ثقافة

الروائية سوسن جميل حسن: الطب فتح الأبواب على الحياة وأمدني بالخامات التي أبني عليها نصوصي

02 يونيو 2023
هجرت الطب طوعا إلى حيث الأدب
02 يونيو 2023

كتابة كل نص تجعلني أكتشف زوايا جديدة وتتوالد الأسئلة في بالي -

يتشارك الطب والأدب قربهما من الوجع الإنساني وانشغالهما بأسئلة الوجود -

على الكتاب والمثقفين أن يستمروا في كتابة التاريخ بكل حمولته الفائضة -

تشغلني قضايا البسطاء والمظلومين والمقهورين.. والمرأة في مجتمعنا تعاني الظلم مرتين -

الكاتب يجب أن يناهض العنف ويبتعد عن الاستقطاب وينفلت من أسر الإيديولوجيا -

وصول روايتي إلى القائمة الطويلة للبوكر ساعد في انتشارها وهذه فضيلة الجوائز -

النقد يعاني من قصور في مواكبة المنجز فضلا عن معوقات رواج الكتب وهي جزء من أزمة القراءة في مجتمعاتنا -

هجرت الدكتورة سوسن حسن مهنة الطب نهائيا لتتفرغ للكتابة الروائية التي أجادت فيها، ووصلت روايتها الأخيرة «أنا أسمي زيزفون» للقائمة الطويلة في جائزة البوكر.

لن يتطلب منك الأمر عناء كثيرا لكي تلمس تأثير الحرب على ما كتبته في رواياتها الصادرة، حيث نهلت من ثنايا الوجع قصصها، وحاولت أن تنتصر للإنسان والقيم الإنسانية.

حديثها مملوء بالوجع ومرارة الغربة، وفراق الأحبة، وقد فتحت قلبها لهذا الحوار الذي سأترككم مع تفاصيله.

دكتورة سوسن سليلة أسرة مثقفة، من الذي اكتشف برعم الأدب الذي كان ينمو في داخلك، ورعاه حتى اشتد عوده، وما تأثير الوالد الأديب على مسيرتك الأدبية، وكيف كانت بواكير البداية..؟

بشكل عام نحن عائلة أدبية، أكان لجهة والدتي أم لجهة والدي، ولقد نشأت في أسرة تهتم بالثقافة وبالتعليم وتحصيل الشهادات، كانت والدتي دائمًا ما تنمّي هذه الحاجة لدينا، وكان أبي يوجّهنا نحو المطالعة، بل يشجع أي موهبة تظهر لدى أي من أبنائه أو بناته، وهو مربٍّ مثلما هو شاعر وكاتب، نشأت في هذا الجو، وبين الكتب من خلال مكتبته التي تتنامى باطراد. ظهر باكرًا شغفي باللغة والتعبير في أيام المدرسة، حتى أن والدي كتب لي في مرّات عديدة قصائد شعر لألقيها في الاحتفالات التي تقوم بها المدرسة، وكانت مواضيعي الأدبية في المرحلة الثانوية تلاقي ثناء المدرسات، وثناء والدي أيضًا، لكنني لم أكتب بالمعنى الخاص للكتابة الإبداعية إلّا في مرحلة متأخرة، إذ اتجهت إلى دراسة الطب، لا لشيء أو رغبة في نفسي، فأنا لم أكن أعرف شيئًا عن هذا الاختصاص النبيل والشاق، إنما لأنني كنت متفوقة وحصلت على درجات عالية في الشهادة الثانوية، ثم أتت متاعب المهنة، وتجربتي الأسرية الخاصة التي ألقت عليّ مسؤوليات كبيرة أقوم بها بمفردي، بعدما توفي والد طفليّ وهما في عمر صغير جدًا، ما أبعدني عن الكتابة، إلّا بعض الكتابات الوجدانية الغارقة في ذاتيتها، وبعض المحاولات الشعرية. ثم في مرحلة ما كتبتُ من القصص القصيرة ما يشكّل مجموعة قصصية، لكنني لم أقم بنشرها، ربما كانت بمثابة تمرين على الكتابة.

عند نشر أول رواية لي «حرير الظلام»، قدّمتها لوالدي بعد صدورها لأفاجئه بها، لا أنسى سعادته حينها، وكيف قرأها باهتمام وقام بتوجيه رأيه النقدي حولها، ومن بعدها صرت أعرض عليه مخطوط الرواية قبل إرسالها إلى النشر، فيوجهني ويقدّم لي نصائحه كقارئ وكمختص في الأدب، خسرت كثيرًا بعد وفاته، فقد كان داعمًا لي ومرشدًا في مسيرتي الأدبية

كثر هم الأدباء الذين خرجوا من عباءة الطب نحو خيمة الأدب، بعضهم جمع بين الاثنين والبعض تخلى عن السماعة والثوب الأبيض، ما الذي يغري في الأدب، وما الذي يستفيده الأديب الساكن في روح الدكتور من مهنته، وأيهما أقرب إليك..؟

الأدب، قراءة وكتابة وحاجة روحيّة، مثله مثل كل ما تنتجه المجتمعات البشرية من ثقافة وفنون، وهو بقدر ما يكون موجّهًا للآخرين، القراء، هو موجه إلى ذات الكاتب أيضًا، مع كتابة كل نص روائي أكتشف زوايا لم أكن انتبه إليها من قبل، وتتوالد الأسئلة في بالي، بل يمكن القول إنني مع الكتابة أكتشف نفسي، فهي نوع من الحوار مع آخر مضمر في أعماق النفس، يبدو للوهلة الأولى أنه قارئ مفترض، لكن في الواقع هو نفس الكاتب أيضًا، إنها تختصر المسافة بيني وبين نفسي. كنتُ في أثناء ممارستي مهنتي أواجه أسئلة كثيرة، بل إن أسئلتي الوجودية بالدرجة الأولى بدأت باكرًا مع دراستي الطب، خاصة في اللقاء الأول بيني وبين جثة فتاة شابة في مشرحة الكليّة، ما زال ذلك الموقف ماثلًا في بالي، ولقد كتبت عنه نصًّا أدبيًّا نشر في أحد المواقع، يدور في فلك الموت، وتحوّلات الحياة التي تظهر أول ما تظهر على الجسد، وتأثيرها، بل تأثير إدراك الزمن والعمر علينا من خلال تلك التغيرات، كذلك دراسة فيزيولوجيا الأعضاء والكيمياء الحيوية، أثارت أسئلة فلسفية عديدة عندي، أما في أثناء ممارسة المهنة، فكانت قضايا جديدة تلفتني من خلال مقاربة المرضى، الطب يفتح أبوابًا واسعة على الحياة وعلى الواقع، ما يمدّ الطبيب بخامات لا تحصى يبني عليها نصوصه، فيما لو توفرت الملكة الأدبية وفضول الكتابة، لا بدّ له من الانزلاق إلى التجريب من خلال هذه الحالة، ولقد علّمني الطب كثيرًا في الأدب، مثلما جعلني الأدب أكثر إنسانية في مهنتي، وأكثر حكمة وتفكيرًا منطقيًّا. يتشارك الطب والأدب قربهما من الوجع الإنساني وانشغالهما بأسئلة الوجود.

عندما تلتقي أي أديب سوري تبادر فورا لسؤاله عن الحرب، ما هو تأثيرها عليك ككاتبة روائية، إلى أي حد يمكن أن يكون الروائي حياديا في قضية تمثل وطنا..؟

أنا، كغيري من السوريين، مرّت علينا هذه السنوات الحارقة مؤلمة وموجعة ونازفة، وما زلنا، فالحرب لم تنتهِ، لا تنتهي الحرب فقط بصمت المدافع والرصاص، إذ بعد هذا الصمت سوف يظهر ما خلّفه الزلزال الكبير وهزاته الارتدادية، هناك وطن مدمّر، مجتمع مشظّى، كيان متهالك، ملايين من السوريين يعيشون في ظروف لا إنسانية، في الداخل والخارج، باكرًا رحت أرصد التغيّرات المتسارعة التي تحصل في المجتمع وفي حياة الناس، كيف أخذت الحرب تصدّع كل شيء، على الصعيد الفردي والمجتمعي، أرى السوريين المهجّرين المقتلعين من بيوتهم وماضيهم، كيف يخاطرون في البراري والمحيطات هربًا من موت محقّق، إلى موت ربما تكون هناك فرصة نجاة منه، منهم من علقوا في المخيمات يعيشون حياة مهينة لإنسانيتهم، يكبر أطفالهم خارج كل المفاهيم، محرومين من حقوقهم في التعليم والتغذية السليمة والعناية الصحية وساحات اللعب، وكل أدوات إثراء أرواحهم كي يكبروا وينموا بشكل طبيعي، لا يعرفون معنى أن يكون للإنسان وطن. آلمني انهيار منظومات القيم، وكيف أن الحرب بدأت تفعل فعلها وتنخر هذه المنظومات، فحرب بهذه الشراسة والغدر والإشكالية تزجّ بالناس في حالة ذعر أمام وجودهم المهدّد، هناك موت سريع بسبب القتال والسلاح، وهناك موت بطيء صار غالبية السوريين تحت سطوته، فالفقر والجوع وتراجع العناية الصحية والتعليم وفرص العمل والأمل والطموح، وغيرها الكثير، هو موت بطيء، اليأس الجماعي والاكتئاب وانعدام الثقة بالآخرين وكل هذه المشاعر السلبية التي تحكمت بنفوس الناس وأمزجتهم هي موت بطيء.

كيفما أدرنا وجوهنا هناك مشهد من مشاهد الخراب المريع، وهناك تضليل كبير ساهمت به كل الأطراف الضالعة بمأساة الشعب، أمام هذا الخراب والظلم والجنون والطغيان بكل أشكاله، لا بدّ للكاتب أن يقف مع قضايا الشعب، هذا موقف أخلاقي لا يُعفى منه أي عاقل، فكيف بالكاتب أو من ينتمي إلى النخبة الثقافية؟

روايتك الأخيرة «اسمي زيزفون» التي وصلت للقائمة الطويلة في جائزة بوكر، فيها من التفاصيل الدقيقة ما يمكن أن يكون تعرية للمجتمع بماضيه وحاضره وبمثابة إطلاق الصرخة التي تكشف المستور، ألا تعتبرينها مجازفة..؟

أين المجازفة؟ بعد عقد وسنتين أو أكثر من الحرب والدمار، وقبلها حياة تحت خيمة أفكار مستبدة من سياسية واجتماعية ودينية، وانكشاف أمراضنا المزمنة، ومشاكلنا المتجذرة، أليس من المنطق أن نسأل لماذا وصلنا إلى هذا الدرك؟ أليس من المنطق أن نستحضر الماضي ونعيد دراسته وتحليله وتفكيكه؟ هذه مسؤولية كبيرة وواجبة، الأدب لا يعيش مع الخوف، لا يعيش بلا مغامرة ومقامرة أيضًا، فالأدب يحلّق بأجنحته في فضاءات لا حدود لها، فيها من المغامرة حدّ كبير، لا يعيش الأدب في أقفاص، ثم ألا يستحق المظلومون مجازفة في سبيل نصرة قضاياهم في الدرجة الأولى، ومخاطبة وعيهم في درجة لا تقل أهمية؟ إذا لم نواجه مشاكلنا ونتفهم حاضرنا وماضينا، لن نستفيد من أخطائنا، كل الشعوب التي نهضت وأعادت بناء نفسها فهمت ماضيها وجعلت أخطاءها ماثلة كشاهد على المراحل السوداء أمام الأجيال اللاحقة، تحت شعار «كي لا ننسى»، ونحن إذا لم نفعل هذا سنبقى في حالة استنقاع مديد في لجّة حارقة.

رواية «قميص الليل» أيضا فيها الكثير من معاناة الإنسان السوري في ظل سعير الحرب، ما الذي أرادت سوسن أن تقوله، وهل تعدين هذه الأعمال من نزف الجرح السوري توثيقا..؟

هي رواية اهتمت بالمشاكل التي كانت نائمة تحت وهم الاستقرار، وظهرت بسرعة وباكرًا في عمر الحرب، ومنها الطائفية، هذا التابو الذي كان ممنوعًا الخوض فيه أو التطرق إليه قبل بداية الحراك الشعبي، بدعوى أننا بلد علماني، دولة ومجتمعًا، لكن الحقيقة كانت غير ذلك، وتبين أن الوتر الطائفي هو أكثر وتر كان جاهزًا للعزف عليه، كل الأطراف صاغت تقاسيمها حوله، وجعلت الشعب ينقسم إلى جماعات وطوائف، فقدت الثقة ببعضها البعض، عدا أن الرواية تطرّقت إلى موقف المثقفين من انتفاضة الشعب، وانقسامهم بين مناصر لها ورافضٍ ومتّهمٍ إيّاها بأنّها مؤامرة. لقد علّمتني مهنتي أن أوّل خطوة في مقاربة المريض من أجل تشخيص حالته، هي وضعه على سرير الفحص وكشفه للضوء، وهذا ما يجب أن يحصل مع مشاكلنا الجمعية.

هل حرضت الحرب شهية الأدباء ليكتبوا ما كتبوه عن فواجع المجتمع السوري وكشف المستور في ثناياه، وما كانوا ليكتبوه لولا ما حدث، أين هو حدس الكاتب سابقا، وكيف هو اليوم..؟

لم يكن الأدباء السوريون منفصلين عن واقع مجتمعاتهم قبل هذه السنوات، ولم يكونوا بعيدين عن القضايا العامة، بل شكّلت شواغلهم الأساسية، على الأقل منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي، أو بعد نكسة حزيران، انشغل الأدب بالهزيمة وما خلفت وراءها على صعيد المجتمعات، والأنظمة، كتبوا في العقود الماضية عن قضايا المجتمع، من فساد وفقر وظلم وتقييد حريات، كتبوا عن الفئات المهمشة وعن المرأة، كتبوا عن الاستبداد الديني والسياسي، هذا للإنصاف، وكي لا يُحمّل الأدباء أكثر مما يحتملون، وهذا يدلّ على أن الحدس كان موجودًا، وكثير منهم دقّ ناقوس الخطر، لكن الواقعة وقعت، وأظن أن على الكتاب والمثقفين أن يستمروا في كتابة هذا التاريخ بكل حمولته الفائضة، فبغير الثقافة التي ينتجها المجتمع لن يحصل تغيير، ولن تكون كتابة التاريخ نزيهة إذا ما كتبها المتحاربون.

12 عاما من الجحيم السوري، هل يمكن أن نقول إنه أصبح في سوريا «أدب حرب» ومن الذي يمكن أن يدون آثار الحرب الحارقة بأمانة، والفرقة تبدد المثقفين كلا في خندقه، ويكتب من حيث يكون..؟

خلال سنوات الحرب صدرت أعداد كبيرة من الأعمال الروائية، ما يشكّل مدوّنة كبيرة يُنتظر من النقاد الاشتغال عليها، فالأسئلة دائمة التشكّل والطرح، هي تواجه الكاتب في كل الأوقات، في السلم وفي الحرب، ولقد تعدّدت ظروف الكتّاب السوريين وشروط الكتابة الخاصة بهم، هناك أدب أنتج في الداخل، في كل المناطق، وأدب أنتج في الخارج، في أماكن اللجوء، هذا الأدب يكمّل بعضه بعضًا، كلّه منشغل بفترة الحرب والأسئلة التي طرحتها، مع الوقت سوف يسقط قسم من هذه المدونة، ويبقى ما يحقق شروط البقاء، هذا الذي سيخضع للدرس واستنباط تاريخ مضمر من خلاله، ربما يكون الأكثر شفافية وصدقًا في تقديم صورة بانورامية عن هذه الفترة المهمة من تاريخ سوريا.

روايتك الأولى «حرير الظلام» تتحدث عن شخصية رجل أعمى، وتتوالى الأحداث فيها، هل ما كتبت لاحقا يشير إلى المجتمع الأعمى بما تختارينه من قصص، كإدانة للواقع..؟

لطالما شغلني الشخص الأعمى، كنت على قرب من بعضهم في عيادتي، وكنت أراقبهم عندما أصادفهم في أي مكان، هذا ما ساعدني في رسم شخصية بطل الرواية، لكن ما أردت طرحه هو سؤال الحقيقة، ما هي؟ ومن يقرّها؟ هل هم الأغلبية الذين يضعون المعايير والمفاهيم؟ وماذا عن المختلفين؟ لقد تبيّن بعدما أبصر الأعمى في الرواية أنه اصطدم بعالم المبصرين ورموزهم وقيمهم، وهو الذي كوّن منظومته في العتمة، لم يستطع الاندماج في عالم سبقه الآخرون إليه أربعين عامًا، فانسحب من الحياة.

هل انتصرت الكاتبة سوسن للمرأة كونها امرأة وتدرك معاناة النساء فكانت حاضرة وبقوة بكل رواياتك، أم كان الانتصار للإنسانية بما تعانيه جملة وتفصيلا دون التفريق بين الذكر والأنثى..؟

قضايا الناس في المجتمع هي ما شغلتني، الناس البسطاء العاديون، المظلومون والمقهورون، شغلني الإنسان بشكل عام، ولأن المرأة في مجتمعنا تعاني الظلم مرتين، مرّة كونها فردًا ينتمي إلى هذا الفضاء المحكوم بآليات القمع والاستبداد والفساد، ومرّة لأنها امرأة محكومة بمنظومة قيم وثقافة موروثة جائرة، تستند في جانب كبير منها إلى الدين كما يمارسه ويطرحه رجال دين وأوصياء يشكلون جزءًا من منظومة القمع والطغيان.

تعيش الروائية سوسن حياة الغربة منذ سنوات، ما تأثير ذلك على أعمالك الأدبية، هل هناك حنين للمكان، وماذا تحملين معك من ذكريات يمكن أن تتجسد في أعمالك القادمة..؟

الشعور بالغربة هو ديدن غالبية السوريين، بل نسبة كبيرة من البشر في أنحاء المعمورة، فلحظتنا الراهنة بكل حمولتها من عنف وسرعة ومتغيرات متلاحقة في الحياة وحروب وتهديد وجودي، كلها تعزّز مشاعر القلق والتوجس والإحساس بالغربة عن الحياة، أمّا الغربة بمعنى العيش خارج الوطن، فلها خصوصيتها أيضًا، وهي إشكالية في وقتنا الحالي، لأن من يغادر وطنه في ظروف من هذا النوع، ظروف الحرب الممتدة وما تخلّفه من انهيارات خلفها، ويبقى على اتصال وتواصل لحظة بلحظة مع عالمه القديم الذي تركه خلفه، ويواكب انهيار أركانه، فهو كمن يحمل صليبه على ظهره، ألمه ومعاناته يواكبان شعوره بمتعة خاصة، يمكن وصفها بمتعة الألم في سبيل القيامة.

غالبية ما كتبت في رواياتك عن مدينتك اللاذقية مع أنك ابنة دمشق، لماذا، وأيهما كان ملهما لك أكثر في الكتابة مع أن صخب العواصم أكثر إغراءً في النبش فيه..؟

أنا من مواليد مدينة دمشق، وعشت فيها فترة من طفولتي وبداية مراهقتي، لكنني أنتمي لأسرة تنحدر من اللاذقية، التي فيها أتممت مراحل تعليمي حتى تخرجت من جامعتها وأمضيت سنوات ممارسة مهنتي فيها وتشكّلت وكبرت تجربتي الحياتية فيها، أحببت هذه المدينة وصرت على علاقة تواشجية معها، فأنا أكاد أسمع همس ساكنيها وأنينهم المكبوت، أكاد أشم رائحة بحرها وحاراتها القديمة وأزقتها، وألمس غبار أرصفتها، لكن بقي لدمشق وميضها الخاص في نفسي، بل نبضها الحيّ، لم أنقطع عنها حتى العام 2011، وأخاف من دخولها ثانية، أخاف من الاصطدام بواقعها الجديد وأنا أبحث عن ذاكرتي فيها، فأرى نزيفها وأسمع أنينها.

في أحد حواراتك قلت بوجوب أن ينفصل المثقف عن السياسي، وأن يكون دور المثقف فاعلا وراصدا ومتابعا وجريئا، كيف يمكن للمثقف أن يكون كذلك في مجتمعنا العربي...؟

عندما ينتمي إلى الناس، إلى ألمهم ومعاناتهم، أن يناهض العنف الممارس بحقهم، أن يؤازرهم في محنهم ويساعدهم في تشكيل وعيهم، هذا موقف أخلاقي أعتبره من أهم ما يجب على المثقف التمسك به وجعله ميزان أدائه، هو ككاتب أو أديب مطلوب منه الابتعاد عن الاستقطاب السياسي والانفلات من أسر الإيديولوجيا، أمّا كمواطن عادي ينتمي إلى بلد ما، فله أن يختار الموقف الذي يراه، لكن في الأدب، عليه أن يكون نزيها من كل النزعات، عدا انتمائه إلى إنسانيته.

النزوح المر، التغريبة السورية حضرت في أعمالك، هل ستعاودين الكتابة عنها، وهل لديك مشروع روائي جديد..؟

واحدة من رواياتي كان موضوع اللجوء حاضرًا فيها بشكل أساسي هي «خانات الريح»، إنما أردت منها طرح فكرة وعي الذات والعالم، وعي الآخر وكيف يمكن للعلاقة معه أن تكون، هل هي علاقة استلابية تسلّطيّة؟ أم تشاركية؟ وتطرقت إليها أيضًا في رواية «اسمي زيزفون» لكنها لم تكن الثيمة الأساسية فيها، وهي إحدى القضايا التي استفحلت في سنوات الحرب، لكن هناك الكثير من القضايا والمشاكل والمفاهيم التي يمكن الكتابة عنها، إن كان على الصعيد الجمعي، أو الفردي، بالطبع لدي مشاريع كتابية عديدة، أرجو أن أسير بها كما أرغب.

ما تأثير العلاقات العامة والظهور الإعلامي عبر وسائل التواصل من أجل الترويج للكاتب وأعماله ومشاركاته الأدبية، وهل مهمة الكاتب أن يتفرغ لإبداعه، أم أن يروج لنفسه وأعماله..؟

الكتابة هي مشروع الكاتب الجاد، هي مشروع كبير ونبيل ومتطلّب، أمّا موضوع الظهور الإعلامي والترويج والحضور الكثيف في مواقع التواصل، فهو شأن، في رأيي، يخص كل كاتب لوحده، ما من شك أنها تروّج للكاتب، ومنهم من يعتمدون عليها بشكل كبير، لكن هذا لا يعني دائمًا أن القيمة تتوافق طردًا مع الشهرة، هناك أسماء مؤثرة وكبيرة في الشأن الثقافي ليس لديهم صفحات على مواقع التواصل، ومنهم شريحة مقلّة في الظهور الإعلامي أيضًا. أما العلاقات العامة، فأظن أنها رائجة ومعمول بها في الكثير من الأنشطة والفعاليات الثقافية وفي الترويج لكتّاب دون غيرهم، هذا أمر معروف وليس خافيًا على البقية، بل يمكن القول إن هناك شللية في الوسط الثقافي، زادت بحضورها الأزمة السورية التي أدت إلى الشقاق بين المثقفين في بعض الأحيان.

وصلت روايتك الأخيرة إلى القائمة الطويلة لجائزة بوكر، إلى أي حد يساهم الدخول في مثل هذه الجوائز بانتشار أعمال الكاتب، وهل قدر بعض الأدباء والروايات أن لا يعرفهم القراء إلا عبر الجوائز، وهل ستعاودين الدخول في الجوائز..؟

بالطبع سرّني وصول روايتي إلى القائمة الطويلة للجائزة الدولية للرواية العربية، البوكر، فهي انتشرت بسرعة بعد أن صارت تحت الأضواء واهتمام القراء، هذه الفضيلة الكبرى للجوائز، إذ إن تقاليد النشر ودراسة المنتج الإبداعي لا يخضع في بلداننا، إلى معايير ترقى إلى مستوى هذا المنتج الرفيع أو القيم الرمزية لأي مجتمع، فهناك الإضاءة الصحفية على شكل مقالات يمكن توصيفها بأنها قراءات انطباعية، تحكمها العلاقات الشخصية أو العامة، أو معايير النشر لدى الصحف والمواقع والمنابر، أو الأجندات الخاصة، أمّا النقد فما زال يعاني من عثرات وتقصير وقصور في مواكبة المنجز، عدا عن التسويق من قبل دور النشر، وعثرات ومعوقات رواج الكتب، وهو جزء من أزمة القراءة في مجتمعاتنا.

هل تفكرين يوما أن تكتبي سيرتك الذاتية كرواية، بكل ما تطلبينه من جرأة يتحلى بها الكاتب..؟

بقدر ما أحب قراءة كتب السير الذاتية، بقدر ما يربكني هذا الأمر، لذلك دائمًا ما أؤجّل الخوض فيه، بمنتهى الوضوح، علمًا بأن معظم الأدباء ينثرون الكثير من سيرهم على أعمالهم السردية، وأنا منهم بالطبع، لكنها تبقى نثارًا يذوب في حقل السرد من دون أن يكون فعلًا قصديًّا يرقى لأن يكون سيرة ذاتية.

اطلاعك على الأجواء الثقافية في الغربة ومن خلال سفرك ومشاركاتك، حرك لديك كثيرًا من المقارنات والمقاربات بالتأكيد، أي فوارق تلمستِ..؟

يمكن القول تحت عنوان عريض: يلزمنا عمل جادّ وشاقّ من أجل الوصول إلى تقاليد خاصّة بنا، ومعايير تؤسّس لحالة ثقافية حيويّة ومثمرة لدينا.