أبيات للشاعر ابن عنين في أعلى سقف السلم
أبيات للشاعر ابن عنين في أعلى سقف السلم
ثقافة

أشعار "سِبْط ابن التعاويذي" تزِّين قصر جبرين

09 مارس 2024
09 مارس 2024

يذهل حصن جبرين الزائرين، بما يحويه من رسومات فنية وقطع شعرية، زيَّنت أسقف الحصن وسلالمه الداخلية، هذا الحصن القصر الذي بناه الإمام بلعرب بن سلطان بن سيف اليعربي (حكم: 1679-1692م)، خلال النصف الثاني من القرن السابع عشر الميلادي: (اكتمل بناؤه عام 1675م)، ولذلك لا نستغرب حين يتم اختياره من قبل منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «اليونسكو»، معلما ثقافيا يشع إبهارًا فنيًّا، يدل على إبداع الصنعة لدى الفنيين والمعماريين العمانيين، فالزائر للحصن تسترعي انتباهه تلك الأبيات الشعرية المرسومة في جذوع الأسقف، والمنقوشة في الجص على جدران السلالم، وأول من وثقها هو الباحث الإيطالي بلديسيرا في كتابه «قصر جبرين وكتاباته»، صدرت طبعته الأولى عن «وزارة الثقافة» عام 1994م، لكنه لم يشر إلى اسم مؤلفي الأشعار، وكان بعض تلك الأبيات يصعب قراءتها وتبيُّن كلماتها، وبعضها مغطى بعبث الزمان، وبعد ترميم الحصن أزهرت الأشعار الرائقة من أكمامها الغامضة.

في أكثر من زيارة للحصن، وقفت على الأبيات التي تزين سقف السلم المؤدي إلى جناح الإمام، وحاولت جهدي قراءة الأبيات المرسومة في الحوامل الخشبية لسقف ما تعرف بـ «غرفة الشمس والقمر» والغرف المجاورة لها، فخرجت بنتيجة حول قصر جبرين، وهي أن الإمام بلعرب بن سلطان، كان أديبًا مرهف الحس، وذواقًا للشعر والرَّسم، وجاء وصفه في «الموسوعة العمانية» أنه (عالم بالفقه والتفسير، وله أشعار أغلبها في الحكمة).

وكنتُ إلى فترة قريبة أميل إلى أن هذه الأشعار هي لشاعر عماني، فشغلتني تلك الأبيات الجميلة، لمن هي من الشعراء؟، وهل هو معاصر للإمام بلعرب أم متقدِّم عليه؟، بل كان ظني يميل أنها لشاعر مشهود له بالوصف، كالشاعر الضرير راشد بن خميس الحبسي، المولود عام 1089هـ/ 1678م، خاصة وأن بلديسيرا ألمح في كتابه إلى احتمالية أن يكون هو صاحب بعض الأبيات المنقوشة في الحصن، مستأنسًا برأي المؤرخ ابن رزيق الذي كتب في كتابه «الفتح المبين»: (أن راشد بن خميس نظم قصائد جمة في مدح بلعرب)، ولكن تاريخ مولد وسيرة حياة الشاعر تؤكد أن الحصن بني وهو في سن الطفولة، وورد في «الموسوعة» أن الحبسي ولد في عام: 1089هـ/ 1678م، وحين نصب بلعرب بن سلطان إمامًا، كان الشاعر الحبسي ما يزال يافعًا.

وإذا من يكون هذا الشاعر الذي تزيِّن أبياته قصر جبرين؟، ولماذا اختار الإمام بلعرب أشعاره دون غيره؟، أم هي لمجموعة من الشعراء؟، ليصبح الحصن ديوانًا يضم مختارات من لباب الشعر؟، وأضيف إلى الأسئلة: هل هو شاعر عماني أم غير ذلك؟!

الجواب يأتي بعد بحث عن مصدر تلك الأبيات، التي زيَّنت قصر جبرين، وعرفت أنها لشاعرين غير عمانيين، ولأفصِّل أكثر: هما للشاعرين: «سِبْط ابن التعاويذي» البغدادي، و«ابن عُنَيْن» الدمشقي!، ولكن من هما هذان الشاعران اللذَان زهت نصوصهما في قصر جبرين؟، سأبدأ بسِبط ابن التعاويذي، فقد اهتديت بالصدفة إلى أحد أبياته المنقوشة في أسقف جبرين، ثم بعد بحث لبقية الأبيات، تأكد لي أنَّ له 36 بيتًا شعريا، تناثر بيانها العذب في أرجاء الحصن، فتشكَّلت بالجص تارة، ورسمت بالألوان تارة أخرى.

الشاعر سبط ابن التعاويذي (ت: 584هـ)، ورد له تعريف في ديوانه المنشور قديمًا عام 1903م، بتحقيق: مرجليوث، فهو: أبو الفتح محمد بن عبيدالله بن عبدالله، وهو سبط أبي محمد المبارك، والمعروف بابن التعاويذي، ونسب الشاعر إلى جده؛ لأنه كفله صغيرًا ونشأ في حِجْرِه، وهو من شعراء العراق الفحول، عاش في بغداد خلال القرن السادس للهجرة، واجتمع به الكاتب العِمَاد الأصفهاني، ونشأت بينهما صداقة حميمة ومراسلات، ومدح صلاح الدين الأيوبي في ثلاث قصائد، كما مدح القاضي الفاضل: عبدالرحيم البيساني، وكتب قصائد في رثاء عينيه، بعد أن فقد بصره في أواخر عمره، توفي الشاعر سنة 584هـ/ 1188م.

من أبيات ابن التعاويذي المرسومة في الجوانب الخشبية لأسقف جبرين هذه القطعة الشعرية:

بَنيْتُ دَارًا قَضَى بالسَّعْدِ طالِعُها

قامَتْ لِهَيْبَتِها الدُّنيا على قَدَمِ

سَمَتْ على كُلِّ دارٍ رِفعَةً وَعَلَتْ

عُلوَّ هِمَّةِ بانِيها على الهِمَمِ

تَعْنُو الكَواكِبُ إجْلالا لِهَيْبَتِها

وَتسْتكِينُ لها الأفلاكُ مِنْ عِظَمِ

يَوَدُّ لو أنَّها أمْسَتْ تُدَاسُ

بأقدَامِ الوَلائِدِ في نادِيكَ والخَدَمِ

كأنَّها إِرَمٌ ذاتَ العِمَادِ وإِنْ

زَادَتْ بمالِكِها فَخْرًا على إِرَمِ

طُفنا بأرْكانِها طَوْفَ الحَجِيجِ فمِنْ

مُسَلِّمٍ حَوْلَها مِنَّا وَمُسْتَلِمِ

يا دَارُ لازِلتِ بالأفراحِ آهِلةُ

المَغْنَى وَمُلِّيتِ ما أُلبِسْتِ مِنْ نِعَمِ

وَلا خَلا رَبْعُكِ المَأهوُلُ مِنْ مِدَحِي

يَومًا وَلا بابُكِ المَعْمُورُ مِنْ خِدَمِي

ألا تليق هذه القصيدة في وصف قصر جبرين ومالكه الإمام بلعرب؟، نعم تليق ولكن الشاعر لم ينظمها لهذا الغرض، فهذه القصيدة نظمت في مديح الخليفة العباسي: «المستضيء بأمر الله» (ت: 575هـ)، ويهنئه ببناء دار استجدها عام 574هـ، القصيدة طويلة، تنساب على أمواج بحر البسيط، مطلعها: (لولاكَ يا خَيْرُ مَنْ يَمْشِي على قَدَمٍ.. خَابَ الرَّجاءُ وماتَتْ سُنَّةُ الكَرَمِ).

ومن قصيدة في وصف دار الخليفة المستضيء، إلى أن تستقر بعد نظمها بخمسة قرون، مرسومة ومنقوشة في مكان آخر غير التي نظمت له، وكأنَّ تلك الأبيات فرَّتْ من حُجُب الغيب، لتستقر في أكناف قصر جبرين، وتحت عناية الإمام بلعرب بن سلطان، لتقوم بالدور الذي نُظِمَت من أجله، وكأنها خاصة في وصف قصر جبرين، وليست لدار المستضيء.

لعل قصيدة سبط ابن التعاويذي لم تحرِّك وجدان الخليفة المستضيء، فأضاءت بعد خمسة قرون في وجدان الإمام بلعرب، لتصبح تميمة شعرية كتبها الشاعر التعاويذي، الذي لا يعلم ما فعلت الأيام بقصيدته، فانتُخِب منها اللباب، وزُيِّنَت به قصر جبرين، لتصبح أمام عيني الإمام زهرات يانعة.

وفي أعلى السلم المؤدي إلى جناح الإمام بلعرب، نُقِشَ بيتان من الشعر، لشاعر آخر من دمشق، هو: «ابن عُنَيْن»، بضم العين وفتح النون وسكون الياء، وهما:

وَلابُدَّ أنْ أسْعَى لأشْرَفَ رُتبَةٍ

وأَحْجُبُ عن عَينِي لذِيذَ مَنامِي

وأقتَحِمَ الأمْرَ الجَسِيمَ بحيثُ أنْ

أرَىَ المَوْتَ خَلفِي تارَةً وَأمَامِي.

الشاعر ابن عُنَيْن (ت: 630هـ)، هو: شرف الدين أبي المحاسن محمد بن نصر، المشهور بابن عُنَيْن، الأنصاري الدمشقي، له ديوان شعر صدر بتحقيق خليل مردم بك، يكتب المحقق في تقديمه للديوان: نشأ الشاعر ابن عُنَيْن بدمشق قريبًا من الجامع الأموي، وشهد قيام دولة صلاح الدين، لكنه لم يحاول التقرُّب منه، بل وقف موقف الناقد المُشنِّع العابث الساخر، يغمز الدولة والقائمين بها، حتى تعرَّض لصلاح الدين الأيوبي في إحدى قصائده، فنفاه إلى خارج دمشق، وطاف ببلدان كثيرة مدة عشرين عامًا، ثم عاد إلى وطنه بعد موت صلاح الدين، ومات الشاعر في عمر الثمانين.

والآن حين نتأمل هذه الأبيات المرسومة والمنقوشة في قصر جبرين، نرى أن الحياة قد تأخذ بالنصوص الشعرية إلى مدى أوسع مما قيلت فيه، كما هو الحال في أشعار سبط ابن التعاويذي وابن عُنَيْن، والغريب أنهما عاشا في زمن واحد، مع الفارق في العمر بينهما، وحين كان ابن التعاويذي يتودد إلى صلاح الدين، ويرسل له قصيدة مديح وثناء من بغداد إلى دمشق، كان في دمشق شاعر آخر يضيق ذرعا من هذا الحاكم، ومن شدة نكده به هجاه بقصيدة، ثم ينفيه صلاح الدين إلى أوطان أخرى، ليحوم حول العالم كطائر مهاجر، لكن شعرهما يستقر أخيرًا في أسقف قصر جبرين، كما تستقر الجواهر في التيجان، ويكتب أشعارهما الخطاطون العمانيون بالألوان، مثلما يزهو دهن الزعفران في وجوه الحسان، والحياة مليئة بالأعاجيب.