No Image
ثقافة

الطريق إلى الريف

19 أغسطس 2025
بين ضفتين
19 أغسطس 2025

هل يمكن لكاتب أن يروي قصة حرب في بُعدها الكوني؟ وكيف له أن يروي قصة صراع محدّد؟ بالتأكيد استطاع الأدب ذلك، إذ يكفي أن نذكر مثلا "الحرب والسلم" لتولستوي، و"ذهب مع الريح" لمارغريت ميتشل و"الدكتور جيفاغو" لباسترناك وغيرها الكثير من الأمثلة. والمحدد الذي أتطرق إليه هنا، "حرب بيافرا" التي مزقت نيجيريا بين عامي 1967-1970. الكاتب النيجيري تشيغوزي أوبيوما [*] يجيب في كتابه "الطريق إلى الريف"، على هذين السؤالين عبر رواية كبيرة، يستخدم فيها لغةً أقلّ شاعريةً، مثلما عرفناها في رواية سابقة له هي "صلاة الطيور"، وذلك للتعبير عن الطبيعة الساحقة، المُذهلة والحادة في آنٍ واحد، للمعارك المتكررة. كما يُجسّد في كتابه تنوّع بلدٍ لم يُحرّر من الاستعمار بعد.

في "صلاة الطيور" سيطر القدر على الرواية، في صورة قدر اجتماعي. حيث وقع مزارع الدجاج شينونسو، في حبّ فتاة برجوازية. سؤال القدر يبرز مجددًا في صميم رواية "الطريق إلى الريف"، ولكنه يمتدّ إلى نطاق بلد بأكمله. وكما في روايته السابقة، يلجأ تشيغوزي أوبيوما إلى المعتقدات التقليدية لبناء سردية تأخذ في الاعتبار رؤية شخصياتها للعالم.

في عام 1947، تلقى إغبالا أودولاميسي، "العرّاف"، رؤى من الإلهة إيفا، "مؤرخة اللاوعي"، تكشف له عن مستقبل جنين سوف يولد. ومن خلال هذه الرؤى، اكتشف العرّاف الحرب القادمة. حتى أنه وافق على التخلي عن هبته ليُنذر علنًا بالصراع المُقبل. لكن من دون جدوى: ففي السنوات التي تلت الاستقلال في العام 1960، تمزقت الجماعات العرقية الرئيسية في نيجيريا، الهاوسا واليوروبا والإيغبو، وانفصلت عن بعضها.

الطفل الذي لمح العراف مستقبله، يدعى كونلي، وهو الشخصية الرئيسية في الرواية. حين كان في التاسعة من عمره، أرسل أخاه الصغير ليلعب في الشارع حيث صدمته سيارة، ممّا أدى إلى إصابته بالإعاقة، لذا ترك كونلي نفسه ليقع فريسة الشعور بالذنب. كان غائبا عن الآخرين وعن نفسه، ولا يجد الكلمات المناسبة للتواصل. كان من أمّ تنتمي إلى الإيغبو وأب من اليوروبا، وطالبا في العاصمة، عندما أعلن جنوب شرق نيجيريا الغني بالنفط – موطن الإيغبو – استقلاله تحت اسم جمهورية بيافرا؛ لذا لم يشعر بالقلق من جراء الأحداث. لكن توندي، أخاه الصغير، لحق بحبيبته إلى بيافرا، فانطلق كونلي للبحث عنه ليعيده إلى الوطن وينقذ نفسه. لكنّ لعنة ما كانت تحلّ عليه في كلّ مرة يحاول فيها مغادرة المنطقة التي مزقتها الحرب أو الفرار من جيش بيافرا الذي جنّده قسرًا، ليضيع، ويبقى عالقًا في نوع من التيه الهلوسي الذي يعيده دائمًا إلى العنف والحرب.

بعيدًا عن أي نوع من أنواع بطولة، يُجسّد تشيغوزي أوبيوما الحرب في أوج عطائها على مثال هذا "الجندي العشوائي". تتكرر مشاهد القتال، فوضى عارمة لا يملك فيها كونلي ورفاقه أي سيطرة عليها، ولا يفهمون منها إلا القليل. مثل فابريس في معركة واترلو التي ستمتد، مع فترات توقف، ولكن من دون نهاية حقيقية؛ إنها ذاك الكابوس الأشبه بالسير أثناء النوم، والذي يتشكل في معظمه من البقاء مختبئين في خندق تحت وابل المدفعية، مع اختلاف وحيد هو تصاعد وتيرة القتال في "الوسخ والجروح والقتلى". كان الجميع يبكون بلا انقطاع، يسيل المخاط على وجوههم، يتبولون ويتغوطون. تُسبب عمليات القصف "خدرًا لا نهائيًا في الجسد، [...] وجنونًا في العقل الذي يلتفت باستمرار إلى حدود الحياة، والصقيع الذي يستقر أخيرًا على الروح ولا يذوب إلا بانقضاء اليوم".

يجد تصوير القتال، شديد الواقعية، تناقضه في اللحظات التي يرى فيها العراف، وحيدًا على تلة طوال ليلة كاملة، رؤىً لما يمر به كونلي. شاهد قلق عاجز عن التدخل، فهو نسخة طبق الأصل من القارئ والراوي. تتكشف المأساة من خلال عينيه. الطريق المذكور في العنوان هو الطريق الذي يقود كونلي إلى بيافرا، موطن الإيغبو، والذي سيعيده أيضًا إلى منزل والديه، ولكنه سيعيده أيضًا إلى المسار الروحاني الذي يسلكه الموتى. فمصير كونلي الاستثنائي سيسمح للعراف برؤية "الأحياء الأموات يتحدثون ويتحركون"، ما يجعل "الطريق إلى الريف" كتاب حزن، فرديًا وجماعيًا.

يبدو سياق الكتاب الجيو-سياسي كخلفية مُحيّرة. يستذكر تشيغوزي أوبيوما "المذابح" ضد الإيغبو في شمال نيجيريا التي سبقت إعلان الاستقلال، والتي حفّزت التزام العديد من رفاق كونلي. تلقت بيافرا، تحت الحصار، مساعدات من العاملين في المجال الإنساني - أدت هذه الحرب إلى إنشاء منظمة أطباء بلا حدود عام 1971 - الذين استهدفهم الجيش النيجيري. نلتقي بأطباء وممرضين، وبشكل أكثر شمولاً، مرتزقة حقيقيين: رولف شتاينر، وتافي ويليامز، والصحفي فريدريك فورسيث. إذ بدت نيجيريا، التي استقلت لتوها، بمثابة نقطة انطلاق للقوى الأوروبية والمغامرين.

تكتسب الشخصية الرئيسية ورفاقها صلابةً، ويصبحون مقاتلين من النخبة، ويُظهرون مهارات بطولية في البقاء. لكن جيش بيافرا يواصل تراجعه، وتنتشر المجاعة والدمار، ويظل كونلي عاجزًا بشكل متزايد عن التأثير على مصيره، أو عن التخفيف من ذنبه بإنقاذ أخيه، أو في العثور على المقاتلة التي وقع في حبها.

يجعل تشيغوزي أوبيوما اللغةَ بطلةً للحرب. وينعكس هذا الاختلاط العنيف الذي تُحدثه في بوتقةٍ من اللغات. تشرح المترجمة (إلى الفرنسية) في المقدمة صعوبةَ نقلِ فسيفساء اللغات التي يستخدمها المؤلف، حيث تتحدث الشخصيات المختلفة "الإنجليزية النيجيرية القياسية الممزوجة بالإيغبو أو الأقل إتقانًا، الإنجليزية النيجيرية المنطوقة، والبيدجين النيجيرية، واليوروبا، والإيغبو، أو حتى مع تداخلاتٍ بين لهجةٍ وأخرى، وبشكلٍ أكثر طرافةً، الهاوسا، والفرنسية، والإنجليزية الأمريكية، أو لغة شكسبير". وما هذه اللغات سوى تعبير عن الفوضى التي يُكابدها كونلي، فهي تأتي مجروحة أحيانا، أو مُبتورة، أو مُستحيلة النطق. في مناسبات عديدة، يعزل جهله بلغة الإيغبو شخصيةً أصبحت غريبةً إلى الأبد، شخصًا بلا جذور بلا ملاذ، ولكن مع تطوّر أحداث الرواية، تُعيد الحرب رفاقه في السلاح - أولئك الذين ما زالوا على قيد الحياة - إلى النقطة نفسها. ينجح تشيغوزي أوبيوما في سرد أحد أصعب الأحداث التاريخية في التعبير، وهي حرب أهلية – يكفي أن يقرأ المرء بعض المقالات ليُدرك أن حرب الذاكرة لا تزال قائمة - معبرًا في الوقت نفسه عن مشاعر كونية. الشعور بفقدان السيطرة على المصير، وزيف الحياة: "بينما ينتظرون، ينسحب العالم ببطء، كدعامة تُدفع برفق نحو مؤخرة المسرح". نخرج من "الطريق إلى الريف" مذهولين، ولكن أيضًا كما لو كنا قد تطهرنا من شيء ما، سعداء بقراءة قصة كان لا بدّ من روايتها والاستماع إليها، كقصص الموتى التي يفرح كونلي والعراف بسماعها خلال "كرنفال"، مشهد بديع في هذه الرواية المليئة بالألم والإرهاق.

(*) نقلت روايتان له إلى العربية: "الصيادون" (ترجمة إيهاب عبد الحميد عن "دار جامعة حمد بن خليفة للنشر" 2018) و"أوركسترا المغلوبين" (ترجمة خلود عمرو، دار التنوير، 2021).