل عدد كتابا مجانيا، وكان الكتاب المجاني يومذاك، ديوان شاعر الصير: الشيخ محمد بن صالح المنتفقي، ولن أحكي لكم كم كانت سعادتي، وكأنني وقعتُ على كنز...

بعد سنوات تهيأ لي لقاء بعبدالله بن قاسم القاسمي الذي جمع وحقق الديوان، فكم كان الحديث محملا بالشجون والمحبة...

يلزم أولا أن أعرّف بشاعر الصير، وأقتبس هنا من مقدمة أخي القاسمي للديوان إذ يقول: لم يسبق قبل هذه المرة -حسب علمي- نشر شيء من الأعمال العلمية المفردة في سيرة الشيخ المنتفقي أو في شيء من آثاره، لكن مجرد الإشارة إليه أو التعريف الموجز به مع ذكر نماذج من أشعاره فقد حصل منذ مدة، وقد ذكر مؤلف كتاب "القول المنظم" أن القاضي الشيخ عبد الله بن محمد صالح الخزرجي (ت:1363هـ/1943م) ألف كتابا مفردا في سيرة المنتفقي ومديحه سماه: «عدة المصالح في مناقب الشيخ محمد بن صالح»؛ فلو تسنى الحصول على مخطوطة هذا الكتاب لتكاملت الصورة أكثر حول حياة الشيخ المنتفقي -رحمه الله-،وحتى يأذن الله بذلك فدونك هذه الترجمة التي تضمنت طرفا من أخباره:

هو الأديب المتفنن، والشاعر المجيد المتقن، الفقيه العابد الزاهد، الشيخ محمد بن الشيخ صالح بن محمد بن صالح بن أحمد بن محمود بن حسين بن محمد بن جبر بن مانع بن راشد المنتفقي من آل مانع.

ولد رحمه الله في البصرة، وأخذ العلم عن والده الشيخ صالح بن محمد بن صالح المنتفقي، وعن كثير من علماء بلده، وارتحل في طلب العلم، فأخذ عن علماء الحرمين، والأحساء، ولنجة، وغيرها، ومكث المنتفقي في لنجة طالب العلم مدة ثلاث سنوات ؛... ومما قاله فيها في إطراء شيخه أبي الأنوار:

إذا ظلت يوما مجلس الذكر حوله

رأيـت أبـا الأنوار وسطهم بـدرا

وأحسنهم نطقا وخلقا ومنظرا

على هيبة عظمى إذا طلعت قمْرا

إماما هماما كاملا ذا فصاحة

عفيفا نظيفا صالحا ورعا حرا

جوادا جليلًا فاضلًا شامخ الذرى

حبيبا نسيبا صيتا جاوز النسرا

ولعله من لنجة توجه المنتفقي – بعد ذلك إلى الصير، التي طاب له المقام فيها؛ فاتخذها وطنا، واشتهر بها؛ فأصبح ينسب إليها، فيقال له: "الصيري"، و«ساكن الصير»، وقد أقام فيها وفي رؤوس الجبال مدة حياته،...ناشرا العلم، مجيبا عن أسئلة المستفتين، مرشدا العوام، مربيا الطلبة.

و"الصير" هي المنطقة الممتدة بمحاذاة مياه الخليج العربي من رأس مسندم إلى جلفار وما بعدها، وتشمل القرى والبلدات الواقعة في تلك الجهة جميعها؛ وعلى هذا فجلفار إحدى مدنها، وربما عرفت جلفار نفسها بأنها الصير، أو العكس، أو قيل عن "الصير" بأنها رأس الخيمة، وربما اتسعت تسمية الصير لتشمل أيضا بلدة "دبا" الواقعة على ساحل بحر عمان في الجهة المقابلة، بل ولتشمل البلدات جميعها الواقعة في رؤوس الجبال مثل «خصب» و«كمزار» وغيرها.

وقد تنقّل المنتفقي بين بلدات هذه المنطقة ومما يدل على مكانته ترحيب أهل "كمزار" به حين أتاها، يقول الخزرجي:

فأتى إلى الكمزار ينحو أهلها

بشـريـعـة المـزمـل الـعـدناني

فتباشـروا بـقـدومـه وعـلـومـه

واستفرغوا من قلبه الـملآن

فغدا محياها به متهللا

وغدا الشرور بها قريبا قانِ

وحـوت بـه كـل المعـزة والهنا

وانجـاب عنها كل ذي شنان

ولعل المنتفقي كان يتنقل بين الصير (الساحل) وبين قرى رؤوس الجبال؛ بحسب الظروف والدواعي والأحوال، وقد وقفت له على عبارة في رسالته المسماة «الرسالة المنورة» التي أجاب فيها عن أسئلة وردت إليه من البصرة = يفهم منها مثل هذا..

وقد كان الشيخ المنتفقي أديبا بليغا، ناظما الشعر، مجيدا له، مكثرًا منه؛ حتى عرف بـ «شاعر الصير»، وقد كتب لأشعاره وقصائده الذيوع والانتشار في كثير من الأقطار، كما كان مقصد طلبة العلم في جميع علوم الشريعة واللغة، قبلة للمستفتين؛ ترد إليه المسائل من عمان وفارس والأحساء والبصرة وغيرها.

وكان على صلة حسنة بعلماء الإباضية وشعرائهم، وقد حفظت لنا الأيام ما يشهد لصلته بالأديب الشاعر الإباضي راشد بن خميس الحبسي (1150هـ/1737م) يقول جامع ديوان الحبسي: (ووصلته أبيات حسنة من نظم الشيخ الفصيح البليغ محمد بن صالح المنتفقي الصيري، امتدحه بها، وشكا له فيها من لئام آذوه. وهذا أولها ومنها؛ لأنه قد غاب عني حفظها كلها:

نعم، نعم؛ حدثتني وهي صادقةٌ

ظنون قلبي وقالت لي، تيقنّ بذا

إن الأراذل إن جاورتهم سترى

في كل يـوم أتى منهم بلا وأذى

والبله والحمق والتنكي "وذو سفهٍ

وجـاهـل ومـعـار قـد لغـا وهـذى

دعهم وسر معرضا عنهم فإنهم

للعرض مقذرة بل العيون قذى

ويقول في خاتمتها في مدح الحبسي:

لو يسمحوا لي بكوني خادما لهم

كانوا هم الرجل إجلالا وكنت حذا

وأجابه ناسجا على منوالها وقال:

لله در امـرئ بـان الـصـواب لنا

منه والله أمـر قـاسـه وحـذا

ذوو الفراسة إن ظنوا فظنهم

عقل وعلم وحكم في الورى نفذا

من جاور السقط الأوباش في بلد

كمن توسّد من نار الجحيم جُذى

إقامة الحر بين الحمق مسكنة

قد تكسر الظهر والزندين والفخذا

فأعرضن عنهم.. واجعل كأنهم

في الأرض أبعد منبوذ بها نبذا

واربأ بنفسك واعرف قدر قيمتها

واجعل بعقلك أصنام الفساد جُذا

لا تصحبن سوى من صار منطقه

صدقا فأضحى لطرق الرشد متخذا

کنجل صالح الزاكي محمد ذو

أضحی به رأس من عاداه منفلذا

فلو قدرت عـلـى أدنـى مكافأة

له لأهـديـث أكـبـادي له فلذا

[وأعجب ما أعجب منه تلك القافية الصعبة التي تجاريا فيها].

وكان الشيخ المنتفقي وجيها عند الأئمة اليعاربة، كبير الشأن لديهم، وكان هو أيضا مبجلا لهم، متمدحا بإنجازاتهم وانتصاراتهم على النصارى البرتغاليين، ولما توفي الإمام اليعربي سيف بن سلطان الملقب بـ "قيد الأرض" عام (1123هـ/1711م)؛ رثاه الشيخ بقصيدة طنانة بليغة جدا، جاء في مطلعها:

الرب باقٍ والخلائق فانيه

كرهت نفوسهم الفنا أو راضيه

الله عز وجل يفعل ما يشا

منه القضايا نافذات ماضيه

سبحانه لا جور في أحكامه

بل كلها بالعد فينا جاريه

إن المقدر كائن والصبر من

شأن الموفق إن دهته داهيه

وصروف هذا الدهر شتى والفتى

خوف الشماتة ما يفوه بخافيه

جربت أيامي التي قد عشتها

ورأيت كيف فعالها أياميه

وسمعت من أمم وما فعلت بهم

دنياهم أهل العصور الخاليه

كم شتت كم ثبتت كم فتت

كم بددت جمعا بأبعد ناحيه

كم غيبت من أمة كم شيبت

من لمة غاراتها المتماديه

نزلت مصائبها عليَّ فشيَّبت

قلبي ورأسي ما كفاها رأسيه

كثرت عليّ فكلما قلتُ انجلت

جلت مصائبها وزادت مابيه

هذا اصفرار اللون مني شاهدٌ

مثل احمرار دموع عيني الباكيه

ما أضحكتني بعض يوم غلطة

إلا وأبكتني بقية عاميه

ما ضرها لو سالمتني دائما

فخرجت منها لا عليَّ ولا ليه

إن أثبتت خلدي عزائم همتي

فهموم قلبي للمسرة نافيه

لكن مرد أمورنا لإلهنا

إن لانت الأيام أو هي قاسيه

ثم بعد تلك المقدمة الوعظية البديعة، يذكر الإمام "قيد الأرض" متخلصا من المقدمة إلى الغرض:

لولا الرضا بقضاء مولانا لما

نهضت قوائمنا وسارت ماشيه

ولما طعمنا غمض جفنٍ ليلةً

ولما أسغنا لقمةً في عافيه

بعد انهدام الركن ركن الدين قر

ن المسلمين،مهين منهو طاغيه

من أكمد الحساد لما ساد وانـ

سد الفساد وقاد روسا عاتيه

نور الرعية سورها سمسورها

وسرورها وأبو الجنود الناميه

مخدومنا سيف بن سلطان الإما

م اليعربي، ابن الجدود الساميه

ذاك الهصور الشهم فراس العدا

ذاك الجسور على الأمور العاليه

فسلِ النصارى ما رأوا في برهم

والبحر من تلك الجيوش الغاشيه

ما بالكم أولاد الأصفر صفرّتْ

جمر الوطيس وجوهكم يا صابيه

ثم انقلبتم خاسئين ومسكم

نفخ الوبا فبطونكم كالخابيه

كم غادرت جثث الكلاب مجافةً

أو جيفةً في البحر تذهب طافيه

الفرس سلهم حين فروا بعدما

نظروا فوارسهم أتتهم عانيه

آها على تلك الرياسة والسيا

سة والفراسة والخصال الزاكيه

حزني عليه مؤلمٌ وملازمُ

بل مسقمٌ ومهدّمٌ أركانيه

ومجنبٌ عيني المنام ومتعبٌ

قلبي المحب وملهبٌ أحشائيه

والمسلمون كبيرهم وصغيرهم

في ذي المصيبة كلهم شركائيه

لكنه ما مات من ترك الورى

أفواههم تثني عليه علانيه

فانظر إلى التلاعب بالألفاظ الذي قلل كثيرا من وهج العاطفة، ومن بديع المقدمة الجميلة الزاكية، لقد كان هذا الولع بالبديع سمة لمعظم النصوص لهذا العصر.

عموما" اشتهر الشيخ المنتفقي بشدة الورع، وكمال الزهد في الدنيا، وبلوغ المنتهى في العزوف عنها والتجرد للآخرة وحدها؛ حتى أصبح مضرب المثل في ذلك، وفي قصائده الزهدية في الديوان ستقف على العجب في نظرته إلى الدنيا وزخرفها، وتفننه في كشف حقيقتها، والتبصير بمآلات أحوالها.

لكنه من جهة أخرى- كان شديد التأثر بالنزعة الصوفية، وإلى درجة الغلو أحيانا، كما ستقف عليه في مواضع من ديوانه،.....وقد ظل المنتفقي مستثمرا عمره في التربية والتعليم والتدريس والوعظ والإفتاء إلى أن توفاه الله عز وجل في حدود سنة (1145هـ/1732م) على جهة التقريب، وكانت وفاته في بلدة «كمزار» من رؤوس الجبال، وبها دفن". ومن أجل تخليد اسمه أطلق على مدرسة كمزار (مدرسة محمد بن صالح المنتفقي).

* شاعر وكاتب ومؤلف له أكثر من 70 إصدارا