ثقافة

أحمد البوسعيدي: حادث غيّر مساري ووجدت ضالتي في حضن البيئة العمانية

04 سبتمبر 2025
04 سبتمبر 2025

حوار: خلود الفزارية

أحمد البوسعيدي باحث عُماني متخصص في علم الزواحف، انطلقت مسيرته بدافع اهتمام مبكر بالكائنات البرية. كانت هواية صغيرة تسحبه وتشد فضوله وتستهويه، فقد احتفظ بثعبان وهو في الثامنة من عمره وكان يلعب معه، ليعرف لاحقاً أنه من نوع "ثعبان الرمال خفيف السم". واختار مجالاً مختلفاً، فعمل على تسجيل ومراجعة الأنواع المعروفة من الزواحف في سلطنة عمان، وأسهم في توثيق أنواع جديدة تعزز فهم التوزيع الجغرافي والبيئي للزواحف في المنطقة.

إلى جانب تخصصه في الزواحف، يمتلك خبرة في الغوص والتصوير تحت الماء، إذ كان يجيد السباحة منذ الصغر، غير أن فضوله لاكتشاف البحر بدأ عام 2000 عندما ارتدى أول نظارة غوص ليرى ما يوجد تحت سطح البحر، ومن هنا بدأ مشوار استكشاف معدات الغوص السطحي ودخول عالم الغوص الحر شيئاً فشيئاً، مما أتاح له الجمع بين البحث الميداني في البيئات البرية والبحرية، واستخدام التصوير كأداة توثيق علمي وتوعوي في آن واحد.

ما أبرز المحطات التي شكلت مسارك المهني والعلمي؟

كانت هناك نقطة تحول غيّرت مجرى حياتي كلياً، ففي يوم الخامس والعشرين من شهر نوفمبر عام 2014 كنت أستعد لرحلة غوص مع المبيت لمدة أربعة أيام، ولاحظت نقصاً في المعدات الكهربائية، فعزمت على ركن السيارة وأخذ الدراجة النارية لشراء القطعة الكهربائية من أحد المراكز التجارية. وأثناء الرجوع قدّر الله لي أن أتدهور بدراجتي وأنحرف إلى عمود إنارة وأفقد قدمي اليمنى مباشرة بموقع الحادث. هنا تغير مسار حياتي تماماً، حيث كنت أعمل في القطاع العسكري، وبسبب البتر توجهت إلى التقاعد الطبي وتركت الخدمة العسكرية. كما تغير مسار مهنتي إلى مختبر الزواحف والحشرات بمركز أبحاث العلوم الطبيعية والطبية بجامعة نزوى، بوظيفة أخصائي ثعابين وحياة فطرية. وقد وجدت ضالتي ونفسي أكثر في هذه الوظيفة لأنني محب للطبيعة والحياة الفطرية منذ الصغر وتستهوني كثيراً.

ما الذي يميز الزواحف العمانية عن غيرها في المنطقة؟

كل نوع من الزواحف يتميز عن غيره بصفات مختلفة مثل القدرة والحجم وأسلوب المعيشة، ولكن ما يميز سلطنة عمان هو التنوع الكبير في عالم الزواحف، حيث تم تسجيل ما لا يقل عن تسعٍ وسبعين سحلية واثنين وعشرين نوعاً من الثعابين، وهذا التنوع يشكل منظومة رائعة في التوازن البيئي المعقد.

كان هناك 21 نوعاً مسجلاً من الثعابين في سلطنة عمان، كيف تم رصد النوع الثاني والعشرين... هل لكم أن توضح طبيعة هذا الاكتشاف؟

كنت أشعر بوجود ثعبان في البيئة العُمانية، وكنت متوقعاً وجوده وعلمت أن هذا الثعبان لم يُسجل في سلطنة عمان. وفي عام 2020 تمكنا من الحصول على عينة من ثعبان لم ندرِ نوعه بالضبط، وكان حجمه صغيراً لم يصل إلى مرحلة البلوغ، مما صعّب علينا التأكد من نوعه، فالثعابين السوداء شائعة في ظفار. وبسبب أزمة كورونا والإغلاقات زادت صعوبة الأمر، ولم نستطع تحديد النوع عن طريق الحمض النووي (DNA). وما زاد تعقيد الأمور أن الثعبان لم يتغذَّ مما أدى إلى موته، وتم الاحتفاظ بالعينة في الثلاجة بالتبريد العالي. وفي عام 2023 تمكنا من الحصول على عينتين بحجم كبير وصحة جيدة، ففتحنا الملف مرة أخرى، وأجرينا الفحص المورفولوجي والحمض النووي بمساعدة الخبير الإسباني الأصل سلفادور وجهينس وفريق جامعة نزوى بمركز الأبحاث، وتم نشر ورقة علمية بالتعاون معهم ومع هيئة البيئة لتصنيف النوع على أنه "الصل الأسود" أو ما يُعرف باسم "كوبرا الصحراء السوداء". هذا الثعبان شبيه بالكوبرا، لكنه لا يستطيع فتح رقبته مثلها، وهو أبطأ حركة قليلاً مقارنة بالكوبرا.

ما البيئات الطبيعية التي تتكاثر فيها الزواحف في عمان؟ وهل تأثرت بفعل التمدد العمراني أو التغير المناخي؟

في حقيقة الأمر، الزواحف تتكاثر في الطبيعة بشكل رائع إذا توفرت ظروف المعيشة الملائمة من غذاء وبيئة مناسبة، وبعضها قد يتأقلم مع الظروف الحديثة الناتجة عن تزايد العمران، بينما يبتعد البعض الآخر عن تواجد البشر مما يهدد حياته بشكل كبير. لذلك من الأفضل إجراء دراسات حول أماكن تواجد الزواحف وتصنيف الأنواع، وإنشاء محميات طبيعية لتلك التي تتأثر بوجود البشر وتهيئة بيئة مثالية لحمايتها.

ما أبرز الأساطير أو المفاهيم الخاطئة التي تود تصحيحها عن الثعابين؟

هناك ثعابين غير سامة، وهذا ما لا يصدقه البعض. وهناك ثعابين نصنفها ضعيفة، إذ لا تؤثر في الدم وإنما تسبب انتفاخاً بسيطاً يزول في أقل من 24 ساعة، إذا كان الشخص لا يعاني من حساسية مفرطة. وهناك ثعابين ذات سمية متوسطة لا تؤدي إلى الوفاة في الوضع الطبيعي، وفي المقابل توجد ثعابين شديدة السمية. ويصر كثيرون على التخلص منها، وقد خضت جدالاً واسعاً حول الحفاظ على الثعابين، فهي كائنات لها حق العيش مثل غيرها. وقف البعض في صفي، إلا أن آخرين ما زالوا يتمسكون برأيهم حول قتلها لخطورتها، ودائماً أحاول شرح وجهة نظري دون أن يهمني من اقتنع بها ومن لم يأخذ بها.

وفي رأيي، خلق الله الكائنات جميعاً، منها الخطير ومنها غير ذلك، ووضع الروح فيها لتعيش وتؤدي دورها في الكون، وليس ذلك عبثاً. إلا أن عقلنا القاصر لا يدرك دائماً دور هذه الحيوانات. فالثعابين تتغذى على القوارض والسحالي والطيور وغيرها، كما أن الثعابين نفسها غذاء لكائنات أخرى مثل الثعالب والقطط والطيور الجارحة. أي أنها جزء من السلسلة الغذائية المعقدة التي يديرها الله بقدرة لا متناهية. كما أن الله سخّر للإنسان استخراج أدوية كثيرة من سموم الثعابين.

كثير من الناس لا يدركون أن سم الثعبان يستخدم في الطب. كيف تتم عملية استخلاص الأمصال؟ وما التحديات المرتبطة بها؟

الأمصال هي أحد الأدوية المهمة التي يستخرجها الإنسان من الحيوانات الكبيرة مثل الحصان أو الجمل، ويتم ذلك بحقن كمية قليلة من سم الثعابين في الحيوان. لأن الأجسام المضادة لدى الحصان والجمل قوية تقوم بمكافحة السم وصنع أجسام مضادة قوية، يقوم بعدها المختصين بأخذ الدم من الحيوان وإدخاله في أجهزة فصل واستخراج الأجسام المضادة واستعمالها لمصل ضد لدغات الثعابين. مع ضرورة التنويه على أنه يتم تعديل مركبات السم في المختبر لتكون آمنة وفعالة طبيا، والسم يستخدم بجرعات دقيقة جدا وتحت إشراف علمي صارم، وهناك أدوية كثيرة أيضا يتم استخراجها من سم الثعابين حيث أنه يحتوي على مركبات قوية تستخدم في صناعة عدد من الأدوية، خاصة تلك التي تستهدف الجهاز العصبي، والقلب، والألم. أما أبرز الأدوية والمجالات الطبية التي تستخدم فيها مركبات مشتقة من سم الثعابين فهي: مسكنات الألم (Painkillers)، مركبات مستخرجة من سم أفعى "الماسترز" أو "أفعى الحفرة" تستخدم في تطوير مسكنات أقوى من المورفين، ولكن بدون إدمان أو آثار الجانبية الخطيرة، وهناك أبحاث تجرى على مركبات مثل Contortrostatin كمضاد ألم ومضاد للسرطان، وأدوية ضغط الدم (Hypertension)، وأحد أشهر الأمثلة دواء Captopril، مستخلص من سم أفعى "جاراراكا" (Bothrops jararaca)، ويستخدم لعلاج ارتفاع ضغط الدم وفشل القلب. ومضادات التخثر (Anticoagulants)، تستخلص من بعض مكونات سم الثعابين وتمنع تجلط الدم، مما يستخدم في تصنيع أدوية تمنع الجلطات وهي مفيدة في علاج السكتات الدماغية، والأزمات القلبية، وتخثر الأوردة العميقة. وأدوية لعلاج الجلطات (Thrombolytics)، تستخدم إنزيمات من سم بعض الأفاعي لتفتيت الجلطات الدموية. مثل Batroxobin من أفعى (Bothrops atrox). وأبحاث السرطان، فبعض مكونات السم لها خصائص تمنع تكون الأوعية الدموية التي تغذي الأورام (Anti-angiogenic)، مثل مركب Contortrostatin من أفعى الجنوب الأمريكية، وأدوية لعلاج أمراض القلب، حيث أن بعض البروتينات من سم الثعبان تعمل على إبطاء ضربات القلب أو تحسين تدفق الدم.

ماذا يحدث إذا اختفت الثعابين من البيئة؟

إذا اختفت الثعابين ستتكاثر القوارض والسحالي بشكل أكبر وأيضا ستتأثر الحيوانات الأخرى التي تعتمد على غذائها من الثعابين مثل النمس وغرير العسل والبوم والصقور والثعالب والقنفذ وغيرها من الحيوانات.

 هل هناك تعاون مع جهات صحية أو بحثية محلية لاستخدام منتجات الثعابين في صناعة الأدوية أو الأمصال؟

مع الأسف نحن لا نصنع الأمصال في سلطنة عمان حتى الآن، وإنما نقوم باستيراد الأدوية من الخارج، ولا يوجد أي تعاون مع جهات أخرى سواء لنشر المعلومات أو دورات التعامل الآمن مع الثعابين والبحوث.

كيف توثق الأنواع الجديدة؟ وهل هناك تعاون مع مؤسسات دولية في هذا المجال؟

التوثيق ليس عملية سهلة، ولكن مبدئيا نقوم بتقييم الزاحف مورفولوجيا وأخذ الصور الدقيقة لكل تفاصيل، وبعدها نبدأ بالبحث في الكتب، وعندما نتأكد من النوع نقوم بأخذ الحمض النووي DNA وإرساله للمختبر أو إرساله إلى الخبير الدكتور سلفادور بعد أخذ التصاريح اللازمة لذلك وتصنيفه بالكامل، والدكتور سلفادور ليس خبيرا إسبانيا في الزواحف وحسب، بل محبا لسلطنة عمان، كونه عمل في تصنيف الزواحف في عمان ونشر أكثر من نسخة لكتاب زواحف سلطنة عمان، وهو يمتلك من الخبرة الكافية للتصنيف، ومتعاون بشكل مثالي معنا وسريع.

ما هي أدوات السلامة التي تعتمد عليها خلال الرحلات الميدانية؟

هناك ملابس للسلامة وأدوات مهمة نستعملها، ولكن الأهم من هذا كله الحذر الشديد. كما أن للخبرة الميدانية دور كبير بعد حفظ الله لنا، فالحذاء يستحسن أن يكون واقيا ولكن من الصعب لبس حذاء ذو (بوت) عالي لأنه يعيق الحركة أثناء المسير الطويل، وبعض الأعمال نستغرق فيها ساعات طويلة في المسير وأحيانا عدة أيام، كما توجد قفازات خاصة أثناء التعامل، وملاقط خاصة وحاويات خاصة لحفظ العينة بصحة جيدة أثناء حاجتنا لأخذها للمختبر.

ما طموحاتك البحثية أو الميدانية القادمة في مجال الزواحف العمانية؟

الطموح لا يتوقف ونسأل الله التوفيق.. وأطمح أن أكون مصنفا معتمدا في سلطنة عمان، وأن أستطيع تصنيف أنواعا أخرى لم تصنف من قبل، ونشر العلم والتوعية بشكل أكبر، لأوسع شريحة للمجتمع والمساهمة في عمل محميات طبيعية تساهم بشكل إيجابي للحفاظ على الزواحف.

كونك غواصا ومصورا إلى جانب تخصص الزواحف... كيف توثق الحياة تحت الماء؟

سابقا كنت أستعمل كاميرات احترافية خفيفة وصغيرة الحجم مثل Gopro وحاليا osmo action 5 pro، ولكن للأسف لا تمتلك خاصية التصوير الماكرو، وأسعى حاليا لدخول عالم تصوير بكاميرا أكثر دقة وتجهيزها بالكامل بالإضاءات الملائمة، ولم يتبق إلا القليل لأن اكسسوارات الكاميرا مكلفة بعض الشيء، وما أقوم به من جيبي الخاص، وهناك أولويات أقوم بها، ولكن سندخل عالم توثيق الماكرو تحت الماء بإذن الله.

هل ترى أن هناك تشابه بين دراسة الزواحف واستكشاف البيئة البحرية من حيث التحدي والمخاطر؟

قد تكون البيئة البحرية أكثر خطورة من حيث تغير حالة الطقس وصفاء الماء والتيارات، وبعض الأسماك المفترسة والسامة وغيرها، ولكن التوكل على الله وأخذ الحيطة والحذر والشغف عوامل تجعلك تستمر في العطاء ولو بالقليل من نعم الله عليك لنشر الفائدة والعلم.

ما الأدوات أو المهارات الأساسية التي يحتاجها الشخص ليصبح مغامرا حقيقيا؟

أولا ما يحتاجه الشخص، الشغف وقوة القلب، بعدها يسعى لتثقيف نفسه بالقراءة والالتحاق بالدورات المناسبة التي قد تدعم مهاراته بالمعرفة، مع ضرورة مرافقة ذوي الاختصاص من تجد بهم الفائدة، فضلا عن ربط المعرفة بالمهارة، فلكل مغامرة أدواتها الخاصة من أحذية وحقائب خاصة وملابس ملائمة وأدوات، وكل هذا قد تأخذها تدريجيا، بحسب الاحتياج. كل هواية مكلفة ماديا، ومجهدة بدنيا لذلك يجب ألا تبخل على نفسك بشيء قد ينقذ حياتك.

ما رسالتك للأشخاص الذين يخافون من خوض مغامرات في الطبيعة أو يظنون أنها "خطيرة وغير ضرورية"؟

المعرفة مثل البحر لا تنتهي، لذلك من الضروري تثقيف النفس إذا كنت من محبي الطبيعة، لحماية نفسك من أي كائن قد يسبب لك أية خطورة. ومتى ما كان الإنسان ذا معرفة بما حوله من مخاطر، استطاع احتمال الخطر وتجنبه إن وجد، ويستطيع أن يستمتع بالطبيعة الخلابة بعيدا عن ضجيج المدن وتلوث الضوضاء والهروب إلى صوت الطبيعة والسكون والهواء النقي المشبع بالأكسجين.

Image