ثقافة

أجراس: المديح في الشعر.. كلاسيكية المصطلح وحداثة الرؤية (1 ـ 2)

25 يوليو 2021
25 يوليو 2021

سَأمْدَحُ هذَا الصَّباحَ الجَديد،

سَأَنْسَى اللَّيَالَي، كُلَّ اللِّيَالي

وَأَمشِي إلَى وَرْدَةِ الجَار،

أَخْطفُ مِنْهَا طَريقَتَهَا فِي الفَرَحْ

محمود درويش

***

يعد المديح أحد الأغراض الرئيسية في الشعر العربي القديم. وقد كتب فيه أغلب الشعراء قديما وحديثا، ومن أبرزهم امرؤ القيس والأعشى والنابغة الذبياني وزهير بن أبي سلمى والحطيئة وأبو الطيب المتنبي وأبو فراس الحمداني وأبو نواس وجرير والفرزدق والنابغة الشيباني وبشار بن برد والأخطل وأبو العتاهية ومطيع بن إياس الكناني وأبو تمام وغيرهم. فيما امتنع بعض الشعراء عن قوله لأسباب خاصة ومنهم العباس بن الأحنف وذو الرمة وعمر بن أبي ربيعة وجميل بن معمر وعمران بن حطان ويحيى بن نوفل الحميري وابن خفاجة الأندلسي.

جاء في لسان العرب لابن منظور أن المَدْح هو: «نقيض الهجاءِ وهو حُسْنُ الثناءِ». وتنبع أهمية شعر المديح من أسباب عديد أهمها، وفقا للكاتبة سمر حسن سليمان، الحفاظ على المنظومة الأخلاقيّة العربيّة، وتشكيل النموذج الأخلاقيّ الذي ينبغي الاقتداء به، ورسم الصورة التي يرغب الشاعر رؤيتها في الممدوح.

ورغم ما يسوقه البعض من أسباب وجيهة لشعر المديح، فإن البعض يرى فيه شأنا آخر، لاسيما إذا كان بغرض التكسب أو تسليع الشعر وجعله كأي سلعة مبتذلة في السوق تخضع لمعايير الدفع نقدا، حيث يرفع الوضيع ويدني الرفيع. وقد أفرد ابن رشيق في كتابه (العمدة) بابا خاصا في نقد هذه الظاهرة أسماه (باب التكسب بالشعر والأنفة منه).

خروجا من عباءة الماضي

وإذ نقدم هنا هذه التوطئة القصيرة في شعر المديح، فإننا لا نود التوقف عند الظاهرة ورصد أبعادها وتجلياتها قديما وحديثا. وإنما نورد ذلك مدخلا تمليه الضرورة لموضوعنا الرئيسي في هذه المقالة التي ترصد تحول مفهوم المديح في الشعر الحديث، من كونه إعلاء مباشرا للممدوح بذكر محاسنه أو اختلاق محاسن هي في الأصل ليست فيه، إلى مفردة لطيفة متحولة ذات طبيعة دلالية عميقة يمليها الظرف والرؤيا لدى الشاعر، إذ أن الشعر الحديث بطبيعته قد خرج من عباءة الأغراض التقليدية القديمة مثل المدح والهجاء والرثاء والغزل والنسيب والتشبيب، على ما ورد من خلاف حول تقاطع الأنساق الثلاثة الأخيرة بين النقاد قديما مثل ابن رشيق وعبدالقادر البغدادي وغيرهما.

استخدم شعراء الحداثة مفردة المديح على نطاق واسع، بل كانت الحجر الرئيسي في عناوين دواوينهم وقصائدهم. ومثال ذلك قصيدة (مديح الظل العالي) الملحمية لمحمود درويش، وديوان (حصار لمدائح البحر) وله أيضا قصيدة (سأمدح هذا الصباح)، وديوان (مديح لمقهى آخر) لأمجد ناصر، وديوان (في مديح الزرقة) لهاشم الجحدلي، ومجموعة (قلائد النار الضالة: في مديح القرابين) للشاعر والروائي السوري هوشنك أوسي، وقبل ذلك ديوان (مديح الظل) للشاعر الأرجنتيني لويس بورخيس الذي يضم قصائده ونثره بين عامي 1969 إلى 1976م.

أما على مستوى القصائد فنورد مثلا قصيدة (في مديح الضجر) للشاعر اليمني محمد حسين هيثم، وله أيضا قصيدة (الخفاش: مدائح استثنائية لطائر الليل)، وقصيدة (مديح اللقاءات) لسركون بولص، وقصيدة (مديح الفوضى) لأنور الخطيب. أما المترجم هاتف الجنابي فيختار (مديح الطائر) عنوانا للمختارات الشعرية التي ترجمها للشاعر البولندي جيسواف ميووش الفائز بجائزة نوبل عام 1980م.

كما نرى هذه المفردة مستخدمة أيضا خارج الشعر، ففي النقد كتاب (في مديح النصوص: قراءات نقدية حميمية) للدكتور علي جعفر العلاق. وفي الرواية (مديح الكراهية) لخالد خليفة، و(في مديح الحب الأول) لعلي خيون. وفي مجال النصوص الإبداعية كتاب (في مديح الحب) للدكتورة خوخة الحارثية، وكتاب (في مديح البلدات الصغيرة) لمنتصر عبدالموجود.

أما في مجال الفكر والفلسفة فنقرأ كتاب (في مديح الحماقة) للفيلسوف الهولندي أراسموس فون روتردام، وكتاب (في مديح الظل) للياباني جونيشيرو تانيزاكي، وكتاب (في مديح البطء: حراك عالمي يتحدى عبادة السرعة) لمؤلفه الكندي كارل أونوريه.

ظل لبورخيس وظل لدرويش

في عام 1983 أصدر الشاعر محمود درويش قصيدته التسجيلية الطويلة (مديح الظل العالي). وقد جاءت القصيدة في مرحلة حاسمة من مراحل النضال والشتات الفلسطينيين، إذ كتبت في خضم أحداث بيروت الساخنة ومجزرة صبرا وشاتيلا وإخراج الفلسطينيين لاسيما فصائل المقاومة من بيروت، وما تلا ذلك من تداعيات على القضية والوطن والإنسان في فلسطين المحتلة. يقول درويش في القصيدة:

«قُلنا لبيروت القصيدةَ كُلَّها، قلنا لمنتصفِ النهارِ:

بيروت قلعتنا

بيروت دمعتُنا

ومفتاحٌ لهذا البحر. كُنَّا نقطة التكوينِ،

كنا وردةَ السور الطويل وما تبقَّى من جدارِ.

ماذا تبقَّى منكَ غيرُ قصيدةِ الروحِ المحلِّقِ في الدخان قيامةً

وقيامةً بعد القيامةِ؟ خُذْ نُثاري

وانتصرْ في ما يُمَزِّق قلبكَ العاري،

ويجعلكَ انتشارًا للبذارِ».

يقول شاكر فريد حسن: «قصيدة (مديح الظل العالي) أكثر من سواها من القصائد التي كتبت في خضم معركة بيروت العام 1982، فهي تعالج اللحظة التاريخية وتلامسها وتخترقها بالشعر.

ويضيف: في قصيدته «مديح الظل العالي»، والتي خطّها بعد مجزرة صبرا وخروج المقاومة الفلسطينية من بيروت، يتناول درويش المجزرة والشتات مرة أخرى، لكن هذه المرّة بشيء من الأمل، أو بثقة المناضل، وتنعكس هذه الموثوقية في بعض أجزاء القصيدة حين يوصي درويش قائلا: «هي هجرة أخرى فلا تذهب تماما»، و«هي هجرة أخرى فلا تكتب وصيتك الأخيرة والسلاما».

ومن الجدير بالملاحظة أن ديوان محمود درويش (مديح الظل العالي) يتقاطع مع ديوان (مديح الظل) لبورخيس في محورين رئيسين، أولهما عنوانا الديوانين وثانيهما القضية الفلسطينية. إذ أن موضوع التشابه بين العنوانين يقود النقاد إلى البحث في الكثير من التناصات في شعر درويش ما يصل إلى حد اتهام بعضهم له بالسطو على جمل غيره من الشعراء. يقول الناقد السعودي محمد العباس في مقال له بعنوان (هل يتآكل محمود درويش في أخدوعات «التناص»): «وقد لا نسلّم بكل ما قاله حوامدة عن اختطاف درويش عنوان (مديح الظل) من الياباني جونيشيرو تانيزاكي أو من بورخيس، إذ يمكن أن يكون الأمر مجرد توارد خواطر. كما ينطبق الأمر على (حالة حصار) وهو اسم فيلم لكوستا جافراس. وكذلك (أثر الفراشة) الذي يتقاطع مع نظرية إدوارد لورينتز. وكذلك (الشاعر في الشارع) المأخوذ عن ديوان رفائيل البرتي. وقد نتخفف من حسّ الرصد والترصُّد فننفي كل تقاطعات درويش مع عبارات صريحة مثبّتة في مجموعات شعرية تم اكتشافها بالصدفة وليس نتيجة حفر نقدي. كقصيدة محمد ضمرة (أحد عشر كوكباً) وديوان محمد القيسي (راية في الريح) التي صارت عنده قصيدة بعد إضافة ( لا ).

كما يمكن أن نقول بأنه ما فعله مع علي فودة مجرد تنويع على مفردة وحركة (الظل). وربما لا نتوقف كثيراً قبالة ما قاله الشاعر محمود حامد بأن لافتة (في حضرة الغياب) هي عنوان لإحدى قصائده، وكذلك عبارة (سلام أيها العابرون) التي ردّدها درويش. فكل هؤلاء في نهاية المطاف من شعراء فلسطين ويشعرون بالتهميش والضآلة مقابل قامة درويش- من منظور المدافعين عن درويش. لنتناسى كل أولئك ونسأل عن العبارة التي صارت لصيقة بدرويش. العبارة الثقيلة وجودياً، المنقوشة على شاهدة قبره (على هذه الأرض ما يستحق الحياة) وهي عبارة مستنسخة حرفياً عن نيتشه القائل في أغنية للشرب (على هذه الأرض ما يستحق الحياة: يوم واحد قضيته مع زرادشت علمني أن أحب الأرض). فأي تناص في هذا التطابق!؟ وهل ستظل شخصية محمود درويش تتآكل في ظل ما يتم اكتشافه من انتحالات فيما يصر محبوه على أنها مجرد تناصات»!؟