No Image
ثقافة

أمام دار الشيخ خالد بن هلال أستنطق الأطلال

16 ديسمبر 2023
16 ديسمبر 2023

امتازت سنوات حكم الإمام محمد بن عبدالله الخليلي، الممتدة بين أعوام: 1920 - 1954م بتوطيد الأمن والاستقرار والرَّخاء، وظهر في عهده واليان، وُصِفا بالحنكة والكياسة وحسن الإدارة، هما: الشيخ أبوزيد عبدالله بن محمد الريامي (ت: 1945م)، والي بهلا، والشيخ خالد بن هلال بن زاهر الهنائي (ت: 1954م) والي منح، وخلال فترة ولايتهما التي رافقت سنوات حكم الإمام الخليلي، كان حسن إدارة الأموال، واستتباب الأمن، ونشر العدل بين الناس، ورد المظالم إلى أهلها، هي أهم الصفات التي عُرفت بها تلك الفترة.

في هذه المقالة أحاول أن أقترب من الشيخ خالد بن هلال الهنائي، أسائل أطلال داره عنه، في "حجرة حصن البلاد" كما تُسمى قديمًا، بعد أن انطوت أخباره منذ نحو 70 عامًا، وحُفِظ بعضها في أفئدة معاصريه، وذاكرة المقربين منه، وقد رحل معظمهم عن الدنيا، رحل عقيد العسكر: الشيخ حمد بن عميُّر الهنائي، أدركته كهلا وجالسته مرات، ورحل مرافقه كظله: عايد بن زايد الهنائي، وكاتبه: حارب بن حسين بن سَمْح المسروري، وغيرهم، ولم يبق إلا من كان طفلًا في زمانه، لا يعرف شيئًا عنه إلا اسمه، أو يذكر ملامح وجهه كالحُلم.

أما الشيخ أبوزيد الريامي فقد كان له الحظ الأوفر، باعتباره أحد تلامذة الشيخ نورالدين السالمي (ت: 1914م)، وأهم من حاوره فكريًّا في كتابه المهم: "حل المشكلات"، ناهيكم عن أن جانبًا من تاريخه الثقافي دوَّنه تلامذته في بهلا، مجموعة في كتاب: "أبوزيد الريامي السيرة والآثار والأعمال"، وبرز شخصية قيادية وإدارية فذة، في ولايته على بهلا خلال ثلاثة عقود، الممتدة بين أعوام: 1334- 1364هـ.

ويكاد التاريخ الإنساني والاجتماعي للشيخ خالد بن هلال الهنائي أن يكون مجهولا، وإن وُجِد فتتداوله الألسن كالحكايات، وأخال أن كلا الشيخين: أبو زيد في بهلا، وخالد بن هلال في منح، أشبه بغصنين أخضرين في شجرة إمامة الخليلي، وهما بلا شك عضدان وسندان له، رحمهم الله.

دخلت "حجرة حصن البلاد" الأثرية في منح، وكان برج الجص الماثل عند مدخل الحارة، يمتد إلى أفق السماء، مشكّلا عمارة من ستة طوابق، بقيت أربعة منها متماسكة، وأجزاء من الخامس والسادس سقطت، ليبدو البرج أشبه بقلم حبر، يدوِّن تاريخ القرون الماضية، في صفحة السماء الزرقاء، سألت المرشد السياحي عن دار الشيخ خالد بن هلال، فأشار إليه، قلت له: أعرف مكان البيت من خلال وصف الآباء له، اشتراه خالد بن سيف العبدلي بعد ذلك من الورثة، يجاور البيت "مسجد العالي" أقدم مسجد في الحارة، مشهور بمحرابه الجصِّي المزخرف، رسمه النقّاش الفنان: عبدالله بن قاسم الهميمي في عام (909هـ/ 1503م).

أمام باب دار الشيخ، المصنوع خشبه من أغصان "الأمبا"، صنعه النجّار الماهر: كليب بن محمد الخصيبي، أقرأ البيت الشعري المحفور في مصراع الباب: (إذا بلغَ الرَّضِيعُ لنا فِطامًا .. تَخِرُّ له الجَبابرُ ساجدِينا)، بيت للشاعر عمرو بن كلثوم، مقتبس من معلقته الشهيرة، فما أبلغ البيت في وصف صاحب الدار، ورأيت في العارضة أعلى الباب، كتابة محفورة بخط دقيق، تبين لي منها هذا النص: (قد تم بنيان هذا البيت، في يوم التاسع من شهر رمضان، من سنة تسعة وستين وثلاثمائة بعد ألف سنة)، يوافق تمام بناء البيت بالميلادي عام 1950م، أي قبل وفاة الشيخ خالد بأربع سنوات فقط، كان الشيخ قد اشترى موقعه في أواخر عمره، وحين تم بناؤه بدا مع برج الجص بمداخله وروازنه وأقسامه، نسخة قريبة الشبه بالقصور الصَّغيرة.

يتألف دار الشيخ الجميلة من دورين، بداخلها سُلَّمان، أحدهما يقود إلى "برج الجص"، والآخر إلى الدور الثاني، في الأسفل بئر ماء، وأقسام أخرى لحفظ التمور والحبوب، وحجرات صغيرة. أما الدور الثاني فخاص بغرف المبيت للأسرة ومجلس للضيوف، مسقوف بجذوع النخيل، جدران البيت قوية ومتماسكة، بلا شك أن الشيخ بذل مالا لبناء هذه الدار الفسيحة.

يردد الآباء مقولة عن الشيخ خالد: (ما حَدْ يحَظَّر مزرعته، أنا حظارها). كانت المزارع مفتوحة، وكان البعض يسيِّجها بالأشجار الشوكية، حتى لا تزحف إليها المواشي وتتسلل الأغنام، فتنفش فيها وتعبث، وتأكل الأخضر وتعيث، ولكن الشيخ خالد قرَّر أن يزيل رعب اقتحام المواشي على المزارع، فأمر بعدم تسويرها أو تحظريها بالحظار، وهو اقتطاع أشجار السمر والغاف ليسيِّج بها المزارع، قال لهم: (أبو الشَّعر حظارها). وأبو الشعر يعني نفسه، فقد كان كث اللحية، كما كان شخصية كاريزمية مهابة، فرضت حضورها في المجتمع للحاضر والبادي خلال سنوات قليلة، وأصبح على لسان كل متحدث، وكان يطوف بخيله على القرى، وأمر باقتياد الرِّكاب التي تدخل المزارع، إلى أن يأتي صاحبها معتذرًا، ودافعًا للديّة المقررة عليه، عن مقدار الضرر الذي أحدثته دوابه، أو ما نفشت فيه أغنامه، وقد يزيد في الحكم على صاحب الدابّة، فيدخل السجن المجاور لمجلس البرزة، ويبقى فيه أيامًا، حتى يأتي من يخرجه من محبسه بدفع الديّة التي عليه.

وإلى جانب اهتمامه برد المظالم، كان مولعا بانتخاب النخيل، حيث يقوم بزراعة النوى، لإنتاج أنواع جديدة من النخيل، كان لديه من الصبر ما يجعله ينتظر نمو النواة حتى تصبح فسيلة، ثم يزرعها، فإذا استحسن إنتاجها يبقيها ويطلق عليها اسما، حتى تتكاثر بفسائل جديدة منها، وأُبْلغت أن نخلة تسمى "قش عنتر"، بَقيَتْ من ذلك الجيل الذي قام الشيخ خالد بانتخابه.

ولكن ما حكاية الخيل التي يمتطيها الشيخ خالد بن هلال، ويسير بها في الطرقات، تتهادى بحمحماتها وصهيلها في دروب منح المتربة، هذه واحدة من خاصته، فقد كان يحب ركوب الخيل، ويمتطيها فارسًا ماهرًا، ويؤثر عنه أنه يستطيع أن يستدير بجسمه بين ظاهر الخيل وباطنها أثناء ركضها، وهي تعدو بلا توقف، كانت الخيل رفيقته، وبعد أن كلفه الإمام الخليلي على ولاية منح، وافق على طلبه، وطلب منه أحسن الخيول؛ لأنه سيجوب بها مع عساكره، ويتنقلون من قرية إلى أخرى، حتى لا تُغير المواشي على المزارع، فقد تكفّل بحمايتها وحراستها.

ولم تكن الخيل للشيخ خالد بن هلال تستخدم للتجوال الليلي، بل قد تسمح الظروف وتقام لها عرضة، ولا ينسى الآباء تلك العرضة التي أقيمت لخيل الشيخ خالد، ليأتي أحد من الأهالي يهزج برزحة بقيت ذكراها حتى اليوم: (شَيْخَنا اليَوْمَ صَبَّحْ .. إيشْ خُبْرُه وعُلومُه)، (شَيْخَنا اليَوْمَ صَبَّحْ .. بخُيولِه الصَّافِنَاتْ).

لكن حدثا آخر يبدد الهدوء، ويربك الاستقرار الذي يعيشه الناس، ويستنفرهم إلى مكان ما، ولعله حدث بُعَيْد وفاة الشيخ بقليل، هناك خارج الولاية، عند مجرى الفلج القادم من بعيد، تنطلق رصاصة غدر، لتستقر في وجه أحد عساكر الشيخ، فيهوي "المنصوري" من خيله صريعًا، فلاذ زميله "الحلط" بالفرار بخيله، فيلاحقه الرصاص، تحاول النيل منه، فيهوي بنفسه في فوَّهة الفلج، ثم يسير زحفًا مع الماء إلى القرية، أما الخيل فنفرت إلى جهات أخرى، وأما الناس فقد أدركوا أن غدرًا وقع بأحد العساكر.

هذه نماذج من أيام الشيخ خالد بن هلال في منح، ما تزال ذكراها عالقة في ذاكرة الناس، يتداولونها بشيء من الحنين، فقد بقي وفيًّا لمنح ومقيما فيها، حتى شاخ وكبر، وذات مرة أصيب بالرَّمد، متأثرا بالموجة الآكلة للعيون التي اجتاحت منح، حتى عمَّت الأطفال والكبار، وترك العشرات من الناس بين عُمْي وعُوْر، فغادر الشيخ إلى البحرين، في رحلة علاج انتهت بشفائه، وكان يؤثر عنه أنه يحب شرب العسل و«الزيج» الطازج، وهو عصير قصب السكر، وتعتريه غيبوبة بعد شربه، ولعله أصيب بمرض السكري، حتى توفاه الله بتاريخ: 14 ذي الحجة 1373هـ/ 1954م، بعد وفاة الإمام محمد بن عبدالله الخليلي بثلاثة أشهر وأيام، ودُفن في مقبرة حارة البلاد، قريبًا من مسجد لا يزال قائمًا حتى اليوم.