"الليل يأتي دائما".. سباق شرس مع الزمن يقرر مصير امرأة
طاهر علوان -
لا شك أن السينما عبر تجاربها تعاملت مع عنصر مهم وأساس بشكل استثنائي ألا وهو عنصر الزمن، الذي بقي تحديًا وركنًا مهمًا من أركان الأنواع التعبيرية. وقبل السينما هنالك أسئلة تُطرح بصدد طريقة تعامل الرواية والمسرحية مع هذا العنصر المهم، وهو ما يتعلق بالنتيجة بكيفية إحساس المتلقي بالزمن وكيف تمر المراحل الزمنية بالتوازي مع المسارات السردية.
وهنا سوف نكون في مواجهة أساليب واتجاهات مختلفة خاصة في فن الفيلم، تتمثل من خلالها القدرة على التعامل مع الزمن بوصفه استثناء، وإلى أي درجة بالإمكان الخروج من بوتقته وتدفقه ومروره الصامت عبر أوجه الحياة المختلفة وكيفية توثيقه دراميًا.
في هذا الفيلم للمخرج بينجامين كارون، هنالك تحدٍّ مؤكد وأساس يتعلق بعنصر الزمن، لا سيما وأن الفيلم قد تم إعداده عن رواية كتبتها ويلي فلويتين، فيما كتبت السيناريو سارة كونرادت. وقد تكاملت هذه المهارات سواء على صعيد الرواية أو السيناريو أو الإخراج لتقدم لنا من زاوية ما مقاربة قد تبدو مختلفة عن مقاربات كثير من النقاد الذين كتبوا عن الفيلم، وهي التي تتعلق بركنين أساسيين: الركن الأول هو أحداث فيلمية متسلسلة ومتلاحقة بما تنطوي عليه من صراعات وعنف وعاطفة، أما الركن الثاني فهو استرجاع لسيرة حياة الشخصية وأبرز محطّاتها التي جعلتها هكذا كما شاهدناها. وكل هذا سوف يكتمل خلال ليلة واحدة لا ينجلي ظلامها ولا يطلع نهارها إلا وتكون أحداث الفيلم قد انتهت وحياة الشخصية قد انتقلت إلى مرحلة أخرى.
لقد كان الظهور المتوالي للتوقيت والساعة على الشاشة بعد إنجاز كل مهمة ملفتًا للنظر حقًا، فكل ظهور للتوقيت معناه أن أحداثًا جديدة وتحولات مهمة سوف تقع؛ فها هي لينيت -تقوم بالدور الممثلة فانيسا كيربي- تعيش في ضواحي إحدى المدن الأمريكية وهي تكافح من أجل البقاء والعيش تحت سقف يضمها ويضم والدتها وأخوها المصاب بمتلازمة داون؛ فهي تعمل في أكثر من عمل واحد وتدرس الاقتصاد وتوصل الليل بالنهار من أجل الوقوف على قدميها، لكنها في الواقع وكأنها تعيش في بحر متلاطم من التحديات. ها هي في سيارتها البسيطة ذاهبة إلى عملها في معمل لإنتاج الخبز والمعجنات، تستمع إلى الإذاعات حيث يعلق مذيعوها على الحياة ومصاعبها: تزايد نسبة الفقر، ارتفاع مستويات البطالة، ظاهرة الإفلاس، تفشي السرقة والجرائم، فشل الأسر الفقيرة والمتوسطة في تأمين سكن لائق، تفاقم الديون، إلى غير ذلك.
من جانب آخر، وبناء على تلك الخلفية، تأتيها نداءات شركة الرهن العقاري أن الزمن ينفد وأن بيتهم الذي يسكنون فيه سوف يُعرض للبيع ما لم يدفعوا بشكل عاجل مبلغًا قدره 25 ألف دولار مقدمة للحصول على قرض ومن ثم الاحتفاظ بالبيت. لكن الأم وفي وسط هذه اللحظات المشحونة لا تبالي وتذهب لشراء سيارة حديثة بالمبلغ نفسه. وهنا سوف تجد لينيت نفسها محاصرة ووحيدة؛ الأم غارقة في اللامبالاة وتكره ذلك المنزل لأنه يعيد لها ذكريات غير سعيدة مع زوجها، والأخ الشقيق العاجز عن تلبية متطلبات حياته بسبب عوقه المزمن.
كتب عدد من النقاد من زوايا ومقاربات مختلفة عن هذا الفيلم. فمثلًا يقول الناقد مات زوللر في موقع روجر إيبرت: "إنه فيلم مؤثر وفيه كثير من التوتر، يطرح قضية الفقراء الذين يعيشون كل يوم على حافة الانهيار، ويعملون حتى الإرهاق في بلد بالكاد يكترث لمعاناتهم. إنه فيلم مبني ومنفذ بشكل جميل، مع شخصية رئيسية تكشف لنا عن جوانب سيرة ذاتية وعاطفية تتكشف مع كل مشهد جديد، مع ممثلين ثانويين هم خليط من شخصيات تنتمي إلى عالم الجريمة والهامش. السيناريو بأكمله ينطوي على الكفاءة والإيحاء، يجمع بين عناصر جذب متعددة ابتداء من الأسلوب السائد في البناء الدرامي إلى مساحة واسعة من التشويق والإثارة".
أما الناقدة كيت إيربلاند فقد كتبت في موقع إندي واير عن هذا الفيلم قائلة: "كيربي، هي من بين أكثر الممثلات موهبة، تعمل بجد للموازنة بين الدوافع الخارجية والمشكلات التي تلامس الذات، وهو ما تفاعل معه الجمهور كثيرًا خاصة عند الكشف عن صفحات الماضي. لكن كل هذا السرد المتقن كان يحمل معه نوعًا من الضعف لجهة النهايات؛ نشاهد مسيرة شخصية عاطفية للغاية، تسعى لمواجهة جميع التحديات لوحدها. إنها تقاتل من أجل الوصول إلى هدفها كما تقول. ولكن بأي مقياس؟ ما اختارته هو أقرب إلى رحلة ملحمية، رحلة فوضوية ومأساوية تستجمع كل قدراتها من أجل تحقيق تلك الفكرة الفيلمية الآسرة، مع إحساس متجذر بالمكان حتى مع تذبذب أحداث الفيلم وتوقفه وخفوت زخمه".
وعلى وفق هذه القراءات النقدية ها نحن نواصل رحلتنا الليلية مسابقين الزمن، بينما تطرق لينيت جميع الأبواب قبل أن يأتي الصباح، حيث آخر أجل لدفع المبلغ أو أن يتم رمي الجميع في الشارع.
التوتر في السرد الفيلمي من جهة، وتكشف تفاصيل جديدة عن الشخصيات خاصة بالنسبة إلى لينيت، كل هذا كان من المعالجات البارعة التي نجح فيها المخرج وهو يمضي بنا مع شخصية لينيت المكافحة الاستثنائية التي لا يقف أحد معها قط.
تنعكس على ليل لينيت القاتم نزعات أنانية تستحوذ على الشخصيات المحيطة بها، أما هي فإنها بسبب كونها مختلفة فإنها متهمة بالعصبية والانفعال وعدم التحكم بالذات والمشاعر، ولهذا فإنها تخسر العديد من الوظائف، وهو ما كانت الأم تلقيه على مسامعها. فالأم تحسم أمرها أن هذه ليست معركتها ولا يعنيها ما تتعرض له لينيت من مصاعب. وصديقتها اللاهية بحياتها مع أحد السياسيين ترفض إعادة المال الذي بذمتها إلى لينيت رغم ما سمعته مرات عدة حول المأزق الذي تمر به لشراء البيت.
من جهة أخرى، تصل لينيت إلى نقطة اللارجعة في تلك الدراما الفيلمية، وحيث إن المجتمع لا يرحمها ولا يُعنى بمعاناتها، وأصدقاؤها كذلك، ولهذا سوف تجد نفسها محشورة في قاع المجتمع ولن تكون عنيفة بالفعل لانتزاع ما ينقذها، وأن لا يأتي الصباح إلا وفي يدها شيء من المال الذي ينقذها، بما في ذلك السعي لكسر خزانة صديقتها، وبما في ذلك اللقاء مع صديقها القديم الذي يرفض إقراضها المال أو مساعدتها.
لعل هذه المسارات السردية المتداخلة، التي انطوت على كثير من عناصر الصراع، قابلها ذلك النسيج الفيلمي الذي يمتزج بعنصر الزمن، وحيث تتسارع الأحداث مع تسارع قدوم النهار، وفيما إذا حل النهار من دون ذلك المال، وإن كان قد دفعها للغوص في قاع العنف والجريمة بعدما تخلى الجميع عنها وتركوها في مهب الريح تواجه قدرها.
...
إخراج/ بينجامين كارون
قصة/ ويلي فلويتين
سيناريو/ سارة كونرادت
تمثيل/ فانيسا كيربي في دور لينيت، جنيفر جاسون لي في دور الأم دورين، زاك كوتساجين في دور كيني - مصاب بمتلازمة داون.
مدير التصوير/ داميان جارسيا
