سؤال الـ14 تريليون دولار ـ ترامب والدَّين العام الأمريكي
جيمس مكبرايد –
مجلس العلاقات الخارجية -
ترجمة قاسم مكي -
مع تزايد الدَّيْن العام الأمريكي بسرعة خلال العقد المنصرم خضع وضع الموازنة الفيدرالية لفحص دقيق. فقد ارتفع عجز الموازنة بشدة عقب الأزمة المالية في عام 2008 ويقول محللو الموازنة أن الإنفاق الحكومي سيستمر في تجاوز الإيرادات إذا لم يحدث إصلاح. لقد دفع الرئيس دونالد ترامب بخطط طموحة تشمل تخفيضات ضريبية وإنفاق جديد في مفاوضات الموازنة مع حلفائه في الكونجرس مما أثار قلق بعض “المحافظين” الماليين الذين يأملون في خفض العجز.
ويرى أعضاء في الكونجرس من كلا الحزبين أن هنالك مغالاة شديدة في التخفيضات المقترحة. لكن العديد من المشرعين الجمهوريين يعتبرون اللحظة الراهنة فرصة نادرة لتحقيق أول إصلاح ضريبي شامل خلال فترة استغرقت حياة جيل. وفي الأثناء أثار اعتماد الولايات المتحدة على المستثمرين الأجانب في تمويل مديونيتها المتصاعدة أسئلة متجددة حول قابلية الاقتصاد الأمريكي للتأثر الشديد بسياسات الحكومات الأجنبية أو تحولات مشاعر المستثمرين.
ما هو الموقف المالي لحكومة الولايات المتحدة؟
في أعقاب الأزمة المالية في عام 2008 حدث ارتفاع حاد في كل من العجز والدين الأمريكيين على مدى سنوات عديدة مع تحصيل الحكومة الفيدرالية إيرادات ضريبية أقل وتزايد إنفاقها لمواجهة التراجع الاقتصادي. بلغ عجز الموازنة للعام المالي 2017 حوالي 666 بليون دولار تقريبًا مع إنفاق الحكومة ما يقرب من 4 تريليونات دولار وحصولها على إيرادات بمبلغ 3.3 تريليون دولار. يساوي هذا العجز 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي وهو ما يشكل زيادة بنسبة 14% مقارنة بالسنة المالية 2016 التي شهدت عجزًا في الموازنة بلغ 600 بليون دولار أو 3.2% من الناتج المحلي الإجمالي. (بلغ معدل الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة خلال العقود الخمسة الأخيرة 3% في المتوسط وكان أعلى رقم وصل إليه يقترب من نسبة 10% في عام 2009).
تركيبة الدَّين الأمريكي
يبلغ حجم الدين العام وهو المقياس الذي يقيس ما تدين به الحكومة للمستثمرين من خارج الحكومة 14.8 تريليون دولار. (حسب ويكيبيديا الدين العام هو كل الدين الفيدرالي الذي يحوز عليه الأفراد والشركات و الحكومات الولائية والمحلية وبنوك الاحتياطي الفيدرالي والحكومات المحلية والكيانات الأخرى خارج حكومة الولايات المتحدة ناقصا الأوراق المالية التابعة لبنك التمويل الفيدرالي- المترجم) لقد تضاعف حجم هذا الدين تقريبا منذ عام 2007 حيث ارتفع من حوالي 40% إلى ما يقرب من 80% من الناتج المحلي الإجمالي. أما إذا حسبنا الدين الحكومي الداخلي، وهو مجموع الديون التي تدين بها جهات حكومية لجهات حكومية أخرى، سيصل الإجمالي إلى 20 تريليون دولار أو أكثر من 120% من الناتج المحلي الإجمالي. وبناء على الحالة الراهنة، يقدر مكتب الموازنة بالكونجرس أن الدين سيزيد بحوالي 9.4 تريليون دولار خلال العقد القادم.
كيف يمكن أن تؤثر خطط ترامب على الدين؟
أصدرت إدارة ترامب أول مقترح كامل لها للموازنة في مايو 2017 وأعقبها الجمهوريون في الكونجرس بطرح تصورهم الخاص للموازنة في خريف 2017. تقترح موازنة ترامب التي يبلغ حجمها 4.1 تريليون دولار خفضا بقيمة 3.6 تريليون دولار خلال فترة العشرة أعوام القادمة في حين اقترح الجمهوريون في مجلسي الشيوخ والنواب (بالكونجرس) موازنات يقولون إنها ستخفض الإنفاق بأكثر من 5 تريليونات دولار خلال تلك الفترة. وتقترح كلا خطتي البيت الأبيض والكونجرس للموازنة تقليصًا حادًا لبرامج الصحة والرعاية الاجتماعية. ولكن اقتصاديين عديدين بمن فيهم وزير الخزانة السابق لورنس سمرز يقولون إن التخفيضات ستزيد في الغالب وبقدر مؤثر من فجوة العجز في الموازنة إذا اقترنت بزيادة الإنفاق في مجالات أخرى وبخطة للإصلاح الضريبي تقلل من الإيرادات. ذلك على الرغم من أن مؤيدي التخفيضات يحاجُّون بأن تسارع النمو سيزيد من الإيرادات ويضبط الموازنة. تشمل الجوانب الرئيسية لمختلف مقترحات الموازنة ما يلي:
اقترح البيت الأبيض وأعضاء الحزب الجمهوري في الكونجرس إطارا للإصلاح الضريبي إذا أجيز سيكون أول إصلاح لهذا النظام منذ عهد إدارة الرئيس رونالد ريجان. وسيخفض هذا الإطار الضريبة على الشركات من 36% إلى 20%. كما سيخفض معدلات الضريبة على الدخل الفردي ويقلص عدد الفئات الضريبية وينهي الضرائب على التركات. وتظل العديد من التفاصيل غير محسومة لكن بعض محللي الضرائب قدروا أن مثل هذه الخطة ستزيد على الأرجح من العجز بأكثر من 2 تريليون دولار خلال فترة عشرة أعوام. ويقول ترامب وبعض المشرعين الجمهوريين أن التخفيضات الضريبية ستعزز النمو بما يكفي لزيادة الإيرادات الحكومية وضبط الموازنة على الرغم من أن بعض المحافظين في الكونجرس يشككون في جدوى أي إصلاح ينطوي على احتمال زيادة العجز.
وعد ترامب مرارًا وتكرارًا بعدم إجراء أية تخفيضات في الاستحقاقات أو نفقات الرعاية الاجتماعية التي تشمل الضمان الاجتماعي وبرنامج الرعاية الصحية (الميديكير والذي يعني التأمين الصحي لمن أعمارهم 65 عامًا فأكثر أو من لديهم عجز بدني حاد من مختلف الأعمار) وبرنامح العون الطبي للأمريكيين الفقراء (الميديكيد). تشكل الاستحقاقات أكبر وأسرع حصة في الموازنة الفيدرالية (ما يقرب من نصف الإنفاق.) ويقدر الاقتصاديون أنها ستكون أكبر مساهم في العجز في العقود القادمة إذا فشل المشرِّعون في خفض معدلات نموها. وعلى الرغم من الوعود التي التزم بها ترامب في وقت سابق ألا أن خطة موازنته ستخفض مخصصات العون الطبي والبرامج الصحية الأخرى للأمريكيين ذوي الدخول المنخفضة بحوالي 800 بليون دولار خلال العقد القادم. وتدعو خطة الكونجرس إلى تخفيضات بمبلغ 473 بليون دولار في مخصصات برنامج الرعاية الصحية واكثر من تريليون دولار في برنامج العون الطبي. وتشمل كلا خطتي الموازنة (مقترحي البيت الأبيض والكونجرس) تخفيضًا عامًا في الإنفاق التقديري غير الدفاعي. تشمل التخفيضات التي يرغب فيها ترامب 192 بليون من برامج مساعدات التغذية التكميلية و72 بليون دولار من فوائد العجز البدني (عدم القدرة على العمل). وستواجه معظم الوكالات (الهيئات) الحكومية تخفيضات في مخصصاتها بالموازنة وسيكون أكبر خفض في مخصصات وكالة حماية البيئة بنسبة 31%. أما خطة الكونجرس فستستقطع أكثر من 600 بليون دولار من الإنفاق غير الدفاعي. بلغ إجمالي الإنفاق الدفاعي 584 بليون دولار في عام 2016. ووعد ترامب “بإعادة بناء قواتنا المسلحة” بإضافة 50 ألف جنديا وزيادة سفن أسطول البحرية وإضافة طائرات إلى القوات الجوية. وتشمل موازنته زيادة في الإنفاق العسكري بحوالي 43 بليون دولار في عام 2018 وما يقرب من نصف تريليون دولار خلال العقد القادم. أما خطة مجلس الشيوخ للموازنة فلن تزيد الإنفاق الدفاعي في العقد القادم في حين تدعو النسخة الخاصة بمجلس النواب إلى زيادات في هذا الإنفاق.
تشكل البنيات الأساسية مجالًا آخر وعد ترامب بتخصيص مقدار كبير من النفقات له. فموازنته تلتزم بإنفاق 200 بليون دولار من الأموال الفيدرالية خلال عشرة أعوام بهدف تحفيز القطاع الخاص عبر الإعفاءات الضريبية على إنفاق ما يصل إلى تريليون دولار لترقية الطرق والسكك الحديدية والمطارات والإمداد المائي وبنية الإنترنت إلى مستويات الدول المتقدمة الأخرى. هنالك أولوية أخرى للإدارة الأمريكية، وهي بناء جدار على طول الحدود الأمريكية المكسيكية. وهو مشروع تقدر تكلفته بما بين 12 بليون إلى 25 بليون دولار لكنه يحصل على 1.6 بليون دولار في موازنة ترامب. لقد عبر الجمهوريون في الكونجرس عن استعدادهم للتفاهم حول الصرف على البنيات الأساسية لكنهم يقولون إن ذلك سيؤجل البت فيه على الأرجح إلى عام 2018.
ماذا بشأن سقف الدين؟
حاول الكونجرس منذ مدة طويلة فرض سيطرته على الإنفاق الفيدرالي بوضع حد أقصي للدين الأمريكي. لقد تم رفع “سقف الدين” هذا 14 مرة منذ عام 2001. وفي أثناء إدارة باراك أوباما استخدمه الجمهوريون في الكونجرس ورقة للمساومة في مفاوضات الموازنة عام 2011. وفي حين أن السقف تم رفعه في النهاية وقتها إلا أن تلك المواجهة أدت إلى تساؤل المستثمرين عن قدرة حكومة الولايات المتحدة على سداد ديونها وإلى أول خفض على الإطلاق لتصنيف الدين الأمريكي بواسطة وكالة ستاندارد آند بورز للتصنيف الائتماني (من أيه أيه أيه إلى أيه أيه- المترجم). وفي عام 2013 ثم مرة أخرى في عام 2015، صوت الكونجرس مؤقتًا لتجميد السقف. أحدث جولة في إشكالية سقف الدَّين كانت في سبتمبر 2017 حين عقد ترامب صفقةً مع الديمقراطيين في الكونجرس لتجميد السقف لمدة ثلاثة أشهر مما يؤسس لمواجهة محتملة في ديسمبر 2017. كما عبر ترامب عن تأييده لمقترحٍ بإلغاء سقف الدين تمام. وهو موقف اقترحه زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ ميتشل مكونيل وكذلك رئيس مجلس النواب بول برايان. يرى برايان أن السقف “أداة مفيدة كَقَيْدٍ على السياسة المالية من أجل أن نساعد أنفسنا على الحصول على حكومة رشيقة”.
مقارنة الدين الأمريكي بالبلدان الأخرى
معدل الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي بالولايات المتحدة من بين الأعلى في العالم المتقدم. فمن بين البلدان الصناعية الأخرى تأتي الولايات المتحدة فقط وراء بلجيكا والبرتغال وإيطاليا واليونان واليابان. لكن الولايات المتحدة تستفيد من مكانة الدولار بصفته العملة الأكثر استقرارًا والمرغوبة أكثر من أية عملة أخرى في العالم. فالطلب المرتفع على الدولار كعملة احتياط دولية يعني أن الولايات المتحدة يمكنها تمويل ديونها بتكلفة أرخص وبسهولة مقارنة بمعظم البلدان الأخرى.
من هم الحائزون على الدين الأمريكي؟
معظم الدين الأمريكي يوجد لدى المستثمرين الذين يشترون سندات الخزانة الأمريكية عند معدلات فائدة متفاوتة. ويشمل ذلك المستثمرين المحليين والأجانب وأيضا الصناديق الحكومية والخاصة. يملك المستثمرون الأجانب 43% من إجمالي الدين أو حوالي 6 تريليونات دولار. وكما توضح إحصاءات “خدمات أبحاث الكونجرس” فإن حوالي ثلثي الدين الأمريكي الذي يملكه الأجانب في يد الحكومات. وأكبر بلدين حائزين لسندات الخزانة الأمريكية هما اليابان (1.09 تريليون دولار) والصين (1.05 تريليون دولار). لقد ظلت الصين البلد الأكبر إقراضا للولايات المتحدة لما يقرب من عشر سنوات لكن اليابان تجاوزتها في عام 2016، بحسب بيانات وزارة الخزانة الأمريكية. ولا يحوز أي بلد آخر سواهما على ديون أمريكية تزيد في مجموعها عن 300 بليون دولار.
هل التمويل الأجنبي للدين الأمريكي ضروري؟
سمح الطلب المنتظم من الدائنين الأجانب للولايات المتحدة اقتراض الأموال عند معدلات فائدة منخفضة نسبيا. لكن بعض واضعي السياسات أثاروا مخاوف حول الأخطار المحتملة في أن تستخدم دولة وحيدة أو الصين تحديدًا مقتنياتها من أصول الدين الأمريكي للضغط على الولايات المتحدة. وحذر بعض الاقتصاديين من أن بيعًا مفاجئًا لهذا الدين يمكن أن يرفع أسعار الفائدة مما يزيد بشدة من تكاليف الاقتراض الأمريكي، وقد يتسبب في أزمة اقتصادية. في عام 2015، ولأول مرة على مدى أكثر من عام، اشترى المستثمرون الأجانب عددًا من أذون الخزانة الأمريكية أقل من تلك التي باعوها. لقد تسارع ذلك الاتجاه في عام 2016 مع هبوط الموجودات الأجنبية بحوالي 201 بليون دولار. وفي حين أن الصين واليابان حائزتان على نصيب الأسد من الدين الأجنبي للولايات المتحدة إلا أن كلا البلدين قللا من موجوداتهما من أصول الدين الأمريكي في عامي 2015 و2016. وأثار بعض محللي الاستثمار مخاوف من أن حالة البلبلة وعدم اليقين حول نوايا الإدارة الجديدة تقود المستثمرين إلى التخلي عن موجوداتهم . لكن براد سيتزير بمجلس العلاقات الخارجية يشير إلى أن هذا التخلي سابق لمقدم ترامب. ويقول إنه يعكس أساسا السياسات الاقتصادية الخاصة بالحكومات الأجنبية. فمثلا، حسبما يقول، قررت حكومة اليابان أنها تريد الاحتفاظ بعدد أقل من السندات القصيرة الأجل والمزيد من النقد في حين ظلت الصين تبيع احتياطياتها الأجنبية لدعم عملتها. وفي حين أن بعض البنوك المركزية قد تخفض من موجوداتها من السندات الأمريكية إلا أن مستثمري القطاع الخاص الأجنبي يزيدون من مشترياتهم. وفي النهاية يقول سيتزير لا يوجد بعد ما يشير إلى أن المستثمرين الأجانب فقدوا شهيتهم لشراء الدين الأمريكي خصوصا حين تستمر بلدان كبرى عديدة في تحقيق فوائض كبيرة في ميزانها التجاري.
