ثقافة

الروائية لينا هويان الحسن: «سلطانات الرمل» شمسي التي أشرقت وأضاءت دربي الأدبي

16 فبراير 2024
الرواية العمانية محظوظة وعُمان بلد مستقر وتاريخه متنوع وملهم
16 فبراير 2024

أغبط الروائي العماني لما يلاقيه من دعم وحفاوة من أهله

ذاكرتي الشخصية هي ذخيرتي الحيّة التي دفعتني للكتابة في كل الظروف والإلهام أسلوب عيش

لا أريد كتابة الألم فالكتابة توثيق وترسيخ وأريد نسيان ما حدث بل تجاهله

كاذب من يقول إنّه شُفي بالكتابة.. الكتابة مخادعة ولا تشفي آلامك ومهما كتب السوري لن ينسى ألمه

المرأة السورية اليوم لا تحتاج للأدب إنما تحتاج أن تتوقف رحى الموت الدائرة منذ سنوات

النساء روايات تمشي على قدمين وخزانات مغلقة تخفي شتى الأسرار

تفيض الأسئلة وتكثر عندما يكون المرء أمام تجربة كبيرة وغارقة في الإبداع والتميز، ويحتار من أين وكيف يبدأ الحوار، وهل يزيد أم ينقص من الأسئلة كي لا يلحّ كثيرًا على الضيف، ومع ذلك حاولت قدر الإمكان أن أمنح نفسي هذه المساحة لعلّي أكون قد استطعت أن أتلمّس مكامن الجمال فيما قدمّت الأديبة السورية لينا هويان الحسن من إبداع، وإذ أجد العذر لنفسي بأنني لم أستطع أن ألمّ بكل تجربتها الروائية فحسبي إنني لامست بعضًا من روح الكاتبة ورعشة قلمها، وبعضًا من تفاصيل تجربتها الغنية التي رحبت في أن تسردها لصحيفة «عُمان» بكل مودّة.

دعينا نبدأ من حيث آخر نتاجاتك الأدبية ومجموعتك القصصية «أشباح الحبيبات» هل هي استراحة من عالم الرواية، والذهاب نحو القصص، وما الذي تودين قوله من خلالها؟

انظر تاريخ القصة القصيرة «الذهبي» لدى أدباء كبار قرأنا لهم جواهر هذا الفن، إنه شيء مربك ويصيبك بالرهبة. منذ سنوات وأنا أشتغل على هذه المجموعة، وهي ذات موضوع واحد، يتركز حول الأشباح التي تحدّث بها الناس وقصّوا عنها الأقاصيص وكلها لنساء، حبيبات معشوقات، مقتولات، تجذرت قصصهن في الذاكرة الشعبية، ووجدت أنه من الممتع انتشال قصصهن من النسيان وتظهير ملامحهن للقارئ. وهو مشروع أعمل عليه منذ حوالي خمس سنوات، طرّزته بهدوء، وباستمتاع كبير، ذكرني بتلك الأوقات المليئة بحماس الأسئلة، من حياتي خلال عملي في الصحافة، وذلك التحقيق الذي أجريته حول الدور والقصور المسكونة بكائنات لا مرئية. فتنتني دائمًا تلك الحضورات الغامضة.

كتبتِ عن البادية والصحراء وعوالمها المشوقة والغريبة سلسلة من الروايات، هل تعتبرين هذه الروايات تخصصًا في عوالم البادية، ومنها تنهلين الحكايات كونكِ ابنة تلك القطعة من الأرض؟

ارتبط اسمي بهذه «الثيمة»؛ لأنّ هنالك دائمًا انطلاقة للكاتب وهذه اللحظة هي التي تحدث فيها الشرارة الأولى بينه والقارئ، أيك الحبّ، أمر لا يقبل المزاح ولا الجدال، حبّ، أو لا مبالاة وأنا حزت على هذه المنحة الثمينة مع روايتي سلطانات الرمل، وظلّت هي الأكثر التصاقًا باسمي. إضافة إلى أنها تجربة لم تسبقها نصوص أخرى في مجالها، لهذا ظلّت نافرة وحاضرة عند كل من يريد الكتابة عن عوالم البادية والصحراء، رغم تنوُّع كتاباتي اللاحقة سواء في المواضيع أو الأساليب، لكن ثمة شمسًا لك يقدمها لك أحد نصوصك، وسلطانات الرمل شمسي التي أشرقت، وأضاءت دربي الأدبي.

هناك تشابك في الرؤى لدى القارئ وهو يتابع ما تكتبين، عن البادية والتاريخ والبيئة والاجتماع وغيرها من التنوع السردي، هل يجب على الكاتب أن يلتزم بخط كتابة معيّن ليقال أنه كاتب للتاريخ أو للمعاصر أو للبيئة وهكذا؟

ينبغي لطينة الكاتب أن تكون «حرّة» وليست مرهونة لالتزام محدد. حتى الخطوط الرسمية، أتجنبّها. أكتب كل يوم، على أجندات لا أسطّر على أوراقها، لا يمكنني تحمل رؤية ورقة مسطّرة ومخططة سلفًا، وكما البدو وهم يشقون دروبهم الترابية بأنفسهم. تربيت وسط بشر يكرهون الدروب المعبدة، لشدّة تعلقهم بحريتهم. تكررت أعمالي التي قد تصنّف بالتاريخية بسبب سحر المادة الخام التي تنادي كل كاتب يبحث عن موضوعات جديدة.

قلتِ ذات حوار، إنك مهووسة بـ«المختلف» ويثير جنونكِ «التشابه» هل هذا كان دافعك لأن يكون لك مسار منفرد في الرواية العربية وضمن تجارب جديدة وعناوين مختلفة؟

المسألة تبدأ من لحظة ولادتك، أن تولد «متشابهًا» أو «مختلفًا» خذ حكاية فتاة تنتمي للمجتمع القبلي، لكن للمصادفة أن الأب هو من أوائل الضباط في القبائل وهكذا حظيت هذه الطفلة بحياة نادرة وغير عادية، بل استثنائية الغرابة والثراء والنتيجة ستكون مختلفة. كنتُ في المدرسة لا أشبه زملائي أو زميلاتي، لا يمكنكَ مقارنة الطفل الذي ولد في أحد الأحياء وعاش فيه، وذهب إلى مدارس الحي ذاته وارتاد الجامعة في المدينة عينها، بطفل ينتمي لمكان بعيد، حرّ، وتنقّل عبر خارطة سوريا كلها، بصحبة الجيش والعسكر. لعبت لعبة الاستغماية بين سواتر التراب وتحت الدبابات، تعلم عندما وصلت أوّل صف في الإعدادية، كنت قد أحصيتُ أكثر من أربعة عشر منزلًا قطنته عدا عن قبب الطين والخيام المنسوجة من شعر الماعز، والمغائر الرومانية التي شهدت أوّل ألعابي الخطيرة، لمرّات كثيرة وجد أبي نفسه، وقد استدعي من إدارة مدرستي؛ للاستفسار منه عن صحة تلك القصص العجيبة التي عشتها وكنت أثرثر بشذرات منها لزملائي في المدرسة!؟ تعلّمتُ في ذلك الوقت الصمت، أمام «المتشابه» لأنه لن يرحمك، لم أكن من المتفوقين قط، لكن في كتابة المواضيع الأدبية كنت أثير الدهشة والتساؤل، هكذا صمتُ، قرأتُ، درستُ، ثم كتبتُ، دون أن أكترث «للمتشابه» الكثير الملاصق لنا، عزلتُ نفسي، وأنجزت رحلة حياة حرّة مختلفة، مطعمّة بالفلسفة والفن والحبّ، أردتُ أن تكون حياتي شبيهة برواية أحبّ أن أكتبها، رغم أنف الحماقات المعششة حولنا، هذا ما يعني حين أقول أني أقدّس «المختلف».

تمتلكين ذاكرة حية وقوية للأحداث والأمكنة والحكايا، من الذي ألهم ذاكرتك كل هذه التفاصيل، ولمن يعود الفضل؟

الحظ الذي يؤاتيك في لحظة ولادتك، وبعدها تمتلك الوعي الذي يتيح لك استثماره. هنالك الكثير من البشر الذين يعيشون حيوات نادرة، لكنهم لا يصبحون كتابًّا! المسألة هي شخصيتك والجينات التي ترثها، والظروف التي تكبر بها. بطبعهم البدو أهل روايات وخرافات، بل ليس لديهم إلّا مروياتهم الشفاهية، حدث وأن ولدتُ بين هؤلاء الرواة! من لا يعرف البدو عن قرب فاته الكثير. وهنا أتذكر سيرة رسولنا الكريم وطفولته في الصحراء عند مرضعته حليمة السعدية. كانت بطون قريش ترسل الأبناء إلى قبائل البادية المحيطة بمكة المكرمة، لأجل نقاء اللغة، وصفاء اللسان. والبادية التي أنتمي إليها شهدت طفولة معظم أمراء بني أمية، وقد فضلوا دائمًا وادينا على غيره، ليست رصافة هشام ببعيدة عن دياري، أو حيث ترعرع المتنبي، «خناصرة الأحص» ومحيطها، وحيث توفي الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز. نولدُ لنكمل رحلة جينات وشيفرات قد تكون غير مفهومة، لكن العلم بدأ يتلمسها.

عندما نتحدث عن تأثير المكان في رواياتكِ لا يمكن أن نغفل وجود التاريخ الموجود بقوة، وبصورة أخرى، كلما قدمتِ من روايات للمكان دلالات ممزوجة بالتاريخ، أي شغف وأي ذاكرة تحملينها لتقدمي للقارئ كل هذه الدهشة والجمال في السرد، وكيف استطعتِ المزاوجة بين المكان والتاريخ بهذه العذوبة والسلاسة، وأيهما كان ملهمًا لك أكثر، المكان أم التاريخ؟

التاريخ هو الثعبان الأزلي الذي يعضّ ذيله، بنفسه. كما ترمز له وللزمن، الميثولوجيات القديمة، أن تنهل من التاريخ أي أنت تعرض نفسك لسمّ ثعابينه. الحقيقة سمُ فيهِ الشفاء.

بدأت رحلتي من المكان، وتاريخ هذا المكان شغفني، كل شيء حولي له تاريخ، ابتداءً من عائلتي، تغذّت قصص «سلطاناتي» على حكايات نساء العائلة. لم يحدس أحد قط أنني سأكتبهم، اقتنصت قصص العائلة وانطلقت برحلتي الأدبية. ذاكرتي الشخصية هي ذخيرتي الحيّة التي دفعتني للكتابة في كل الظروف، الإلهام هو أيضًا أسلوب عيش.

هذا السؤال ربما يتصل بما سبقه، ونحن نقرأ رواياتكِ الكثيرة، جلها من الماضي أي التاريخ البعيد، ونتساءل: أَإلى هذا الحدّ تضيق دروب الحاضر المقلق بالكاتب ويخشى الاقتراب منه ليتجه نحو التاريخ كي يعيده لنا بروايات كثيرة، أليس الواقع أولى بالكتابة؟

وهل واقع السوري، طبيعي!؟ ولدنا في الحقبة الأكثر مرارة. وشاءت الحرب أن تهجرّنا، وأن يجافينا الوطن! أي واقع مؤلم هذا! يكفيني أني عشته، وأعيشه، لكن لا أريد كتابة الألم، الكتابة توثيق، وترسيخ، وأريد نسيان ماحدث، بل تجاهله أحيانًا كأنه لم يكن. اكتفيتُ بكتابة نصّي «الذئاب لا تنسى» هو نص سيري كتبته لأجل جرعة من الشفاء من ألم فقدان أحد من عائلتنا في بداية الأحداث، كاذب من يقول إنّه شُفي بالكتابة، الكتابة مخادعة ولا تشفي آلامك ومهما كتب السوري لن ينسى ألمه. وكل أمراضنا، أسبابها في بطن التاريخ، فلنبدأ من هناك، لنُشفى، أو على الأقل نفهم. أترى أهمية التاريخ!؟ فكّر قليلًا بذرائع الحروب الدائرة اليوم على أرض أهم حواضر الشرق، أليست الذرائع المذهبية والدينية، هي سبب البلاء. تعثُّر السياسة دائمًا على حججها، لتقتل، وتبيد، وتهجر. إذن نحن محكومون بقراءة التاريخ لنتحرر من أكاذيب الساسة، مثلًا.

كيف يمكن للكاتب أن يكون شاهدًا على العصر، وكيف له أن يجسّد ما يحدث أمامه بحيادية وينحاز للإنسانية دون غيرها وأنت صاحبة مقولة «من الصعب أن أكون حيادية، فلا حياد في الأدب» أتحدّث هنا عن الفاجعة السورية التي عصفت ولازالت تعصف بنتائجها على الواقع السوري عامة، أين يمكن أن يقف الروائي وسط هذا الركام، ونحن نرى الانقسام يتفشى في كل مكان؟

الروائي والمثقف والفنان، كل هؤلاء هربوا من الركام. هربوا منذ اللحظات الأولى للمأساة. بل تجرّأوا وكتبوا عن مأساة لم يشهدوا إلّا شرارتها، بل أكثر من ذلك هنالك كتّاب لم يزورا سوريا منذ أكثر من عشرين سنة من بداية المأساة السورية، وكتبوا عن المأساة!؟ بربك أي مثقف هذا الذي يمكننا التحدث عنه!؟ لا يمكنني الكتابة عمّا حدث في سوريا، بينما تزوبع عاصفة الغضب في رأسي، منذ أول لحظة للمأساة التي دمرت كل شيء، آثارنا الحضارية، إضافة لتجاوزات الأيدي الغريبة على تاريخنا. أية حيادية هذه وسط معركة الوحوش!؟ كيف لنا أن نفكر بمنطق وحكمة، ودماؤنا تسيل دون حساب على أرضنا!؟ أتركُ الحيادية للمنافقين.

من قلب الحدث السوري ظهرت روايات وقصص كثيرة تجسد الفاجعة السورية وكلٌ من زاويته، برأيكِ هل ما كتب يمكن أن يغطّي ما حدث من مآسٍ، وكيف للكاتب أن ينقل الحقيقة وغبار الحرب لم ينقشع بعد؟

كل ما كُتب، هو محاولات، معظمها غير أصيل. من سيكتب النصّ الحقيقي، هو من شهد المأساة وتنقّل وسط الموت، هؤلاء لم يكتبوا بعد. لا يمكن كتابة نصوص نظيفة وسط الدخان.

فلو قمنا بجولة في الأدب العالمي لرأينا أنّ من عاش بعد الحروب، وروى، أخذ وقتًا طويلًا للبوح. ما يحدث بالحروب قسوة لا يتخيلها عقل. منذ مدة قريبة قرأت بإعجاب كبير رواية اسمها (العندليب) تحكي قصة شابة فرنسية تجندت خلال الحرب العالمية الثانية، لتقوم بتهريب ضباط الحلفاء عبر (جبال البيرينه)، انظر متى كتبت الرواية!؟ منذ بضع سنوات وحسب. الكذب عمره قصير، والأصالة تأتي بحذر وهدوء وتأخذ وقتها.

للمرأة دور بارز ومهم في رواياتكِ، هل هذا انتصار من كاتبة للمرأة ودورها الفاعل في المجتمع الذي لم يسلط الضوء عليها لكي تعيدي للمرأة بريقها الذي كان من خلال صياغته برؤية أدبية؟

النساء روايات تمشي على قدمين، والنساء أيضًا خزانات مغلقة تخفي شتى الأسرار. كل شيء عند المرأة سرّ: المنام، الرائحة، الذكرى، الحكاية المختبئة وراء صورة أو هدية أو قطعة أثاث. لكل شيء عندنا حكاية. حتى مناماتنا هي شيفرات وقصص لمستقبل.. بعيد، قادم. منحتُ المرأة السورية بعض الضوء الحقيقي الذي يليق بذكائها وبروزها ونشاطها، في الوقت الذي يُطمس فيه وجهها المشرق على نحو ممنهج تحديدًا في الدراما السورية وبينها مهزلة باب الحارة، المسلسل الذي روّج كذبة كبيرة عن نساء دمشق، وذلك في غياب المسؤولية الأخلاقية، وانعدام الأهلية الإبداعية. للأسف، يبدو صوت الأدب وحيدًا وسط سفهاء الجهلة.

*ألا تستحق المرأة السورية في ظل ما تعانيه اليوم في ظل حرب هوجاء، وظروف صعبة، وما تقوم به من أعباء وما تتعرض له من ضغوطات حياتية أن تكرسي لها رواية كما تفعلين مع نساء رواياتكِ التاريخيات؟

المرأة السورية، اليوم!؟ لا تحتاج للأدب، إنما تحتاج أن تتوقف رحى الموت الدائرة منذ أكثر من عقد من الزمان، هي أمّ مقهورة، تحتاج أن تعود إلى وطنها مع أبنائها الذين ولدتهم في المخيمات، حتى مخصصاتهم تُسرق، ويحرمون من التعليم، وأبسط حقوق الحياة. تحتاج المرأة السورية الرحمة؛ لتحظى بفرصتها الحقيقية. تحتاج الحلّ السوري الشامل لعقدة الخيطان التي ساهم في تعقيدها القريب قبل البعيد. أي أدب هذا!؟ والمرأة السورية منكوبة بفقد أولادها، والأحياء منهم بلا فرص!؟ لا تحتاج المرأة السورية لأن يتاجر المثقف الانتهازي بقصصها، -وهذا حصل طبًعا- إنما تبتغي أن يرحمها العالم من لعبة السياسة، والأطماع المحلية والدولية، التي خرّبت وطنها.

التغريبة السورية نالت من الكثيرين، وها أنتِ مستقرة في بيروت، المدينة التي تمنح الكاتب إلهام الكتابة، إلى أي حد يمكن أن يكون مكان وجود الكاتب ملهمًا له في كتاباته ويمنحه القدرة على الإبداع؟

بيروت، مدينة الإنقاذ، بالنسبة لي. مدينة شرقية القلب بذهن غربي وعقل عالمي. هذه هي بيروت لمن لا يعرفها. لا تُنافس بيروت بالانفتاح الذكي، المباشر الذي يميزها. بيروت مدينة ذكية استفادت من تاريخها المفخخ بالأطماع وتعلّمت كيف تحيا وتعيش في كل الظروف. وحده من عاش في بيروت يفهم فحوى كلامي. بالنسبة للأدب، أقولها بوضوح: لا أدب دون حرية يعيشها الكاتب، على كل المستويات، وبيروت زهرة الحريات والأهم أنها معتادة على الحرية، وحريتها أصيلة. والأدب النظيف من أمراض التعصب والإلغاء والكبت، يحتاج أن ينتعش هنا، بالضبط. أضف لها مناخها الاجتماعي الحيّ، والصديق، والحاضن، لم أشعر بالغربة هنا لحظة واحدة. لو سلمت هذه المدينة من الوحوش، لكانت اشتهرت بأحياء يعيش فيها الكتاب والمبدعون مثل الحي اللاتيني في باريس. رغم كل ظروفها، تزدان بأجواء فنية وروح دافئة تشيعُ الإلهام.

بدأتِ في الصحافة وكانت بوابة مفتوحة للانطلاق، لماذا هجرتِ هذا الميدان الرحب، هل لأنه متعب ويستنزف الكثير من روح الكاتب أم لأنها مهنة المتاعب ولا توازي بمردودها عالم الرواية؟

عشر سنوات من حياتي، صحافة ثقافية مفتوحة على السينما والتشكيل والدراما، والنقد والمحاورات الصحفية مع نخبة أهل الفن والسينما والتشكيل، وست سنوات من العمل على تحرير صفحات الكتب. اكتفيت، عشتُ الصحافة بكل متعتها وتنوعها وزخمها. تعرّفت بفضلها على أهل الفن والإبداع في دمشق. بل قدمت لي أجمل معارفي، وحظيت بصداقات أشبه بلوحة فنيّة مدهشة مليئة بالحكايات، هؤلاء هم صحبة الصحافة. الحياة الصحفية متعة بحد ذاتها، ومنحتني سنوات رائعة. أخذتُ حصتي العادلة من العمل الميداني الصحفي الحقيقي. خزانتي مترعة. ودّعتُ الصحافة، وجعبتي ممتلئة بأجنداتٍ ملأتها على مدى عشر سنوات بأسلوب صحفي منظم، حول مواضيع مختلفة متنوعة قلما ينتبه إليها الصحفي النمطي، مثل: رحلات صيد الصقور إلى منغوليا، ومغامرات أقاربي ممن بلغوا الشيخوخة، وظلت لديهم ذكريات فريدة عن سنوات شبابهم وقد عاشوا حياة البداوة الصرفة.

أيضًا ملأتُ أجندات كثيرة مستقاة من حيوات الممثلات من أيّام الزمن الجميل - التقيت بهن خلال مهرجانات دمشق السينمائية - مثلًا، منذ مدة وأنا أبحث عن أجندة دونت بها ما قالته لي ماجدة الصباحي في حوار لم أنشره يومها طبعًا، كنت ألتقي النجمات وأتذرّع بلقاء ضروري للمكتب الصحفي التابع لمهرجان السينما، بينما في الواقع كنتُ أحاور لأغذّي مسودات رواياتي، أتذكر للتو أسئلتي المرتجلة لكلوديا كاردينللي مثلًا، والترجمة السريعة لما تقوله. كنت أنشر شذرات سطحية فقط، بينما احتفظت دائمًا بالدسم لي. خدمتني أنانيتي باقتناص المعلومة التي تتحول لاحقًا إلى حكاية. أن تكون صحفيًا أي أن تكتب كل يوم. هكذا كتبتُ كل القصص العائلية التي لفتت انتباهي واستوقفتني، دونتها بعناية كبيرة. علمتني الصحافة كيف أستفيد من كل ما أسمعه، وسمعته. حتى ما سمعته من خلال صداقاتي النسائية، قمت بكتابته. مرّنتني الصحافة، كيف أسأل، كيف آخذ ما أريده من الآخرين، وكيف أتكلم على نحو يريح المستمع فأجعله يتكلم ويقول ما أنتظره، الصحافة مهنة الاحتيال، والذكاء، واقتناص المعلومة. استثمرت حتى معارف أهلي بسبب تنقلاتهم بين معظم مدن سوريا، تعرّفت بعائلات حلبية في الجابرية والعزيزية والجميلية. تعرفت بأهل حي الشريعة في حماة، وأحياء مختلفة في حمص سواء سكان الفدعوس أو أهل المحطة، هذا عدا عن القرى النائية التي قطنتها بسبب الحياة العسكرية، أذكر منها على سبيل المثال:(حمّانا في لبنان، تلبيسية، الدمينة الشرقية، وهذه على طريق حمص القصير، وفي حوران تعرفت إلى نوى، ازرع، الدلي، الشيخ مسكين) أمّا دمشق فحكايتي معها حكاية حياتي، التقيت بنساء تحمل ألقابًا: كـ«الآغاية، والخانم، والست، ورجال حملوا ألقاب الباشا والبيك»، ذات مرة أجريت تحقيقًا صحفيا عن قصص الدور والقصور المسكونة بالأشباح، في الشام القديمة داخل الأسوار، لم أنشره طبعًا فأية صحيفة رسمية حزبية مؤدلجة، يمكن أن تنشر تحقيقات مجنونة مثل هذه!؟ إنما احتفظت بتلك القصص واستثمرتها في عملي الأخيرين حاكمة القلعتين وأشباح الحبيبات.

صنّفت روايتكِ «حاكمة القلعتين» كأوّل عمل عربي أدبي فيما يسمّى أدب الميثوبيا، حدثينا عن هذه التجربة!؟

سأعود إلى عملي الصحفي، حاكمة القلعتين هي نتاج جولاتي الميدانية إلى أشهر العرافين والبصارين في سوريا والتقيت الدّجال وبنفس الوقت تعرفت على الساحر الحقيقي، الذي توارث المهنة والموهبة، التقيت بشرًا لا يصدّق أحد وجودهم، بينهم الرجال والنساء. ما كتبته عقب تلك الجولات الصحفية الميدانية لم تتشجع الصحيفة التي أعمل بها يومها، على نشر هكذا مواضيع!؟ رائع! هكذا امتلأت أجنداتي، بالمعلومات الأخاذة والغريبة وكانت ثمرة جرأتي وإقدامي، وفخورة بتلك الرحلات التي حركتها ذات يوم روحي الشابة والمغامرة، والطائشة أحيانًا، طبعا لم يعرفوا قط أني أزورهم لغاياتٍ صحفية. أعتقد أنّ عرّافة حوران المشهورة باسم «كوكب» هي الوحيدة التي لم أزرها. نعم حظيتُ بفرصٍ استثنائية في هذا العالم وبينها «الصحافة» التي حولتني مع الوقت إلى محققة، محتالة تأخذ ما تريده من معلومة، دون مشقّة كبيرة.

ومن قراءاتي المكثفة للأسطورة والميثولوجيا بحكم دراستي «الفلسفة» استفدتُ من التراث السحري المنسي والقصصي؛ لأصنع نصي الأدبي ولأجرّب أدبًا غير رائج عربيًا هو أدب الميثوبيا، حتى قبل أن أعرف تسميته «النقدية». وأثبتت الرواية حضورها بالفعل عند القارئ، بغض النظر عن الآراء التي رحبّت أو العكس. الجاذبية شيء أساسي في كتابة الأدب. تجذب القارئ، إذن أنت موجود.

كيف ترين الرواية العُمانية التي بدأت تشق طريقها بقوة نحو العالمية، وبرأيكِ ماهو مصدر قوتها وحضورها في الساحة الأدبية اليوم؟

الرواية العمانية محظوظة، عُمان بلد مستقر، هانئ، شعبه مرتاح على كل الأصعدة، أضف إلى ذلك أنّ له تاريخه المتنوع والملهم، وله أهله الذين يدعمون كتابهم ويقدمون لهم الاحتفاء، هنيئًا للراوي العماني ببلده، وطنه، وجيرانه. أغبط الروائي العماني. وموضوع العالمية أعتقد أنه حلم، يحتاج إلى الصبر.