No Image
ثقافة

السيرة النبوية رؤية تحليلية ونظرة تصحيحية

26 مارس 2023
26 مارس 2023

لم تهتم أمةٌ من الأمم بسيرة نبيّها كما اهتمّت أمةُ الإسلام بسيرة نبيّها محمد صلى الله عليه وآله وسلم، حيث أُلفت في سيرته المؤلفاتُ العديدة بلغات مختلفة، تجاوزت الثلاثين ألفًا، كما ذكر ذلك الشيخ أحمد بن سعود السيابي أمين عام مكتب الإفتاء، في مقدمة كتابه "السيرة النبوية - رؤية تحليلية ونظرة تصحيحية"، ممّا جعلني أتساءل - والحالةُ هذه - ما الذي قد يضيفه كتاب الشيخ السيابي، بعد أن سبقه ثلاثون ألف كتاب؟ وفي الواقع يُعدّ الكتاب من أفضل كتب السيرة النبوية، إذ جاء شاملا لقضايا هذه السيرة من الولادة وحتى الوفاة، وما ميّزه هو ما جاء في العنوان الجانبي للكتاب، أي الرؤية التحليلية والنظرة التصحيحية للكثير من الأمور التي اعتقد كثيرون على مرّ العصور أنها من المسلمات؛ لذا جاء الكتاب ممتعًا من حيث رقي اللغة والمناقشات والتحليلات لقضايا كثيرة لم تناقش من قبل أو أنها نوقشت على خجل، لأنّ السيرة النبوية "حُمّلت الكثير من المفاهيم، وأدخل فيها الكثير من الأفكار أو النقول: أي أنها أخضعت للكثير من الرؤى السياسية والمذهبية والطائفية عبر مراحل تأليفها" كما يقول المؤلف في المقدمة. وقد اتّبع في تأليفه للكتاب الأسلوب التحليلي والتصحيحي، "رغبة في الوصول إلى المعلومة الصحيحة المواكبة للحراك النبوي الشريف، وتلمسًا للحقيقة من ذلكم الحراك".

صدر الكتاب عن مكتبة الضامري عام ١٤٣٧هـ / ٢٠١٦م في 641 صفحة، ركز المؤلف في الفصول الأولى منه على نسب الرسول عليه الصلاة والسلام، مع العروج إلى ذكر قصة سيدنا إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام واستقرارِهما في مكة المكرمة وبنائهما البيت الحرام. ويقدّم تاريخًا عن العرب، بعيدًا عن الخلافات الأيدولوجية التي ظهرت مؤخرًا، وأقامت معركة وهمية بين العروبة والإسلام، فيخصص فصلا في الكتاب بعنوان "لماذا كان محمدٌ صلى الله عليه وسلم من العرب؟" ويُجمل الأسباب في أنّ العامل الأول هو جغرافية المكان؛ فالعربُ كانوا يقطنون في الجزيرة العربية التي ما زالت بحكم جغرافيتها تقع في أرض تحيطها الحضارات العظيمة من كلّ جوانبها؛ فكان العامل الجغرافي تهيئة وتأطيرًا مناسبًا لانطلاق الدعوة الإسلامية إلى مشارق الأرض ومغاربها. أما العامل الثاني فهو النسب؛ فأسرةُ النبيّ عليه السلام كانت أسرة كريمة المحتد، عظيمة القدر، جليلة وعزيزة، فلا شك إذن أنّ عامل النسب ضروري لانقياد الناس. ويشير المؤلف هنا إشارة بليغة لا ينبغي تجاهلها إذ يقول: "فمع ثبوت وامتداد نسب سيدنا محمد لأبيه إبراهيم عليهما السلام في الدعوة وفي الدين والإسلام، فإنه لا يمكن الاتكاء على ذلك النسب فحسب دون العمل؛ فالنبيّ عليه الصلاة والسلام كان يخاطب قومه وأهله من بني هاشم ويقول لهم: "لا يأتيني الناس بأعمالهم يوم القيامة فتأتوني بأنسابكم"؛ فالنسبُ وحده غيرُ كاف ما لم يكمله ويُضمّ إلى العمل"؛ أما العامل الثالث فهو الأخلاق والسلوك، حيث وصل المجتمع العربي قبيل مولد النبيّ عليه السلام إلى مرحلة عالية من السلوك الحسن والمروءة، إذ كانت هنالك ثوابت ومسلمات في السلوك الاجتماعي، لا يمكن التنازل عنها أو المساس بها، وجاء الإسلام مقرًا لهذه السلوكيات ومهذبًا لشيء من الإفراط والتعدي الذي يشوب بعضًا منها، وهذا إنما يدلّ على ما للعرب من أخلاق فاضلة وقيم نبيلة. ويرى الشيخ أحمد بن سعود أنّ هذه السلوكيات هي التي جعلت العرب يقبلون على الإسلام ويحملون فكره بكلّ إخلاص، لأنها كانت من عادات كانوا يألفونها ويهذبون بها أبناءهم. ويكمل بقية العوامل بـ"سلامة الفطرة" و"خشونة الحياة" و"قوة البيان". ويفنّد الشيخ أحمد السيابي في فصل "مولد النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم" ما وضعه "الشعوبيون" من مُستنقِصات من شأن العرب؛ وهو الاستنقاص الذي وجد هوىً في أفئدة كثير من المستشرقين، فأخذوا يرددونها؛ ومن ذلك قولهم إنّ العرب كانوا وحوشًا يأكل بعضهم بعضًا، فصَوّرُوهم وكأنهم أشدّ قسوة من السباع في الغابة. والحقيقة غير ذلك؛ فالقرآنُ الكريم وصفهم بانحراف في العقيدة والعبادة، ولكن لا يمكن أن يكونوا مثل الوحوش. ومن المُستنقصات المنسوبة إلى العرب وأدُ البنات، التي ربما كانت في قبيلة واحدة في عمق الصحراء العربية، "والقولُ بأنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأد إحدى بناته، هو قولٌ باطلٌ وقصةٌ مختلقةٌ، وإلا فهو عنده حفصة وعنده بنات أخريات، فلماذا لم يئدهن؟ وعنده زوجات، والذي يتزوج لا بد أن يزوج هكذا هو التفاعل الاجتماعي، ولكن تلك القصص وضعت لغرض ما على أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه". ويقول مع الأسف نجد أنّ بعض المفكرين المسلمين المعاصرين قد أعجبتهم تلك المقولات ليظهروا فضل الإسلام وعظمته، فتراهم يردّدون تلك الأقاويل عن وحشية العرب وقسوتهم وهمجيتهم. أما المستشرقون فأرادوا من ذلك القدح في نبوة محمد أنّ هذا الرجل إذا كان ينتمي إلى هذه الأمة الوحشية والهمجية غير الحضارية التي يأكل بعضُها بعضًا هل يُعقل أن يأتي إلى قيادة البشرية؟ وهل هذه الرسالة تستحق أن تكون رسالة عالمية لجميع الأمم والشعوب إلى أن يرث الله الدنيا ومن عليها؟ فالمفكرون المسلمون تلقوا الفكرة وأخذوا يردّدونها، يريدون إظهار فضل الإسلام وفضل محمد عليه السلام، ممّا حدا بهم إلى المبالغة في ذلك، فأساؤوا إلى العرب من حيث لا يشعرون.

ويتناول الشيخ أحمد في كتابه قصصًا في السيرة يرى أنها لا تُقبل أبدًا، لا يتسع المقام لتناولها كلها، منها قصة التقاء النبيّ عليه السلام براهبَين أثناء رحلته إلى الشام، حيث جاءت رواية بأنه التقى به راهب من رهبان النصارى هو بحيرى، فعرف أنه نبيّ وأرشد أبا طالب إلى رجوعه من الشام خوفًا من اليهود، ثم مرة ثانية لما ذهب للتجارة التقى براهب آخر اسمه نسطورى، فآمن به وقال له إنك نبي؛ "فقضية الرهبان قضية مدسوسة غير صحيحة، لأنه لو كان فعلا قد التقى ببحيرى وحذره هل يُعقل من النبيّ - وهو الرجل الواعي الذي لا يُلدغ من جحر مرتين - أن يذهب للتجارة مرة ثانية إلى الشام؟ فلا يمكن أن يكون ذلك، وإذا سلمنا بأنّ القصة الأولى صحيحة فإنه لا يمكن أن تكون الثانية صحيحة"، ويرى أنّ قصة الراهبين هي التي جعلت المستشرقين يدندنون حولها ويقولون: إنّ معظم الرسالة الإسلامية مأخوذةٌ من المسيحية ومن الإنجيل. كما أنّ المؤلف يتناول موضوعًا آخر هو ما دُوِّن عن سقوط بعض إيوان كسرى وانطفاء نار فارس وغير ذلك يوم مولد النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيرى أنّ هذه الحوادث لا يمكن أن نعتبرها من الإرهاصات، لأنّ هذه الأمور طبيعية وعادية، وقد حدث أن جفت بحيرة طبريا في غير تلك المرة؛ فالبحيراتُ تعتمد على الأمطار، وعندما لا يكون هناك مطر جيد، تجف أو يخف ماؤها. وكذلك إيوان كسرى إنما هو بناء ولماذا خُصّ هو فقط ولم يكن في إيوان الروم أو بيوت قريش أو قصور اليمن؟ لماذا فقط في المدائن؟ ويصل إلى أنّ نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من هذه الأحداث؛ فالتهيئة الكونية الضخمة تجعل لهذه الرسالة ذلك القبول والانسجام مع الاتساق العام للكون، هذا هو الإرهاص الحقيقي، أما مجرد سقوط شرفة أو انخفاض ماء في مكان ما أو جفاف بحيرة فيجب أن يترفع الفكر المسلم عنها. وينتقل الشيخ أحمد بن سعود إلى نقطة أخرى ترددت كثيرًا في كتب السيرة وعلى ألسن الخطباء، وهي شق صدر النبي عليه السلام، وينكرها جملة وتفصيلا؛ فهنالك أنبياء ورسل قبله، ولماذا لم يحدث لهم مثل هذا الشيء؟ هل يُعقل ألا يجعل الله نبيّه كامل الإنسانية ومتقبل الإيمان إلا بأن يأتي اثنان ويمرّغاه في التراب ثم يشقان صدره وينظفان قلبه بماء زمزم، ويخيطانه بخيط أسود؟ فالله خلق محمدًا وهيّأه، وخلقه بشرًا سويًا كغيره من البشر؛ "فهنالك بشرية كاملة، وقضايا الإيمان غير محتاجة إلى أن يُشقّ الصدر وتؤخذ منه علقة سوداء تمثل حظ الشيطان، فاللهُ تعالى عاصمٌ نبيّه من شر الشيطان وغيره، فلا داعي لمثل هذه الروايات لأنها تحمل ضعفها في نفسها، فهذه القضية يجب أن يترفع عنها الفكر الإسلامي، وهي سيقت في مقام التعظيم للنبيّ، ولكنها أمام التحليل والتدقيق يرى فيها الإنسان المفكر استنقاصًا منه والنيل من عظمته وشخصيته وكمال إنسانيته".

ويرى الشيخ أحمد بن سعود السيابي أنه ينبغي أن يُعاد النظر في قصص الأنبياء لكونها مستقاة من التوراة، ولأنّ التحريف واضحٌ في سياقها، "ومن المعلوم أنّ اليهود أهلُ مكر وهمّة ونشاط، ولا يكلون ولا يملون من محاولة التأثير في مجريات الأحداث وحركة الحياة ماضيًا وحاضرًا، على أنّ التأثير اليهودي وكذلك المسيحي في فكر المسلمين وخطابهم واضحٌ وضوح الشمس في رابعة النهار، ولا يحتاج اكتشافه إلى جهد كبير وشديد عناء".

جاء الكتاب ليقدّم قراءة جديدة للسيرة النبوية، مع رؤية تحليلية ونظرة تصحيحية للكثير من القضايا التي طُرحت في كتب السيرة، وهو بالتأكيد يُعدّ إضافةً هامةً للمكتبة العربية ولكتب السيرة بما ناقشه وطرحه من أفكار تصحيحية.