No Image
ثقافة

الطواريد نحن

22 مارس 2024
22 مارس 2024

إن حال القبائل العربية الذي وصلت إليه أسست إلى فرقة، أغرت الآخرين بالغزو، فما كان من القبائل إلا الوحدة لدحر العدوان. لقد كان شيوع حالة من أساليب الحكم والإدارة مؤسسا لحالة مختلطة، ليس لها ناظم قويّ يستند إلى متطلبات العصر.

فهل كان مسلسل «الطواريد» الذي أنتجته شركة كلاكيت ميديا للإنتاج الفني بهذا الوعي الفكري، والذي تم تقديمه من خلال أداء كاريكاتيري ساخر وكوميدي في آن واحد؟ إذن فإن ذلك يعني أننا إزاء عمل درامي جاد يهدف إلى النهوض بالمجتمع العربي، باتجاه التنظيم والعصرنة، وقيم العروبة والتضامن، والاستقلال وتجنب التبعية الثقافية والاقتصادية.

كانت نهاية المسلسل تفاؤلية، فمن ناحية سياسية، تتصالح القبيلتان، وتتحدان معا في مقاومة الغزاة، ومن ناحية اقتصادية، ثمة حالة رفض، تقودها النساء، للانفتاح الاقتصادي، وثقافة السوق الاستهلاكية.

استعدت هذا المسلسل، في سياق تناولي للمجتمع العربي في الدراما العربية، فكانت المسلسلات الثلاث: الطواريد، والخربة، وضيعة ضايعة، دافعة لي اختيار عنوان «كركبة»، أو «هلهلة». وكنت قبل عقد من السنوات قد تناولت «الطواريد»، بشيء من القراءة من منظور نقدي انطلق منه العمل الفني للمجتمع.

لكن مشاهدة حلقات المسلسل بعد 9 سنوات جعلتني أخصص مقالي هذا له. ثم «جوجلت اسم الكاتب والمخرج، فوجدت أن المخرج مازن السعدي هو سوريّ من أصل فلسطيني، كان قد أخرج المسلسل وهو ابن 35 عاما، لكن لم يمض عامان حتى توفي. كان ذلك عام 2018. رحمه الله. قليلة المعلومات عنه، لكن عمل مونتير، أي في المونتاج، ثم انتقل إلى الإخراج، وكان «الطواريد» أول مسلسلاته.

وعند البحث عن الكاتب شادي دويعر، وجدته في عالم الفيسبوك، فطلبت صداقته، وبعثت له ما كنت قد كتبته من سنوات، ولا أدري هل كان قد قرأ المقال وقتها أو الآن.

الطواريد مسلسل سوري كوميدي اجتماعي عرض في شهر رمضان 2016 من إخراج مازن السعدي وتأليف مازن طه. تدور أحداث المسلسل في بيئة كوميدية بدوية حول (خلف) و(مهاوش)، الرضيعان اللذان يعثر عليهما (طرود) زعيم قبيلة الطواريد قبل ثلاثين عامًا، ويأمر برعايتهم كما يأمر نساء القبيلة بإرضاعهم، وبسبب شراهتهم يرضعون من كل النساء مما يجعلهم أخوة بالرضاعة لجميع بنات القبيلة عدا (وضحة)، فيتنافسان على حبها كما يتنافسان على الكثير من الأمور. المسلسل من بطولة أحمد الأحمد ومحمد حوافي ونسرين طافش هذه هي بنية المسلسل الاجتماعية، والتي تكون خلفيتها منظومة حياة القبيلة، بكل ما فيها من جديد وقديم، حيث يصبح (أو يتقاطع) الخلاص الفردي لأفراد القبيلة بخلاصها العام، وليس فقط خلاص خلف ومهاوش ووضحة وآخرين. ترى ما الذي جمع دويعر الكاتب بالسعدي المخرج؟ أما دويعر فكتب القصة، في حين كتب السعدي السيناريو والحوار، لكن ثمة رؤية ما جمعتهما، كقاص وفنان؟ ما جمعهما هو الفن والفكر، والإيمان برسالة الفن السامية، للارتقاء بحياتنا العربية، ليتم تأسيسها على أرض أكثر صلابة.

تكاد مقدمة المسلسل، والتي في نهايتها، يظهر على الشاشة من يقود تراكتورون في حين يقود رجل في الاتجاه المقابل مجموعة جمال، تختصر بصريا فكرة الحالة المختلطة، ليس في مجال تعدد أساليب العيش، بل إن ذلك يتعلق بالمنظومة بكاملها، وذلك هو تحدي حياتنا العربية التي لم تحسم بعد في اختياراتها الثقافية، ولعل ذلك هو سؤال المسلسل الذكي والصادم.

ولعل الكاتب-المخرج لم يردا بلدا معينة، بل حتى اللهجة المستخدمة كانت لهجة عربية سائدة تجمع البداوة المعروفة عربيا في كل الأقطار، انطلاقا من استهدافه البلاد العربية وليس بلدا بعينه.

أما الأزياء، للفنانة رجاء مخلوف، فقد أسهمت في التعبير عن الحالة الثقافية السكانية من خلال الشكل، والذي كان خليطا من ملابس بيئات متنوعة، شملت حتى ضابط الشرطي.

وهي هنا، أي فضاء المسلسل، بالرغم من طابع البداوة، إلا أنه عند التعمق فيه، سنجده خليطا بين البداوة والريف وإرهاصات مجتمع مديني الذي مثله التاجر ذو اللهجة الشامية.

في مضرب شيخ القبيلة، تجلس الرعية، يواكبون التحولات حولهم، وداخل قبيلتهم، وما يجدّ فيها من أحداث، خاصة التكنولوجيا، كالكهرباء وما ارتبط بها من مظاهر كالتلفزيون، وما يقدمه من فنون. كذلك تظهر رموز اقتصادية تتعلق بوجبات الطعام الغربية، والمولات، والمقاهي وما فيها من حكواتي ولعبة التريكس. وتظهر المهرجانات، وسلوك السلطة في خلق المشكلة وحلها عبر الترويج الاقتصادي. ويظهر ضابط الشرطة النزق كوجه للسلطة، وهو ينافس شيخ القبيلة «طرود»، وكيف يقوم بالرقابة والترخيص وضبط النظام. ويظهر خلال ذلك شاعر القبيلة كرمز نقديّ للإعلام العربي التقليدي.

ويظهر المبعوث الذي يقوم بالمصالحة بين القبلتين، حيث يردد عبارة: «أشعر بالقلق»، في إشارة للنزاعات العربية.

نستطيع فهم هذا النقد السياسي والثقافي والاقتصادي والأمني والاجتماعي والإعلامي من خلال الكثير من المشاهد، فمن خلال استخدام فكرة السرد القصصي، بتطوير الحكواتي بمصاحبة اسكتشات مسرحية، من خلال النافذة في «بيت العريشة» كرمز لمربع شاشة التلفزيون، واستخدام الإعلان التجاري، ومباركة الضابط لهذه الفكرة، نستطيع فهم دور كل المؤثرين في المجتمع، حيث يتم إلهاء الجمهور بالسرديات بأساطيرها ومبالغاتها، وتوجيه المجتمع بالتالي ثقافيا وسياسيا، كذلك اقتصاديا، في حين يحافظ رجل الأمن على هذا السياق.

نقد الواقع العربي الملتبس بين القديم والحداثة؛ هذا هو حال المجتمعات العربية بكل بساطة، في الحكم والنظم، والتي ظل الحال فيها مترددا بين القديم والحداثة، منهجا خليطا غريبا، عبرت عنه مصممة الأزياء بتلك الملابس المهلهلة، خصوصا في زي الشرطي، رمز الدولة، والتي هي أصلا انعكاس لهذه الثقافة، والتي أيضا يحكم ساستها من خلال التخويف.

إنها مقولة الحداثة والتنظيم والعصرنة والوحدة، وهو ما يحتاجه المجتمع العربي بشكل عام، والأقطار العربية التي ما زالت ملتبسة بين الحكم التقليدي، الذي كان أرضا خصبة لمظاهر اقتصادية لا تلبي الحاجة الفعلية للمواطنين.