No Image
ترجمة

الواقع الاقتصادي يضغط على ترامب وسياساته الحِمَائية

07 أغسطس 2025
ترجمة: قاسم مكي
07 أغسطس 2025

((من منظور اقتصادي وتجاري يشكل تعقيد الرسوم الجديدة عبئا إضافيا. فهي تشتمل على معدلات متفاوتة بشدة بين مختلف البلدان مع استثناءات لسلع معينة. لكن هذا التعقيد من منظور ترامب "المَافْيَوِي" ميزةٌ مقصودة وليس عيبا لأنه يسمح له بمكافأة ومعاقبة البلدان والصناعات منفردةً وبناء على أهوائه السياسية))

يعرف جورج ريكليس "مفاوضات لَيِّ الذراع." فأثناء المحادثات الطويلة والشاقة حول الشروط التي تترك بموجبها بريطانيا الاتحادَ الأوروبي كان مستشارا لكبير مفاوضي الاتحاد ميشيل بارنييه.

في أبريل عندما أصدر الرئيس دونالد ترامب أمرا، تم تعليقه لاحقا، يفرض رسوما جمركية شاملة بنسبة 20% على صادرات الاتحاد الأوروبي الى الولايات المتحدة كانت لدى ريكليس صورة واضحة عن الكيفية التي يجب أن يرد بها الأوروبيون. إنها التهديد بفرض رسوم جمركية عالية على صادرات الولايات المتحدة الى أوروبا. كان ذلك ما فعلته الصين. وبدا من الممكن أن الشركاء التجاريين الآخرين لأمريكا سيتَّحدون لإجبار ترامب على الرجوع عن قراره.

ريكليس الذي هو الآن مدير مشارك بمركز السياسات الأوروبية في بروكسل قال لي قبل أيام "الذي كان مطلوبا هو أن يعدَّ مفاوضو الاتحاد الأوروبي حزمة انتقامية عريضة (من الرسوم الجمركية)."

ردَّ الاتحادُ الأوروبي فعلا بفرض رسوم باهظة على بعض السلع الأمريكية الأيقونية (الشهيرة) بما في ذلك مشروب بوربون كينتاكي والدراجات النارية طراز هارلي- ديفيدسون. ولاحقا هدد بالتوسع في الرسوم لكي تشمل الطائرات الأمريكية وقطع غيار السيارات ومنتجات أخرى معينة. لكنه في النهاية امتنع عن التهديد برسوم جمركية شاملة من شاكلة رسوم ترامب من خلال استخدام أداته الجديدة لمكافحة الإكراه. وهي لائحة استُحدثت في عام 2023 للتعامل مع الضغوط الاقتصادية الخارجية وكان من شأنها تمكين الاتحاد من استهداف البنوك وشركات التقنية العملاقة الأمريكية مثل جوجل وميتا والتي لديها معاملات ضخمة في أوروبا.

قال ريكليس وهو يتحدث عن قادة الاتحاد الأوروبي بمن فيهم أورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية الأوروبية "لم يشرعوا أبدا في تطبيق أية حزمة عقابية حقا."

مؤخرا، أعلن البيت الأبيض عن اتفاقية إطارية مجحفة تواجه بموجبها معظمُ السلع الأمريكية التي تدخل الى الولايات المتحدة رسما جمركيا بنسبة 15%. وذكر الإعلان أن الاتحاد الأوروبي وافق على سحب الرسوم الجمركية عن السلع الصناعية الأمريكية واستثمار 600 بليون دولار في الولايات المتحدة وزيادة مشترياته من المنتجات الطاقة الأمريكية والمعدات العسكرية بقدر كبير. يقول ريكيليس "هذه نتيجة كارثية. إنها استسلام وإذلال دفعة واحدة. لم يستوعب قادة الاتحاد الأوروبي تماما سياساتِ ترامب التجارية وما تعنيه رئاسته."

هدف ترامب بالطبع، وفق ما يراه، هو إحياء الصناعة التحويلية الأمريكية وخفض العجز التجاري وزيادة الإيرادات. وفي الشهر الماضي عندما سجلت سوق الأسهم مستويات قياسية جديدة وكانت بعض المؤشرات الاقتصادية تشير الى أن الاقتصاد ككل صمد بشكل مدهش في ظل هجومه الجمركي الضاري، كتب ترامب في وسائل التواصل الاجتماعي "(مطلقو) الأخبار الكاذبة ومن يقال عنهم الخبراء كانوا مخطئين. الرسوم الجمركية تجعل بلدنا يزدهر."

أوضحت سلسلة من التقارير الاقتصادية التي نشرت في الأيام القليلة الماضية عدم صحة ادعاءات ترامب. ففي يوم الأربعاء الماضي نشرت وزارة التجارة أرقاما تُظهِر تباطؤا حادا في نمو الناتج المحلي الإجمالي خلال النصف الأول من هذا العام مقارنة بالعام الماضي. فالمساعي المحمومة من قبل الشركات والمستهلكين لاستباق رسوم ترامب بشراء السلع المنتجة في الخارج قبل سريانها شوَّهت الأرقام ربع السنوية للناتج المحلي الإجمالي والتي تظهِر انكماش الاقتصاد بمعدل 0.5 % على أساس سنوي في الفترة من يناير الى مارس ونموه بمعدل يبدو جيدا بلغ 3% من أبريل إلى يونيو.

إذا جمعنا الأرقام لتصحيح التشوهات سيتضح لنا توسع الناتج المحلي الإجمالي بمعدل 1.3% خلال فترة الستة أشهر الماضية مقارنة بمعدل 2.8% في عام 2024. وهذا انخفاض كبير.

بالنظر الى كل أوضاع البلبلة التي أوجدتها البداية الفوضوية لتنفيذ رسوم ترامب الجمركية ليس من المدهش أن يفكر أرباب العمل مرتين قبل توظيف العاملين. لقد أظهر التقرير الرسمي للوظائف عن شهر يونيو والذي نشر قبل شهر ضعفا في العديد من صناعات القطاع الخاص. لكن الحجم الكلي للتباطؤ لم يكن واضحا حتى ظهور تقرير يوليو يوم الجمعة.

إذا تركنا جانبا عمالة الزراعة الموسمية سنجد أن أرباب العمل أوجدوا 73 ألف وظيفة جديدة في الشهر الماضي. وهذا العدد أقل من توقعات وول ستريت. لكن الصدمة الحقيقية جاءت في مراجعة التقديرات الخاصة بشهري مايو ويونيو والتي أوضحت تراجع نمو الوظائف الى أقل من 20 ألف وظيفة في كل شهر. وهذا يعني جمودا تقريبا في إيجاد الوظائف. وإذا أخذنا الشهور الثلاثة الأخيرة معا سنجد أن نمو الوظائف كان أضعف مقارنة بأية فترة مماثلة منذ جائحة كوفيد-19.

رد فعل ترامب الأوَّلي على تقرير الوظائف كان تجديد هجومه على بنك الاحتياطي الفيدرالي ورئيسه جيروم باول لعدم الاستجابة إلى مطالبه بخفض أسعار الفائدة. فور نشر التقرير، كتب ترامب على منصته تروث سوشيال "باول كارثة." ولاحقا في نفس اليوم ومرة أخرى على منصة تروث سوشيال أعلن ترامب عن إقالته مفوضة مكتب إحصاءات العمل الذي يعد تقرير الوظائف شهريا. وفي تدوينة أخرى سعى الى تبرير خطوته غير المسبوقة بادعاء تزوير أرقام الوظائف في شهر يوليو لكي يبدو "سيئا" هو والجمهوريون الآخرون.

الحقيقة هي أن مكتب إحصاءات العمل به إحصائيون وخبراء بيانات آخرون العديدون منهم موظفو خدمة مدنية يقضون وقتا طويلا في إعداد أرقام دقيقة. جهود ترامب لإيجاد كبش فداء حتى بمقاييسه هو نفسه مثيرة للشفقة. أما بنك الاحتياطي والذي أبقى على سعر الفائدة المعياري الذي يعتمده دون تغيير في اجتماع خاص بالسياسة النقدية هذا الشهر فغير مسئول عن حقيقة أن شركات عديدة تردّ على رسوم ترامب بوقف التوظيف والشروع في رفع أسعارها.

أظهر تقرير اقتصادي آخر نشر في الأيام القليلة الماضية أيضا أن معدل التضخم حسب المقياس المفضل لبنك الاحتياطي الفيدرالي اتجه نحو 2.6% ارتفاعا من 2.4% في مايو. يعني ذلك أن التضخم لايزال فوق المعدل المستهدف للبنك وهو 2%. ويشير ذلك الى عودة محتملة للتضخم الجامح الذي يتسارع فيه ارتفاع الأسعار مع ركود الاقتصاد في نفس الوقت.

أحيانا كان ترامب ومستشاروه الاقتصاديون يشيرون الى أنه قد يكون من المفيد ترك الاقتصاد يعاني بعض المتاعب في الأجل القصير مقابل رفع الرسوم الجمركية وخفض العجز التجاري الذي خلال أربعة أعوام من الأعوام الخمسة الماضية بلغ في إجماليه أكثر من 3% من الناتج المحلي الإجمالي. من الصعب دعم هذه الحجة تجريبيا على الرغم من أن وجاهتها تبدو بديهية.

قال لي جوزيف جاينون الاقتصادي بمعهد بيترسون للاقتصاد الدولي في واشنطن "تكشف البيانات عن عدم وجود علاقة بين الموازين التجارية والرسوم الجمركية. وأضاف قائلا إن أجندة سياسة ترامب "قائمة على مقدمة خاطئة."

إحدى الطرق التي يمكن أن تقلل بها رسومُ ترامب العجزَ التجاري والذي هو الفجوة بين الصادرات والواردات ادخالُ الاقتصاد في انكماش كامل. لكن إذا حدث هذا لن تكون هنالك أية علاقة بين تقليص الفجوة وإزالة حواجز التجارة الخارجية. سيكون سبب ذلك أن المستهلكين لديهم نقود أقل (وكذلك الشركات الأمريكية) لإنفاقها على كل شيء بما في ذلك السلع المستوردة.

وفيما ينتظر الأمريكيون في توتر لكي يروا إذا ما كان هذا هو المستقبل الذي ينتظرهم، تصَالَحَ أناس عديدون في بلدان أخرى مع عَالَمٍ انتقلت فيه الولايات المتحدة من لعب دور الضامن الرئيسي للنظام التجاري المفتوح الى إدارة ما يشكل في جوهره " شبكة ابتزاز بدعوى الحماية."

يقول ريكيليس "تتبع الإدارة الأمريكية مقاربة لا تضع في اعتبارها أية قواعد أو تعهدات سابقة ولكن ترتكز فقط على القوة. القوة هي الحق. فإذا أمكنك الحصول على شيء بممارسة الضغط أفعل ذلك. وإذا لم تكن مستعدا للرد على الضغط بضغط مضاد ستكون ضعيفا وسيتنمَّرون عليك."

بموجب سلسلة من الأوامر التنفيذية التي وقعها ترامب قبل أيام سيتم فرض رسوم جمركية تتراوح من 10% الى 50% على سلع من عشرات البلدان بداية من الخميس القادم.

وكما هو متوقع، ركزت التغطية الإعلامية لسياسات ترامب التجارية على الشركاء التجاريين الرئيسيين للولايات المتحدة مثل كندا والمكسيك والهند والاتحاد الأوروبي. لكن قائمة البلدان التي سيتم إخضاع منتجاتها للرسوم تشمل تشاد وليسوتو اللتين تعانيان فقر شديدا. أيضا لاوس وكذلك العراق، وهما بلدان عانيا بالتأكيد ما يكفي في الماضي من تصرفات الولايات المتحدة، سيواجهان رسوما جمركية بنسبة 40% و35% على التوالي.

من منظور اقتصادي وتجاري يشكل تعقيد الرسوم الجديدة عبئا إضافيا. فهي تشتمل على معدلات متفاوتة بشدة بين مختلف البلدان مع استثناءات لسلع معينة. لكن هذا التعقيد من منظور ترامب "المَافْيَوِي" ميزةٌ مقصودة وليس عيبا لأنه يسمح له بمكافأة ومعاقبة البلدان والصناعات منفردةً وبناء على أهوائه السياسية.

هكذا ستُفرض رسوم بنسبة 50% على البن والسلع الأخرى من البرازيل التي أثارت سخطه بإحالة رفيقه المستبد جايير بولسونارو الى القضاء. لكن خام الحديد البرازيلي الذي تعتمد عليه صناعة الصلب الأمريكية القوية سيُعفَى منها. وبعدما أعلنت كندا أنها تؤيد الدولة الفلسطينية، كتب ترامب على منصة تروث سوشيال "سيجعل ذلك من الصعب جدا بالنسبة لنا عقد اتفاق تجاري معهم."

هنالك خصيصة أخرى جديدة للاتفاقيات التي أبرمتها إدارة ترامب وهي أن الاتحاد الأوروبي واليابان تعهدا تحت الضغط باستثمار مئات البلايين من الدولارات في الولايات المتحدة. ومن الواضح أن ترامب يتبع نفس الأسلوب الذي تَنَمَّرَ به على الجامعات والشركات القانونية بالتهديد بحرمانها من الأموال والعقود الفيدرالية.

ثمة مماثلة تاريخية. فنظام ترامب الجديد، الذي ينطوي على تسليم جزية للدولة المهيمنة ونصب جدران عالية من الرسوم الجمركية، أشبه بالسياسات الاقتصادية الريعية لسلالة مينغ الصينية (1368-1644) منه الى النظام التجاري المفتوح الذي تعهد الرؤساء الأمريكيون من هاري ترومان الى باراك أوباما بالإخلاص له. يقول ريكليس هازئا "نحن في أوروبا لا زلنا معتادين على النظر الى الولايات المتحدة كصديق وحليف."

ترامب يساعد العديدين من "غير الأمريكيين" على التخلي عن هذه العادة. وداخل أمريكا يلجأ في الأثناء الى تصرفات دكتاتورٍ صغير بمهاجمة البنك المركزي وإقالة مراقب الأداء الاقتصادي. وإذا تمسك بهذه الاستراتيجية ستقوض بقدر أكبر صِدْقِية وقوة الاقتصاد. لكنها يقينا لن تمكنه من إخفاء عواقب سياساته التي بدأت تتضح سلفا.

•جون كاسيدي كاتب ومحرر بمجلة نيويوركر