No Image
ثقافة

الاستظلال بالسَبْعِ الطِباق

27 مارس 2024
27 مارس 2024

كان منظرُ تلك النبتة الملتصقة بحواف الجبل مُلفِتًا، تداعبها النسمات الباردة فتحرك أغصانها الصغيرة، وعلى مرأى الشمس الباسمة كان المسير نحوها بخطواتٍ متحفزة تنفض ما علق بالجسد من تَمطٍّ وتثاؤب، وعلى خلاف قريناتها فإن شيئًا يجذبنا نحوها، على الرغم من صغر حجمها وانغراسها وسط تشققات الصخور، وكأنها تلوذ بها من عبث العابثين وأفواه الماشية وهيجان الطبيعة.

ما إن أمسك فؤاد العلوي ببعض أوراقها حتى ضجّ المكان بروائح عطرية آسرة، لوّح بيده لي من بعيد وهو يكرر «ألم أقل لك إن الحياة الحقيقية وسط السهول والبراري لا الأبنية الأسمنتية والأسواق المكتظة»، ظلّت رائحتها تعبق في الفؤاد طويلًا، لم نستطع تبيّن كنهها أو معرفة نوع النبتة، واستمر الرحالة الكويتي يكرر عبارته الشهيرة «الجبل الأخضر أحد بدائع الأرض وعجائب الطبيعة، لكن الناس لا يعلمون».

لم أسر في حياتي في مسيرٍ جبلي «رياضة الهايكنج» إلا في ذلك اليوم الذي ألحَّ عليّ فيه فؤاد كثيرًا، ففكرة قضاء يوم في أحضان الطبيعة لم يبد مألوفًا لي من قبل، ومجرد أن افترشنا الأرض في تلك الليلة، وخلا كلٌ منا إلى خيمته الصغيرة التي لا تتسع إلا لشخصٍ واحد، حتى بدأت رحلة أخرى مدهشة بتفاصيل مدغدغة للمشاعر. الخيم كانت على مقربةٍ من جرفٍ هارٍ على أحد سفوح الجبل الأخضر، عتمة المكان وهدوء الطبيعة وتوقف كل شيء عن الحركة إلا ارتعاشة الأغصان التي تحركها النسمات بين الحين والآخر؛ خلوة لا مثيل لها إلا في أحلام العارفين ومندوحة العاشقين، إضاءة السماء وامتداد النجوم في تشكيلاتها الواسعة فرصة لأن يعيد الإنسان خلق أفكاره وإثارة شجونه وافتعال كل المساحات المتفجرة في الركن القصي للنفس للتساؤل والتصافي ومحاورة الضمير وتوليد الخيال وتغذية مشاعر الأمل والفرح واسترجاع بواقي الذكريات ومحاسبة المواقف، بيدَ أنها حضرة روحية يقطع متعتها انطفاءة العين بسباتٍ وادع، فالنوم سلطان لا تقهره الطبيعة ولا تنتصر عليه الملذات.

الرائحة الزكية التي التصقت بنا من مصافحة تلك النبتة استمرت في العبق، الأنف مُزكم واليد عطرة والقلب مبتسم والصدر ممتلئ والفِكرة جذلى، إذ يكرر فؤاد أن كل شيءٍ في الحياة هو فكرة، وجود تلك النبتة العطرية بمرتفعات الجبل الأخضر فِكرة، وارتباطنا معها فكرة، واعتلاؤها الصخور الصلدة وتسربها بين الشقوق فكرة، تلك الأفكار عندما تتعاظم تتجلى قدرة الخالق في إثارة التناسق المثير للدهشة في عناق الطبيعة لبعضها، ولئن أخذت المادّية اليوم مَأخذها من مزاج الإنسان وسلبته حقه الروحي بمنغصات متطلبات المدنية المرهقة، فإن التجول بين أفياء الجبل الأخضر يعيد للإنسان روحه التي اغتصبتها الحداثة، فمن غير الممكن أن يقول قائل إن روحًا لم تتماهَ بين النبتة والصخور، أو أن تلك الرائحة المتدفقة ليست رسالة سلامٍ منها لكل العابرين، فالطبيعة أم، والأم كما يقال بالدارج الشعبي العربي «تلم» أي تجمع كل مفردات الطبيعة ومكونات الحياة مع بعضها لتجربة لحظاتٍ من الأنس. عندما يفيق المرء من نومه العميق، باستقبال أشعة الشمس التي تبدو هي الأخرى كسلى في يومٍ بارد بمرتفعٍ عالٍ وهي تلقي التحية على المتوجهين بأبصارهم نحوها، وقد قضى ليله كله يراقب حركة الأفلاك تحت سبع سماواتٍ طباق، لترتد إليه بصيرته التي غفت هي الأخرى عن التأمل في الكون، فحرمان النفس من حقها في الاسترخاء التأملي هو جريمة وأي جريمة!

الناس في ممارسة رياضة المسير الجبلي مختلفون، فبعضهم يعتبرها سانحة رياضية، فلا يلتفت لما حوله من مترادفات، فغايته تحقيق هدف الرياضة الأسمى بمقاتلة الشحوم المترهلة والدهون المتراكبة، فلا يأنس بحفيف شجر أو رفرفة طائر أو لذعة نسمة باردة، في حين يعتبر البعض ذلك المسير فرصة للتناغم الروحي واستنطاق الكون والاطمئنان على عاطفته إن كانت على قيد الحياة أو في عِداد الأموات.

في الجبل الأخضر كل شيءٍ يتحرك، حتى الجبال الراسية يخيّل إليك أنها تناجي الله، وتشكو إليه طمع الإنسان، وجشعه باستغلال كل شيء، دون أن تكون له بصمةً فيها، عدا أولئك الفلاحين الذين يحرثون الأرض، وينحتون الجبال، ويشقون الأفلاج لكي تبقى رقعة تلك الأرض خضراء حقًا، فالجبين المتورد بعد جهدٍ عالٍ ليس مجرد عَرقٍ يشي بما بذله من كدحٍ ومشقة، بل هي عزيمةٍ يأبى إلا أن يطاول الجبال شموخًا وكبرياء.

من أراد أن يعيش تجربة مختلفة في استنطاق الطبيعة عليه أن يرافق الرحالة الكويتي فؤاد العلوي في جولاته، إنه يتحدث مع الورد الجبلي تحدث المفتون المأسور، ولكأنه يهمس في أذن الكون أن ثمة حياة فريدة لا وجود لها إلا في الجبل الأخضر، فبرغم براعته في التصوير الفوتوغرافي فهو يقضي وقته في التأمل والاستمتاع، ويندر أن يلتقط إلا صورة واحدة أو اثنتين ليومه كله، ذلك أنه يؤمن أن لسان الطبيعة حريٌ بالإنصات له وعدم الانشغال بالكاميرا، فذاكرة الخيال هي الأكثر تأثيرًا على الفؤاد، ويسهل استحضارها في البال، وما ذاكرة الكاميرا إلا ضيقة وغير مأمونة، ولا تبلغ مبلغها في إذكاء الجمال وصناعة الحبكة الممتعة، فمن فاتته لذة التأمل لن تغنيه صورٌ لا يعود الإنسان إليها إلا فيما ندر، ويندر أن تفارق لحظات التأمل الحقيقية خيال الإنسان أو تغادر فؤاده.