854
854
ثقافة

الكتابة والمشي

27 أبريل 2021
27 أبريل 2021

منى بنت حبراس السليمية -

في العلاقة بين الكتابة والمشي، نقرأ نصوصًا غاية في الإلهام تحرّض أكبر الكسالى المطمئنين إلى أرائكهم على المشي في إثر الخطوات التي وثقتها سِيَرُ بعض الكتّاب والمفكرين والفلاسفة وأقوالهم، وهم يتحدثون عن ممارستهم المشي وشغفهم به لممارسة الرياضتين: البدنية والعقلية، إذ يشكّل المشي لعدد كبير منهم منذ سقراط حاجة أساسية للتزود بالطاقة اللازمة للكتابة والتفكير، فتنقدح الأفكار مع إيقاع حركة المشي، وتتوقف مع توقف حركة الجسد. وكلما استغلق على أحدهم فهم مسألة ما، أطلق قدميه للحركة لتتحرك معها الأفكار وتجول، وتجد طريقها للمعالجة في نهاية حصة المشي تلك.

وليس بمستغرب أن ينبري عدد من الكتّاب لتأليف كتب عن المشي وعلاقته بالكتابة والتفكير، ومن تلك الكتب، كتاب «فلسفة المشي» للفيلسوف فردريك غرو، الذي يفرّق فيه بين الرياضة والممارسة، رافضًا أن يعدّ المشي رياضة وإنما ممارسة؛ لأنه الطريقة المثلى لمقاومة تسارع حياتنا المعاصرة. ويربط من جهة أخرى بين مسافة المشي وعمق الفكرة التي تتولد أثناء المشي، فبضع خطوات لا ينتج عنها طريق، كما أن التفكير القصير لا يخلق فكرة.

أما ريبيكا سولنيت مؤلفة كتاب «تاريخ المشي»، فتقول: «إن المشي في أفضل حالاته، هو تلك الحالة التي يندمج فيها العقل والجسد والعالم، وكأنهم ثلاثة أشخاص يتحاورون أخيرًا، ثلاث نغمات اجتمعت، وفجأة، شكلت مقطوعة. المشي يسمح لأجسادنا أن تكون في العالم دون أن تنشغل به. يمنحنا الحرية لنفكر دون أن نضيع تماما داخل أفكارنا». في حين يقول الفيلسوف الفرنسي ميشيل دي مونتيني: «ترقد أفكاري إذا أقعدتها. ولا يعمل ذهني ما لم تُحركه الساقان».

ويختم الفيلسوف المغربي عبدالسلام بنعبدالعالي كتابه «لا أملك إلا المسافات التي تبعدني» بموضوع يحمل عنوان «الفلسفة .. مشيا» ويورد فيه 26 مقولة وخلاصة تقرن بين الفلسفة والمشي. ويحدث أن تطالعنا بعض أشكال الربط بين الكتابة والمشي إلى حد يبدو مبالغا فيه؛ ففي مقال لفادي توفيق يجعل من الكتابة نتيجة لازِمة للمشي حمل عنوان «أنت تمشي، إذن أنت تكتب» جمع خلاصات آراء المفكرين والفلاسفة عن المشي، منذ بدأت الكتابة عن المشي مع روسو، ثم نيتشه، ورامبو، وآخرين.

وفي الأدب نقرأ نصوصًا تناولت ارتباط الكتابة بالمشي، ومنها مثلا فصل كامل ضمن كتاب السيرة الذاتية «شارع الأميرات» لجبرا إبراهيم جبرا. حمل الفصل عنوان الكتاب نفسه «شارع الأميرات». يتحدث فيه جبرا عن علاقته بالمشي، واصفًا نفسه أنه من عشيرة المشّائين الذين لا تخلو حضارة منهم منذ الفلاسفة اليونانيين. فمنذ طفولته المبكرة في بيت لحم قضى جبرا مشاوير حياته ماشيًا إلا فيما ندر، ثم ماشيا في دروب القدس التي انتقل إليها ليدرس في الكلية العربية في خريف عام 1935، قبل أن يسافر إلى المملكة المتحدة، ثم يستقر أخيرا في بغداد.

يتحدث جبرا عن «شارع الأميرات» الذي يصفه بأنه أجمل شوارع بغداد. وقد استعارت الشوارع القريبة منه والمحاذية له الاسم ذاته، بما فيها الشارع الذي أقام فيه. يتأمل جبرا تفاصيل الشارع، وما يزيد فيه من بيوت وأشجار، وما ينقص منه بالهدم أو الموت والرحيل، وما قد يتغير من ملامحه مع الوقت وتعاقب الأحداث. يخرج للمشي وحيدا أو في جماعة من الأصدقاء والجيران. يفعل ذلك بدأب، ففي هذا الشارع وُلدت أفكار معظم كتبه التي أنجزها بعد استقراره في بغداد، وتحديدًا في «شارع الأميرات». يختم جبرا هذا الفصل بعبارة تقول: «في يوم مضى كنت أتساءل، كلما فرغت من تهيئة كتاب جديد: كم فنجانا من القهوة شربت على هذا الكتاب؟ وكم غليونا دخنتُ، وكم أسطوانة وشريطا من الموسيقى سمعت؟ وفي السنوات الأخيرة أدركت أن عليّ أيضا أن أتساءل: وكم كيلومترا في كم طلعة مشيت في شارع الأميرات لأكتب ما كتبت؟». ويتفق جبرا مع «غرو» في أن المشي لا ينبغي أن يكون سريعا؛ لأن المشي السريع يناقض التفكير العميق الذي يتطلب التأني وتقليب الرؤى.

وبخلاف سيرة جبرا الذاتية هذه، نعثر على نص سردي لطيف صُنّف بأنه قصة طويلة حملت عنوان «مشوار المشي» يدافع مؤلفها روبرت فالزر على لسان بطلها عن رياضة المشي المُهمة جدا بالنسبة له بصفته كاتبا لا يستطيع الكتابة من دون أن يمشي، مستخدما في مواضع كثيرة لفظة «التمشي» للإمعان في فعل المشي.

ولكن البطل الماشي في هذا النص مضطر للدفاع عن ممارسته المشي في الوقت الذي يكدّ الناس من حوله لكسب قوتهم. يقول: «أخجل من نفسي حقا لكوني أتمشى وحسب، فيما يكدح آخرون كثيرون ويكدّون. من المحتمل أن أكدّ وأنتج لاحقا، بعد ما يكون كل هؤلاء العمال قد أنهوا عملهم والتفتوا لراحتهم». ولكن إحساسه بالخجل الضمني من احتمال أن يكون مجرد متمشٍ بين أناس يكدّون ويكدحون، سرعان ما يتحول بعد قليل إلى مواجهة صريحة عندما يقابل صديقا في مشواره يقول له: «يبدو لي أنك تتمشى ثانية في عزّ يوم عمل»، ولا يملك إزاء هذه الجملة المستهجِنة إلا أن يرد عليه بالاعتراف بأنه محق في رأيه بأنه يتمشى، قبل أن يستدرك: «فكرت بصمت وتابعت دربي بسلام، دون أن أنزعج إطلاقًا من كوني ضُبِطتُ متلبسا وأنا أمشي، الأمر الذي كان سيكون تعبيرًا عن محض غباء».

يكره البطل في هذا النص السيارات ويصفها بالوقاحة ويصف سائقيها بالحقارة، ولهذا الانطباع سبب وجيه لا يصدر إلا عن شخص يفرّق جيدًا بين المشي بالأقدام والسير بالسيارات. يقول كلما مرت سيارة بالقرب منه: «لا أنظر مطلقًا إلى الركاب، الذين أحتقرهم، ليس شخصيًا على الإطلاق، بل من حيث المبدأ، إذ إني لا أفهم ولن أفهم أبدا، كيف يمكن أن يستمتع الإنسان بأن يتجاوز مسرعا كل المباني والأشياء التي تتشكل منها أرضنا الجميلة». يسوق بطل القصة كثيرًا من الأسباب التي تضطره للمشي الذي يماثل حبه للكتابة، فخلال المشي «تخطر الأفكار في البال كبرق خاطف أو كالتماعات تحتشد من نفسها لتجد من ثم معالجاتها بعناية».

يستوقفنا في هذه القصة بنحو خاص أمران مهمّان: أولهما أن النص برمته مبني على نتيجة المشي، ومشاهدات البطل خلال رحلات المشي الطويلة، وحكايات البشر الذين يقابلهم. نراه ينخرط في أحاديث مع أشخاص لا يعرفهم، ويدخل في مشاجرات مع آخرين. يتابع القارئ هذا البطل في حركته، ويشاهد بعينيه، ويستمع إلى حواره مع هذا وذاك، ومع مسؤول الضرائب وهو يطلب منه أن يعفيه من أية زيادة ضريبية لأنه كاتب فقير، ولكن هذا المسؤول يواجهه بالاتهام ذاته مرة أخرى قائلا له: «لكنك تُشاهَد دائما وأنت تمشي». على إثر هذه العبارة يقدم البطل مرافعة طويلة تمتد لصفحات عن أهمية المشي بالنسبة له كحالة شخصية لا يستطيع الكتابة من دونها. يقول: «لابد لي من أن أتمشى، لأحيي نفسي وللحفاظ على اتصالي مع العالم الحي، الذي إن لم أحس به، لن أقدر على كتابة نصف حرف ولا تأليف أبسط قصيدة سواء شعرًا أو نثرًا. دون الخروج للمشي سأموت، ومهنتي التي أحبها بشغف سيُقضى عليها. دون المشي والاستطلاع لن أتمكن من صياغة تقرير أو حتى موضوع صغير، ناهيك عن قصة طويلة كاملة. دون المشي لن أتمكن من تسجيل مشاهداتي وتدوين بحوثي، ولا شك في أن رجلا ذكيا ونبيها مثلك سيفهم المسألة فورًا. في أثناء مشوار مشي جميل وطويل يخطر في بالي ألف فكرة عملية مفيدة. أما إن بقيت حبيس البيت، فسأتيَبّس وأتعفن بصورة تعيسة. التمشي بالنسبة إلي ليس صحيًا وجميلًا فحسب، بل هو نافع ومفيد».

سنكتشف أن هذه العبارات هي نفسها عبارات جان جاك روسو في كتابه الاعترافات عندما يقول: «علي أن أمشي لتحفيز وتنشيط نفسي، ولأبقى على صلة مع العالم، من دون المشي ما كنت لأستطيع الكتابة ولو حتى كلمة واحدة، أو قصيدة، أو قصة، أو مقالة، من دون المشي سأكون قد أجبرت على التخلي عن حرفتي التي أحبها كثيرا». وعلى ما يظهر في أمر هذه القصة الطويلة لروبرت فالزر أنها تجسيدٌ لشخصية كل الذين امتهنوا المشي من أجل الكتابة، واستعارةٌ لمقولاتهم على لسان بطلها الذي يمر بالتجربة الحسية الكاملة خلال رحلة المشي اليومي، ثم يعود ليصبّها في آخر اليوم على الورقة البيضاء التي ما خرج إلا هاربا من استفزازها في الصباح.

أما في الأدب العماني، فأستحضر إحدى حلقات برنامج «بوح» التلفزيوني للمخرجة مزنة المسافر، التي استضافت فيها الشاعر عوض اللويهي. أتذكر بنحو خاص نصه المصوَّر عن علاقته بالمشي، بينما كاميرا محمد الفارسي تتبعه ماشيًا في الممشى الطويل حاملًا دفترًا صغيرًا وقلمًا، ويقول: «في الطفولة، حيث لم تكن السيارات بتلك الوفرة التي عليها الآن، كان أبي يحملني على كتفيه، وأكون أنا ممسكا برأسه. كان العالم يظهر لي بشكل مختلف. إنني أجلس على كتفَي أبي القويين، كما كان ذلك منذ أكثر من ثلاثين سنة. الذهاب إلى السوق مشيًا. الذهاب إلى المدرسة مشيًا. الذهاب إلى المستشفى مشيًا. في الممشى كانت الأفكار تأتي صافيةً وطازجةً. نعم ليس المشي رياضة للجسد فقط، بل إن الإنسان عندما يتخلص من الثقّالات التي تجذبه إلى الأسفل يجد في داخله القدرة على الرؤية بوضوح تام. هل أحتاج إلى شيء آخر في الممشى؟ نعم. أحتاج إلى دفتر صغير، وقلم، وقلب قادر على اقتناص فراشات الضوء التي تفرّ عن يميني وشمالي. أنا مدين للمماشي بالكثير، ففي كل مرة أفارق الممشى، أشعر بأنني إنسان مختلف عن الذي جاءه قبل ساعة أو ساعتين أو أكثر».

لقد كان هذا النص المصوَّر إحدى اللُّقى الأدبية التي وقعتُ عليها على حين صدفة؛ إذ قلّما يخبرنا الكاتب العماني كيف يكتب، أو ما هي طقوس كتابته؛ فهو من التواضع ما يجعل من تقييد سيرته الكتابية مشروعًا في خانة المؤجل حتى حين في أحسن الأحوال. وليس أجدر من سؤال صحفي يستحثه للكشف عما يسبق عملية الكتابة وما يرافقها. وهذا ما حدث عندما طرحت جريدة عمان في مطلع عام 2018 سؤالا على مجموعة من الكتّاب العرب عن علاقتهم بالمشي وارتباطه بالكتابة تحت عنوان «المشي والكتابة في رحلة الأشواط البعيدة». فكان ممن أجابوا عن السؤال من الكتّاب العمانيين: ليلى عبدالله، وهدى حمد، ومحمود حمد، وعبدالله العريمي.

وفي الواقع، بوسع القارئ أن يعدّ إجاباتهم نصوصًا أدبيةً عن علاقتهم بالمشي الذي أخرج إلى النور عددا من شخصيات رواياتهم، أو مجاميع كاملة من قصائدهم. نقتبس مثلا عبارة الروائية هدى حمد تقول: «في تلك المسافة بيني وبين البيت، أشدّ خيط الحكاية، أو أُنعش شخصية أتعجب حول إمكانية اختمارها الطويل بين ملفات الذاكرة. يا إلهي .. كم من الأشياء تحدث في المشي البطيء والذاهب للتأمل». فيما يقول الشاعر محمود حمد: «معنى أصيل يزرعه المشي في الأمكنة المختلفة مدنا وقرى وفِجاجا، يحمل كل شارع في دواخلنا اصطداما بقسوة الجمال في صخب الإسمنت». أما الشاعر عبدالله العريمي فيقول: «هل للحركة الدموية فعلها المنعكس على الكتابة إذن؟ ربما هو ذاك، بيد أن الذي أعرفه هو أن اكتشاف محيط الحركة اللغوية، ومساراتها يبدأ حين يبدأ النشاط الجسدي بتنظيم إيقاعه وتتسع فضاءات التخييل والتذكر حين تتسق دقات القلب مع خطواتنا، فتبدأ حينها الكلمات بالتساقط كأوراق الورد». في حين تستلهم ليلى عبدالله نمط حياة الياباني هاروكي موراكامي في المشي وتقول: «لا أنكر أن نمط حياة الروائي الياباني «هاروكي موراكامي» يثيرني شخصيًا، وصرت مثله أعتني بصحتي وطعامي وأخصص ساعة أو ساعتين يوميًا لرياضتي المفضلة «المشي»، أترك حينها خيالي طليقا وبخفة أمضي في ممشاي اليومي مستغرقة في اصطياد أحلامي المنفلتة».

تلهمنا النصوص التي تتحدث عن العلاقة بين الكتابة والمشي على مستويين: مستوى جمالي ومستوى بدني. إنها نصوص تثير في القارئ رغبة المشي فور الانتهاء من قراءتها. وأحسب أن الكتابة ليست وحدها ما يحتاج إلى حركة الأقدام، بل القراءة أيضا. وعن علاقة القراءة بالمشي مقال آخر!