No Image
ثقافة

أول الفجر، أول السرد

20 مارس 2023
20 مارس 2023

تحتفي مجموعة (أول الفجر) لعبدالله البلوشي الصادرة عام 2011م عن دار الانتشار العربي بالدلالة الزمنية، والعودة إلى الزمن كونه تقنية يستفيد منها الشاعر في تكوين دلالاته الشعرية، والتشبّث بالزمن في استعادة ذاكرة مختبئة طويلا لديه.

يستوقف عنوانُ المجموعة القارئَ بإشاراته التي يقدّمها؛ فالعنوان تركيب قائم على كلمتين دالّتين على البداية، يتمثّل في كلمة (أول) التي هي منطلق رئيس في فهم العلاقة بين البدء وبين الفجر، وفي كلمة (الفجر) في دلالتها على الزمنية الأولى لليوم والابتداء والانبعاث والنشور؛ وعليه فإنّ هناك اتصالا وثيقا بين دلالات العنوان يتمثّل في الدلالة اللفظية في كلمة أول، والدلالة الزمنية في كلمة الفجر.

يتكرّر حضور الفجر في المجموعة؛ وهو على ما يبدو دلالة لها تأثيرها في نفس الشاعر، ولها حضورها في الذاكرة التي ارتبط بها مكانيا وزمنيا. إنّ التكرار هنا أوجد تأكيدا يقصده الشاعر في عملية البناء الشعري موضحا الأهمية الزمنية للفجر في الكتابة سنتطرق لها في المقال.

ترتبط دلالة الفجر في المجموعة بالبدايات والتشكّل، فتتأسس النصوص على أهمية البداية عند الشاعر، وهنا تقترن الدلالة الزمنية بالولادة التي هي خروج من رحم الأم إلى الحياة. فيتأسس نص (حدود العمر) على هذه الفكرة ويجمع في زمكانيته حدث الميلاد وتقاطعاته الزمنية والمكانية، ثم ينفتح على أسئلة يستنطقها لحظة التأمل والكتابة:

فجرًا

في الساعةِ التي يُعانقُ فيها

نجمٌ منفلت رحابةَ الكون

تنفّستْ رئتي

بهجة الخَلْق.

لقد جاورتني الخرائبُ

وظل الأشجار

تلك النائمة على معصم الشمس

وعلى التخومِ المنسية لأجواز السموات.

وعندما دثّرتني

الأمُ بردائها الزاهي

فتحتُ فمي قبالة بئر عذراء

إذ لم أبصر سوى

تقاطيع جسدي المُسجى

جهة الشجرة التي

نادمتْ قمر الليل.

يأخذ النص من السرد طابعا تكوينيا في بناء لغته الشعرية، وفي حركة المشاهد وتواليها، فتقوم عملية البناء على استخدام أسماء الإشارة (هناك، تلك)، والأفعال بصيغة المتكلم (أبصرتُ، لم ألتفتْ، لم أنحنِ، أنادم، كبرت، لوّحت...)، واستخدام مفردات الزمن (يومها، غدا، ذات مساء، الليل)، أو استخدام منطوق القول الدال على الكلام أو ما يشبه الحوار في النص بما يخدم عملية الحكي السردي أو ما يوازيه في الكتابة الشعرية:

كبرتُ تحت ظل شجرة مشرقة

لم تجبرني عصافيرُها يوما

على الرحيل

ولا الفراشاتُ الحانية على الكلام

متأملا تلك الرفرفة

التي أحسستُها في قلبي الصغير

كهديرِ دمٍ

يتنهدُ في شرايين الكون.

لقد لوّحت لها

بيدٍ خائفةٍ

تحت الظلال القاتمة

للشجرةِ الأم

قلتُ لها:

غدا سيرحل الصغار باتجاهِ الريح

وستعود الأمهاتُ

مُثقلاتٍ بأحزان الأبدية

إلى جوار نهر جاف

أو إلى جوار قبة الشمس

تلك التي ألهبتني

بسياطها الدافئة.

ويقوم النص على الاستفادة من عناصر السرد في تكوين لغته الشعرية، باستخدام دلالات الفعل (كان) في العودة إلى الماضي واستدراجه في الكتابة:

كانت تدثرني الريح

ولم تكن عيناي لتبكي

على حتفٍ آت

ولا على عتبات العمر

الذاهبة في معبر الليل.

في الحقيقة، نجد في أكثر نصوص المجموعة اتجاها إلى السرد من أجل التعبير عن الرؤية الشعرية التي يقصدها الشاعر، فتظهر الدلالات السردية واضحة في الاستخدام في غير موضع، ولعله اتجاه قصد الشاعر به التأكيد على الأدوات السردية التي تعينه في إيصال الفكرة أو التعبير. نجد في مدخل المجموعة انطلاق الشاعر من دلالة زمنية يكثر استخدامها في السرد، وكأنه يحيل على حكاية يعيدنا معها إلى الماضي أو إلى لحظات الولادة والميلاد البشري، إننا أمام نصوص تتقاطع مع السرد في سيرورتها وفكرتها ولغتها:

في زمنٍ ما

ربّما اصطفاني الليل ساردا لأسراره

أنا الجاحدُ للتناسل

تراهنني اللحظاتُ أن أهجرَ

الشمسَ والريحَ

جسدين لفكّ سماء ثامنة.

أنا لم أحلم بشفة أخرى

لتمنحني صفاءها العذري

كنتُ مكتفيا بطفولة زرقاء

حين تبعثها يدٌ معروقة

وتلك الشجرةُ النائمةُ

على ظلالها المقدسة

هكذا أنا

مثل طائرٍ منسي

لو صُوّبت إليه مديةٌ لبكى.

إنها نصوص أشبه بحكاية تبدأ من لحظة الميلاد وتنتهي بالموت، وهذا أمرٌ مثير نلحظه في غير نص من نصوص المجموعة؛ إنّ المسافة بين الولادة والموت تكاد أن تقترب جدا إلى حد إلغائها تقريبا، وهنا نجد البدايات تتشكل من المخاض الأول لكنها تُذكّر الشاعر بلحظة الرحيل؛ فصورة الموت تهيمن على الدلالات التي عمل الشاعر على تشكيلها أول كل نص، ليصبغ الشاعر نصه بدلالات الرحيل والفقد والوحشة.

لقد رسمت صورة الموت نصا جنائزيا يتصادم مع لحظة البداية والخروج إلى العالم، وتصبح لحظة «أول الفجر» ممتزجة بالميلاد الذي يتشكّل وعيه، وممتزجة بالرحيل الذي يشير إلى لحظته الزمنية. إنّ هذا التعاضد جعلنا ننظر إلى اتجاهين مختلفين في الحياة وفي الشعر، إنها لحظة اقترانٍ بذاكرتين، يقول:

لقد تذكرتُها

في الساعة الأولى من الفجر

هي من سكنتْ أقاصي القلب

وحيدةً

تحمل وجهها النابت كالليل

بيدٍ معروقة

وتمسّد بالأخرى على رأس

وليدها المتوحّد

الخارج لتوّه بكفن الموتى.

وفي قصيدة (ناسكة) تقودنا اللغة الشعرية إلى رسم صورتين مهمتين: صورة قائمة على التعبير المكاني الدال على احتضان الناسكة كزهرةٍ عاشقةٍ تملأ المكان سحرا وعشقا. ويقدّم الشاعر صورة المكان متقاطعا مع الليل والموت والرحيل الأبدي:

في الركن القصيّ لجبل الموتى

نبتتْ كزهرةِ العشق

كانت تنادمُ الليلَ

وتنتحبُ أسفل الصخرةِ

المنغرسة في محرابها

ذلك المبكى الأبدي

لدمعة الكون..

كما يُقدّم صورة أخرى مقترنة بالزمن في دلالاته التخيلية، إنه يحشد صُوَرا عدة لما بعد الرحيل: بالتقاء الكائنات مع ندمائها، وإطعام الأطفال الخبز المقدس، وأكفان أمهات الليل. يطالعنا المقطع الآتي بعد المقطع أعلاه دالا على اقتران الموت بالزمن، لاغيا المسافات بين الحياة والموت، والولادة والوفاة:

وفي الفجر

ساعةُ التقاء الكائنات مع ندمائها

كانت تلتمع كنجمة زاهية

مقتفيةً آثار أطفال موتى

لتطعمهم خبزها المقدس.

وحين ينبلج الكون بوجهه البهيّ

تفترش منبتَ الشجرة الباكية

لتنسجَ أكفانا لأمهات الليل.

إنّ (أول الفجر) في اشتغالها الشعري مجموعة تقوم على امتزاجات عدة: امتزاج الشعر بالسرد في لغته وتعبيره، وامتزاج الزمن بالرحيل والفراق، وامتزاج الولادة/ الحياة بالموت، إنها مجموعة تستقصي سرّ الحزن بالكشف عنه ومحاولة استعادته نصا بالكتابة عنه بما يشبه السيرة الذاتية.