ثقافة

أحمد الحجري: لست مستعجلا على شيء ومتى ما حان للقصة أن تزهر ثم تثمر فسأقطف ثمرها في وقته المحدد

07 فبراير 2023
في تقصّي ملامح «وجه رجل ميت»
07 فبراير 2023

القصة نتاج تخطيط سابق بما في ذلك النهايات -

الرمزية سلاح ذو حدين -

الكتابة الحقيقية تحتاج إلى العزلة والهدوء والوقت -

قد يخفق الناقد في كتابة الرواية وقد لا تشتهر -

خطفت مجموعة أحمد الحجري «وجه رجل ميت» جائزة الإبداع الأدبي والإنجاز الثقافي عن فرع القصة القصيرة من بين ثماني مجموعات أخرى نافستها في المسابقة، وكما أشارت لجنة التحكيم التي تكونت من الأستاذ الدكتور إحسان بن صادق اللواتي والدكتور خالد الكندي والدكتورة شيخة المنذرية إلى أنها مجموعة رأوا فيها سمات مثل الإيحاء وتجنب التقريرية والمباشرة، إلى جانب تنوع الشخصيات ودقة رسم ملامحها وإيحاءاتها النفسية، واستحضارها للتاريخ وربطه بالحاضر، ومراوحتها بين السرد والعرض مع التجديد في البنية السردية، واستعانتها بالعجائبية ومزج الخيال بالواقع، والمحسوس بالمتصوّر، وقدرتها على التصوير وصوغ دراما المشهد والانسجام، كما وصفت قصص المجموعة بالمنسجمة بحفاظها على مستوى واحد من حسن الحبك وكثافة المعاني واللغة الشائكة.

في السطور القادمة نحاور صاحب المجموعة الفائزة لنتفحص ملامح «وجه رجل ميت».

هل توقعت الفوز؟

لا طبعا! في الحقيقة لم أكن سأشارك في الترشح للجائزة من الأساس، حدث الأمر كلّه مصادفة، إذ حين وصلني إعلان الجائزة لأول مرة، لم أعره اهتماما ولم أقرأ تفاصيل الخبر ظنا مني أن الجائزة تقتصر -كالعادة- على الكتب الصادرة في ذلك العام (أي 2022)، أو العام الذي قبله على أحسن تقدير، ثم حين وصلني الخبر مرة أخرى قبل يومين فقط من إغلاق باب الترشح للجائزة -وكنت حينها متفرغا- لا أدري ما الذي جعلني أفكّر في قراءة تفاصيل الخبر الذي أهملته سابقا، وإذا بالشروط تفسح المجال أمام جميع المجموعات القصصية الصادرة منذ عام 2019، ومجموعتي القصصية صدرت في عام 2020، وكنت أنوي الذهاب سابقا إلى مسقط لإنجاز بعض الأعمال المتراكمة، فقلت في نفسي: لمَ لا؟ وهذا ما كان، لكنني كنت أستبعد الفوز أصلا لمعرفتي أن منافسة كبيرة ستحدث ما دام التنافس سيكون بين معظم المجموعات القصصية الصادرة خلال السنوات الأربع الماضية، خاصة أن هذه هي المجموعة القصصية الأولى لي، وما حدث بعد ذلك شيء جميل ورائع.

نالت مجموعتك الجائزة من بين تسع مجموعات قصصية شاركت في المسابقة، ما الذي يمثله ذلك بالنسبة إليك؟

الشيء الكثير، هل يحق لي أن أقول إنّ لجنة التحكيم عمّدتني قاصا! حين صدرت المجموعة لأول مرة في عام 2020، وقبيل جائحة كورونا -والإغلاقات الشاملة التي تبعتها- لم تحظ بقراءة أو اهتمام كبيرين على مستوى النقاد والصحفيين عدا قراءة يتيمة قدمها شاب مثقف هو حمود السعدي على صفحته في الفيسبوك -والذي أشكره لتلك الالتفاتة للمجموعة في وقت مبكر من صدروها- صحيح أن عددا من الانطباعات الجيدة وصلتني من الأصدقاء من خلال وسائط التواصل الاجتماعي على الخاص إلا أن المجموعة ظلت في العموم غير معروفة في الوسط الأدبي، وهذا مفهوم جدا لأنها المجموعة الأولى لصاحبها مع ضعف الحركة النقدية في متابعة الأعمال الأدبية عموما، والفوز بالجائزة قد يعني إعادة بعث المجموعة القصصية من جديد، وانتشارها على نطاق واسع وإعادة قراءتها وتقويمها، وهذا كله يصبّ في صالح الكتاب، وبعد الفوز فكّرت في أهمية مثل هذه الجوائز في تسليط الضوء على بعض الكتب التي لم تحظ بالانتشار والقراءة، ولكني فكرت كثيرا أيضا في بقية المجموعات القصصية الثمان المتنافسة، فلا شك عندي في أهميتها لكن هذه هي طبيعة الجوائز في كل مكان في العالم، وفي كل مجال من مجالات الثقافة، بقدر إيجابياتها في تقدير الكتّاب وتعريف القراء بالكتب الجيدة، بقدر إشكاليتها في إهمال عدد آخر منها قد يكون بعضها مقاربا في مستوى العمل الفائز، ففي نهاية المطاف يفوز عمل واحد فقط، فيرفع من رصيده الأدبي والإشهاري، وقد تهمل الأعمال الأخرى لعدم حصولها على جوائز مشابهة إلا أن الحظ أسعفها بالعثور عليها من قبل ناقد حصيف يبرز أهميتها وجمالها لعموم القراء.

النهايات غير المتوقعة، هل نتاج تخطيط سابق أو وليدة لحظة الكتابة؟

القصة برمتها نتاج تخطيط سابق بما في ذلك النهايات. يسبق كتابة القصص في الغالب حالة من التأمل والتفكير في فكرة القصة نفسها، ثم تخضع للتخطيط في طريقة كتابتها قبل أن ترسم معالمَ القصة الكتابةُ ذاتها، صحيح أن بعض القصص قد تكتب في ليلة واحدة مثلا، وبعضها يحتاج لأيام أو أسابيع أو حتى أكثر من ذلك حتى تكتب بالطريقة التي يرتضيها الكاتب، لكن ذلك لا يلغي التفكير والتخطيط الذهني لكتابتها طالت مدة التفكير أم قصرت، فهذا يعتمد على مجموعة من الظروف التي تختلف من كاتب إلى آخر لكنها تشترك في تلك اللحظة الوجودية من انبثاق الفكرة إلى طريقة الكتابة، ثم فلتأخذك لحظة الكتابة إلى مسارات مختلفة ومتشعبة في أحداث القصة وشخوصها.

أما النهايات غير المتوقعة في بعض قصص المجموعة فهي مزيج من تلك وذاك، تخطيط يسبق مرحلة الكتابة ثم قد ألتزم به في مرحلة الكتابة أو أنحو غيره إن اتجهت الأحداث وجهة أخرى، أو تراءت لي أثناء الكتابة نهاية أخرى أكثر منطقية أو إقناعا أو غموضا أو أجعلها نهاية مفتوحة ليكمل القارئ غلقها بالفهم الذي سيتوصل إليه.

هل تنجح الرمزية دائما في جعل السرد مؤثرا وجذابا ومثيرا للانتباه؟ وما معايير نجاحها «الرمزية» برأيك؟

إنها سلاح ذو حدين، يظل الكاتب مترددا بين كتابة قصة واضحة ومتسلسلة في الأحداث، بغية جذب القارئ فيقع أحيانا في فخ المباشرة والخطابية، وقد يلجأ للترميز ليضفي للقصة طابعا غامضا فيقع في فخ التعقيد والتعمية التي تنفر القارئ من قراءة القصة، وإذن فالحل يكمن بيد الكاتب نفسه في قدرته على التعامل بمهارة وإحكام في توظيف الرمزية، وجعلها عنصرا شائقا وليس عائقا في قراءة القصص، فالكاتب نفسه مثل الشيف الذي يصنع الأطعمة بدقة ومهارة وإتقان، الرمزية تشبه إلى حد ما ملح الطعام ومقدار البهارات الضرورية للوجبة التي يضعها الشيف، فإما أن يضبط مقدارها الصحيح أو قد يتعرض للطرد من عمله -إن أخل بالمقدار الصحيح- كما في قصة (العش)!

كتبت قصص المجموعة في الفترة بين 2007 و2019، وهي مدة زمنية طويلة، هل تصنف نفسك كاتبا متأنيا؟

لعلّه الكسل، لم لا؟ الحقيقة أنني كتبت القصة منذ المرحلة الثانوية، وربما كنت منتشيا لأنني كتبت قصتين وأنا في مرحلة الثانوية العامة، حُولت إحداهما إلى مسرحية من قبل زملاء المعهد الثانوي، وحصلت بسببهما على تكريم في ختام الدراسة، لكنني حين انتقلت إلى المرحلة الجامعية، وقرأت القصة عند أساطينها الكبار مثل يوسف إدريس ويحيى حقي وميخائيل نعيمة وزكريا تامر وغيرهم قررت أن أتوقف عن الكتابة لأتفرغ للقراءة فقط، وكانت العودة مجددا حين شجعني أصدقاء جماعة الخليل للأدب بالجامعة في سنتي الجامعية الأخيرة على الانخراط في الكتابة القصصية والمشاركة في الملتقيات الأدبية التي تنظمها وزارة التراث والثقافة (سابقا)، وهذا ما كان؛ فقد عدت للكتابة لكن بحذر شديد وحصلت على مراكز متقدمة (المركز الثالث في الملتقى الأدبي بخصب، والمركز الرابع في الملتقى الأدبي بصلالة)، لكن مع كل ذلك كنت متمهلا جدا في الكتابة ومتأنيا بصورة غير معقولة أحيانا، لست ألوم الظروف التي حصلت لي لكنني أستعير دائما عبارة الكاتب اليوناني الكبير نيكوس كزانتزاكيس: «تنتابني رغبة في مدّ يدي في زوايا الشوارع كالمتسول قائلا: تصدقوا عليَّ بقليل من الوقت».

الكتابة الحقيقية تحتاج إلى العزلة والهدوء والوقت، وحياة القرى والأرياف المجتمعية بطبيعتها تعطيك الهدوء وتسلبك العزلة والوقت، لكنني عموما متصالح معها، العالم مليء بالقاصين والقصص، وهناك قصص جميلة تكتب وأحتاج إلى قراءتها، لا لست مستعجلا على شيء، متى ما حان للقصة أن تزهر ثم تثمر فسأقطف ثمرتها في وقتها المحدد، لقد احتجت إلى خمس سنوات حتى كتبت قصة «مقبرة الحكمة»، كانت في ذهني تتخمر، وتطبخ على نار هادئة مثل حساء الكولاجين الطبيعي، وحين نضجت واستقرَّ رأيي على الطريقة المثلى لكتابتها كتبتها في يومين وانتهى الأمر.

هل نستطيع القول إن المكان هو البطل في هذه المجموعة؟ -كما أشرت في عتبة هذا الكتاب-

لم أفكر في ذلك سابقا، حين أنهيت جمع القصص وضمّها في كتاب قبل دفعها للنشر، رأيت أن أهدي الكتاب للمكان الذي ألهمني كتابة بعض قصص المجموعة، قصص مثل: «من حكايات الصحراء»، و»الانتقام»، و»حين تموت النخيل» مستلهمة بصورة مباشرة من أجواء قريتي، ومن تفاصيل الأمكنة التي كنت أرتادها يوميا، لكن هل يمكن أن نقول: إن المكان هو بطل هذه المجموعة؟ في اعتقادي أن هذا الأمر يعود لحكم القارئ والمتلقي.

عرفناك ناقدا ثم قاصا، لكن المجموعة حوت فنونا أخرى كالسيرة والمذكرات، من أتى أولا؟

لا هذا كثير عليّ، وصفة الناقد شرف لا أدّعيه بتاتا، النقد بالنسبة إليّ شيء كبير وهائل يشبه المحيط، والناقد في نظري عملة صعبة، والنقّاد الحقيقيون قلة قليلة في عالمنا العربي، فليس كل أستاذ جامعي ناقدا بالضرورة، وليس كل طالب دراسات عليا ناقدا. حتى يصبح الفرد ناقدا عليه أن يكوّن خبرة معرفية كافية، وحساسية جمالية تجاه النصوص التي ينقدها، أو التي يبرز جمالياتها للقراء، رجاء النقاش كان ناقدا، لأنه يكتشف مكامن الإبداع عند الأدباء والشعراء، الدكتور عبدالفتاح كيليطو ناقد؛ لأنه يكشف لنا ما خفي علينا من كنوز معرفية وجمالية في النصوص التراثية، أستاذي محمد الهادي الطرابلسي ناقد بامتياز، لأنه يفكك العمل الأدبي إلى عناصره الأولية ويعيد بناءه من جديد ويستبطن مظاهر الجمال الفني والأدبي فيه، هؤلاء هم النقاد، أما أنا مجرد قارئ هاوٍ تستثيره بعض النصوص الأدبية فيكتب عنها أحيانا في مواقع التواصل الاجتماعي، وقد يطلب منه تقديم ورقة علمية لنص أدبي في أحايين قليلة.

وعودة للسؤال مرة أخرى: القاص طبعا، كتبت القصة منذ المرحلة الإعدادية، ثم عمّقت الكتابة القصصية في المرحلة الثانوية، وتوقفت قليلا في المرحلة الجامعية لأستعيد أنفاسي وأفهم هذا الفن المعقد، ثم عدت للكتابة القصصية بأناة وتمهل، وإن كانت ظهرت فنون متداخلة كاليوميات والمذكرات في بعض قصص المجموعة فهي نتاج ذلك التأمل وتلك الأناة في كتابة قصص بطرق مغايرة ومختلفة.

تنم المجموعة عن خيال خصب، كيف يمكن أن يحافظ الكاتب على خياله متقدا مع وجود اليقظة النقدية؟

لا أدري حقيقة، أو لست متأكدا بالضبط كيف يحدث ذلك، عملية الكتابة عملية معقدة، ولا يمكن تفسير بعض اللحظات المتعلقة بها، قد يأخذ الخيال بالكاتب إلى مسالك متشعبة أحيانا، كما يؤدي الخيال دورا أساسيا ومهما في بناء النص السردي، أما اليقظة النقدية فهي مما يحتاج إليه الكاتب -أي كاتب- أثناء مراجعة العمل وفي قراءة مسوداته الأولى، لكننا نعلم أن الكثير من الأدباء ليسوا نقادا في الأساس، وبعضهم جاء من خلفيات علمية بحتة مثل الطب والعلوم والهندسة ومع ذلك هم يكتبون قصصا وأعمالا فذة ومتميزة، ومعظمهم لم يدرس أسس النقد ونظرياته، فهم يكتبون الأدب دون الحاجة لتلك اليقظة النقدية، يكفيهم فقط ذلك الحس الأدبي الجمالي ليقوّموا أعمالهم الأدبية، وينظروا لها نظرة الفاحص والخبير قبل دفعها للنشر.

إلى أي مدى ينجح الناقد في كتابة قصة أو رواية خالية من العيوب والأخطاء؟

أنت تعرفين أن الجميع يكتب الرواية اليوم، لقد أصبحت فنا مشاعا للجميع، استبيحت الرواية -بالمنظور الإيجابي- لكل شخص كما يعبّر عن ذلك الدكتور سعيد يقطين في إحدى محاضراته، اليوم: الطبيب والسياسي والمحامي والمهندس والطالب والأستاذ الجامعي والناقد، بل حتى الشاعر أصبح يكتب الرواية ويجيد كتابتها، لقد أصبحت الرواية جنسا أدبيا عابرا لجميع الأفراد بكافة تخصصاتهم، هو زمن الرواية حقا كما تنبأ بذلك بعض الباحثين.

والناقد حاله حال جميع من ذكرناهم سابقا قد يبدع في كتابة الرواية بل ويحصل على جوائز مرقومة ينافس بها الأدباء الذين ينقدهم مثل الدكتور حسين الواد الذي وصلت روايته «سعادته السيد الوزير» إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية سنة 2013، أو شكري المبخوت الذي فاز بجائزة البوكر العربية عن روايته «الطلياني» في عام 2015م وغيرهم طبعا فالأمثلة كثيرة على ذلك، وقد يخفق الناقد في كتابة الرواية أو على الأقل لا تشتهر ولا تحقق مبيعات أو تتحصل على جوائز مثل كتبه النقدية، وأبرز مثال على ذلك: الناقد المغربي عبدالفتاح كيليطو الذي لا يعرف الكثيرون أنه كتب رواية هي «أنبئوني بالرؤيا»، ورواية أخرى هي «والله إن هذه الحكاية لحكايتي» صدرت مؤخرا لكنهما لم تشتهرا شهرة كتبه النقدية الأخرى المرموقة.

مناقشة قضايا اجتماعية من خلال الأنسنة والتشخيص، هل تجد طريقها بسهولة إلى القارئ برأيك؟

قد تكون هذه إحدى الطرق (أقصد الأنسنة والتشخيص) لتمرير بعض القضايا الاجتماعية للقارئ دون الوقوع في مطب الوضوح والمباشرة اللذين يقللان من قيمة العمل الأدبي، أقول إنها إحدى الطرق وليست الطريقة الوحيدة، لأن مناقشة أو تسليط الضوء على قضايا اجتماعية معاصرة في فن أدبي مثل القصة -يعتمد بصفة رئيسة على الاختزال والتكثيف- يتطلب من الكاتب البحث عن أساليب وتقنيات وطرق مختلفة للتطرق إليها، أما أنها ستجد طريقها بسهولة إلى القارئ أم لا فهذا يعتمد على مهارة الكاتب في إقناع القارئ بالطريقة التي سلكها لتمرير ذلك الخطاب، كما يعتمد أيضا على تلقي ذلك الخطاب من قبل القارئ نفسه.