أمة يمكن الاستغناء عنها: أمريكا في عالم ما بعد الهيمنة الأمريكية
ساهم تصوير دونالد ترامب للولايات المتحدة كدولة ضعيفة ومنهكة في صعوده السياسي واستمرار جاذبيته. لكن المفارقة أن سياسته الخارجية ترتكز على تضخيم مبالغ فيه لقوة أمريكا، إذ يبدو أن ترامب ومستشاريه مقتنعون بأن واشنطن، رغم ما يُقال عن تراجعها، لا تزال قادرة وحدها على فرض شروطها على العالم وإجبار الآخرين على الانصياع لشروطها.
استندت القوة الأمريكية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أساسًا على التعاون، لا على الإكراه. ويتجاهل نهج ترامب هذا الواقع، متغاضيًا عن الفوائد التي جنتها واشنطن من النظام التعاوني، وعاجزًا عن تخيل عالم قد ينسحب فيه الآخرون من هذا النظام أو يؤسسون بديلًا يتعارض مع مصالح أمريكا، وهو بالضبط ما تُعجل به إدارة ترامب الحالية.
وصف عالم السياسة مايكل بيكلي أمريكا في عهد ترامب بأنها «قوة عظمى مارقة» – لا انعزالية ولا دولية، بل عدوانية ومتمركزة على مصالحها. هذه الصورة دقيقة جزئيًا، لكنها لا تعكس تمامًا قدرة الدول الأخرى على تقويض النفوذ الأمريكي. فبدل التساؤل عما إذا كانت واشنطن ستنسحب من قيادة العالم، يبدو السؤال الأكثر واقعية الآن: ماذا لو قرر الآخرون الانفصال عنها؟
قد يرى البعض أن الحلفاء وإن استاؤوا من توجهات ترامب، فلا خيار أمامهم إلا التكيف معها، لأن البدائل أشد قسوة. وقد تتوق بعض الدول إلى عهد أمريكا المنفتحة، لكنها – على مضض – ستتعلم التعايش مع نسختها القومية المتشددة. يعكس نهج إدارة ترامب قصورًا خطيرًا في الخيال السياسي، وهو سبب شائع للفشل الاستراتيجي. ففن الحكم يتطلب توقع ردود فعل القوى الأخرى داخل النظام الدولي، لكن فريق ترامب يفترض أنه لا بدائل أمام الدول والمنظمات والمجتمعات سوى الاستسلام لمطالب واشنطن، وأن أمريكا قادرة على الحفاظ على هيمنتها حتى من دون حلفائها. أنانية متنكرة في هيئة استراتيجية، لا تنتج نظامًا أكثر انفتاحًا كما يزعم، بل تدفع نحو عالم أشد عدائية تنحسر فيه القوة الأمريكية.
رغم هذه الرؤية القاتمة، لا تزال الولايات المتحدة تتمتع بمزايا استثنائية: سوق داخلية ضخمة، عملة مهيمنة عالميًا، قوة عاملة شابة، موارد طبيعية وفيرة، نظام تعليم عالٍ جاذب، ومجتمع متنوع يُتيح فرص الحراك. لكن إدارة ترامب تقوّض هذه المزايا بوتيرة مقلقة: تُضعف الديمقراطية الدستورية، توسّع صلاحيات السلطة التنفيذية، وتُخضع مؤسسات الدولة للمزاج السياسي والشخصي. كما تهاجم الجامعات، وتُضعف الجهاز الإداري الفيدرالي، وتبث الارتباك في الأسواق من خلال سياسات تجارية عشوائية. وبينما تُوبخ الحلفاء وتُضعفهم، تُجامل الأنظمة الاستبدادية، ما أفقد واشنطن مصداقيتها وفاعليتها الدولية.
كانت الهيمنة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية استثناءً تاريخيًا؛ قوة كبرى لم تُقابل بردع أو تحالفات مضادة، لأن واشنطن، خلافًا للقوى الصاعدة الأخرى في التاريخ، أنشأت نظامًا دوليًا قائمًا على القواعد والتوافق، يُمكّن الدول الصغيرة والمتوسطة من الازدهار تحت مظلة الحماية الأمريكية.
لكن هذا النظام الفريد، المبني على الثقة، لا يمكن أن يصمد أمام استهتار طويل الأمد من الدولة التي صنعته.
هذا النظام ينهار الآن. فترامب يرى الحلفاء عبئًا لا قيمة مُضافة، ويُفضل انتزاع التنازلات عبر الضغط بدلًا من التعاون. لكن تجاهل قيمة الشراكة يُضعف النفوذ الأمريكي. فعلى سبيل المثال، لم تكن العقوبات الأمريكية وحدها كافية لدفع إيران للتفاوض بشأن برنامجها النووي، بل تطلب الأمر دعمًا من الصين وروسيا وحلفاء واشنطن الأوروبيين. وفي أوكرانيا، حتى لو سعت إدارة ترامب مستقبلا لتخفيف العقوبات على روسيا أو الضغط على كييف، فإن الاقتصاد الروسي لن يتعافى دون موافقة أوروبية، ويمكن للدول الأوروبية مواصلة دعم أوكرانيا حتى في غياب الولايات المتحدة.
الأمر نفسه ينطبق على جهود واشنطن لحرمان الصين من تكنولوجيا متقدمة مثل معدات تصنيع الرقائق. فالقيود الأمريكية تفشل بدون التزام اليابان وهولندا والدول المُنتجة الأخرى. كما أن تهديدات واشنطن بعزل الدول عن السوق الأمريكية أو النظام المالي العالمي تفقد فاعليتها إذا بدا أن أمريكا ستُقيّد الوصول إليها في كل الأحوال، أو إذا تراجعت مكانة الدولار كمحور اقتصادي عالمي.
لكن إدارة ترامب ليست الوحيدة المسؤولة عن تآكل النظام الدولي القائم. فواشنطن دأبت لعقود على استخدام الترابط الاقتصادي كسلاح، بينما تتصاعد في الداخل نقمة شعبية ضد التجارة الحرة. لم تلبِ الإدارات المتعاقبة مطالب الحلفاء – خصوصًا في آسيا – بصياغة استراتيجية اقتصادية تُخفف اعتمادهم على الصين. كانت اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ خلال ولاية أوباما فرصة لذلك، لكنها تعثرت دون ضغط سياسي حقيقي. ثم انسحب منها ترامب، ولم يسع بايدن للعودة إليها.
عندما يتعلّق الأمر بحرق الجسور، لا شيء يُضاهي سرعة وتدمير سياسات ترامب الأخيرة. ففي استطلاع أجرته Cluster 17 وLe Grand Continent، رأى 51٪ من الأوروبيين أن ترامب «عدو لأوروبا»، وهو شعورٌ قوي حتى في دول كانت من أقرب الحلفاء للولايات المتحدة، كألمانيا والدنمارك. بعد فوز حزبه في الانتخابات، صرّح المستشار الألماني فريدريش ميرز: «الأمريكيون، أو على الأقل هذه الإدارة، لا يُبالون بمصير أوروبا»، مضيفًا: إن أولويته ستكون تسريع استقلال أوروبا عن واشنطن - وهو خطاب كان يُعتبر متطرفًا قبل سنوات، ولكنه أصبح اليوم مألوفًا.
في المقابل، يُكثف خصوم واشنطن - الصين، روسيا، إيران، وكوريا الشمالية - تعاونهم للتصدي للعقوبات الأمريكية، وتسليح جيوشهم، وشن أعمال عدائية متزايدة. والمفارقة الأبرز أن الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة والدول المحايدة بدأوا أيضًا بالتحرك ضدها، لا معها. قد يبدأ ذلك بخطوات رمزية: تجاهل اجتماعات البيت الأبيض، أو الامتناع عن التنسيق السياسي، أو تقليص المكانة الممنوحة للولايات المتحدة في القمم الدولية. وقد تصل إلى حدّ إلغاء قمم كبرى – مثل قمة الناتو – لتجنب إعطاء ترامب منبرًا يهدد منه الحلف.
ومع مرور الوقت، ستكون هناك تكلفة ملموسة. ستتردد الدول في شراء سندات الخزانة الأمريكية، أو تطلب أسعار فائدة أعلى، مما يزيد عبء خدمة الدين. الدولار الأمريكي، الذي طالما اعتُبر ملاذًا آمنًا، قد يفقد هذه المكانة إذا استمرت سياسات ترامب في تقويض الثقة بالاقتصاد الأمريكي. بالفعل، خفّضت وكالة موديز التصنيف الائتماني للولايات المتحدة في مايو، وهو مؤشر إنذار مبكر.
في المقابل، قد تبدأ حكومات أجنبية بإعادة تشكيل سلاسل التوريد لتجنّب المكونات الأمريكية، فيما يتحوّل الشركاء التجاريون إلى بعضهم البعض. في مارس، عقدت اليابان وكوريا الجنوبية والصين قمة تجارية وأعلنت الدول الثلاث نيتها التفاوض على اتفاقية تجارة حرة. هذا التحول يضعف قدرة واشنطن على منافسة الصين، خاصة أن اليابان وكوريا الجنوبية هما ركيزتا استراتيجيتها الاقتصادية في آسيا.
رفض ترامب للتعددية لا يهدد فقط العلاقات التجارية، بل يُضعف مؤسسات دولية محورية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، اللذين ساعدا في دعم النفوذ الاقتصادي الأمريكي لعقود. هاجمت إدارته هذه المؤسسات وهددت بتجفيف تمويلها، كما فعلت سابقًا مع منظمة التجارة العالمية.
سيتأثر الأمن القومي الأمريكي بشدة إذا بدأت الدول في الابتعاد عن واشنطن. أحد أبرز المجالات التي قد تتضرر هو تبادل المعلومات الاستخباراتية، الذي يعتمد على الثقة بأن الولايات المتحدة لن تسيء استخدام البيانات أو تكشف عن مصادرها. في ولايته الأولى، كشف ترامب عن معلومات سرية قدمتها إسرائيل لمسؤولين روس، ما أثار قلق الحلفاء. وفي ولايته الثانية، استخدم مسؤولون في إدارته تطبيقات غير آمنة لتداول معلومات حول ضربة مرتقبة ضد الحوثيين. هذا التهاون قد يدفع الحلفاء إلى تقليص تعاونهم الاستخباراتي مع واشنطن.
تعتمد القوة العسكرية الأمريكية على شبكة حلفاء عالمية. لا يمكن للبنتاجون إرسال قوات إلى الشرق الأوسط دون موانئ في ألمانيا وبلجيكا، أو شن عمليات في آسيا دون قواعد في اليابان والفلبين. وقد أنقذت منشآت مثل قاعدة رامشتاين ومستشفى لاندشتول أرواح الآلاف خلال حربي أفغانستان والعراق. حتى عبور القنوات الاستراتيجية مثل بنما ضروري لتنفيذ الخطط العسكرية. لكن إذا ازدادت معارضة الشعوب لسياسات واشنطن، قد تعجز حكوماتهم عن توفير الدعم أو الإذن اللازم. تخيّلوا هجومًا ضخمًا على الولايات المتحدة دون أن يسارع الحلفاء للمساعدة، كما فعلوا بعد 11 سبتمبر.
رغم تفوق جيوش الحلفاء على خصومهم المحتملين، إلا أن افتقارهم للثقة يجعلهم أكثر ميلا للتنازلات. فحتى الدول القادرة، مثل فنلندا، قد تتردد في مواجهة روسيا دون ضمانات نووية من فرنسا أو بريطانيا. وإذا شعرت أوروبا بالتخلي، فقد تكرر أخطاء ما بعد 2014، عندما ضغطت فرنسا وألمانيا على أوكرانيا للقبول باتفاقيات مينسك، التي سمحت لروسيا بترسيخ وجودها ثم شنّت غزوا أوسع في 2022. أي عدوان روسي مستقبلي على دول البلطيق، مترافق مع تهديدات نووية، قد يُفكك تماسك الغرب. وقد لا ترغب إدارة ترامب في المخاطرة بنيويورك من أجل تالين، وقد تتردد فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة بدورها. أوروبا القلقة على أمنها قد تتقاعس عن دعم واشنطن في ملفات مثل مواجهة الصين.
أظهر ترامب مرارًا استعداده للتشكيك في التزامات بلاده الأمنية، وقلّل من شأن التضحيات الأوكرانية، ما قوّض الثقة في القيم الأمريكية. وإذا بدت سياسات واشنطن غير أخلاقية أو غير مميزة عن سياسات روسيا والصين، فقد تبدأ دول أخرى برؤية هذه القوى كبدائل أقل تقلبًا.
يعتقد ترامب وفريقه أن تقارب قوى مثل الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية بالغ الخطر لدرجة أن أوروبا لن تتمكن من مقاومتها دون دعم أمريكي مباشر. ومن هذا المنطلق، يرون أنه من الأفضل العودة إلى عقلية القرن التاسع عشر، حيث تتقاسم القوى الكبرى النفوذ على مناطق العالم. لكن هذا التفكير يعني تسليم أوروبا لروسيا، وآسيا للصين، وهو ما سيكون خسارة استراتيجية هائلة. والأسوأ أن مثل هذه التنازلات لن تُهدّئ طموحات بكين أو موسكو، كما توحي استثمارات الصين المتزايدة في أمريكا اللاتينية، ومحاولاتها للتأثير على السياسة الكندية.
تفسير آخر محتمل لنهج إدارة ترامب هو اعتقادها أن التحالفات تُشتت الانتباه وتعوق التفوق في المنافسة مع الصين. ورغم أن هذا يختلف شكليًا عن موقف إدارة بايدن، إلا أنه يشترك معه في أولوية تعزيز القوة الداخلية: اقتصاد أقوى، تقنيات أكثر تقدمًا، وجيش أكثر فاعلية. الفكرة هنا أن الفوز بهذه المجالات سيجعل الآخرين يصطفون خلف الولايات المتحدة تلقائيًا. لكن هذا الافتراض يتجاهل أن الدول الأخرى لن تدعم قوة لا تستفيد منها، أو تعتبرها تهديدًا. فإذا رأت تلك الدول أن السوق الأمريكية مغلقة، أو أن التكنولوجيا الأمريكية تُستخدم كسلاح ضدها، أو أن الجيش الأمريكي لا يوفر لها الحماية، فستبدأ بتقليص اعتمادها على واشنطن.
لا خلاف على أهمية تقوية الداخل الأمريكي، لكن القيام بذلك دون منفعة متبادلة سيدفع الآخرين لحماية أنفسهم، والحد من تعرضهم للهيمنة الأمريكية. والمفارقة أن ترامب، رغم حديثه عن تعزيز القوة، يعتمد سياسات تهدم هذا الهدف. فالتعريفات الجمركية التي يفرضها تُربك الأسواق، وتعيق التخطيط الاقتصادي. والتشريعات الجمهورية التي يدعمها قد تفاقم العجز وتزيد التضخم. كما أن ربط عمالقة التكنولوجيا بالحرب ضد المؤسسات الحكومية وسيادة القانون يضر بسمعتهم وقيمتهم السوقية. ووفقًا لمحلل الدفاع تود هاريسون، فإن اقتراح ترامب لميزانية 2026 سيُقلص الإنفاق الدفاعي بـ31.5 مليار دولار مقارنة بتقديرات بايدن، وهي أساسًا غير كافية لمواجهة التحديات الأمنية.
هذه ليست أجندة قوة، بل وصفة مقلقة للضعف. يُدمر ترامب وفريقه كل ما جعل من الولايات المتحدة شريكًا جذابًا، لأنهم ببساطة لا يدركون مدى فداحة النظام البديل المعادي للمصالح الأمريكية. فالولايات المتحدة لم تكن «ضرورية» بطبيعتها، بل أصبحت كذلك في عالم ما بعد الحرب الباردة من خلال التزامها بأمن وازدهار الدول التي قبلت القواعد التي وضعتها واشنطن وساعدتها في فرضها. لكن إذا تخلت واشنطن عن تلك القواعد، فإن مكانتها تصبح بلا معنى.
سيبدو هذا التدمير الذاتي، على الأرجح، لغزًا لمؤرخي المستقبل. فخلال السنوات الأخيرة، تمتعت الولايات المتحدة بهيمنة غير مسبوقة، وكان الحفاظ عليها ممكنًا بتكلفة منخفضة نسبيًا. صحيح أن كل من سبقوا ترامب ارتكبوا أخطاء أضعفت النفوذ الأمريكي وساعدت الخصوم وأربكت الحلفاء، لكن لم يكن أي منهم يسعى عمدًا إلى إضعاف مكانة بلاده. أما ترامب، فيبدو مصممًا على تشكيل عالم لا تقوده الولايات المتحدة، بل تتعامل فيه بقوة منفرة لا تُكسبها احترامًا ولا ولاءً.
•كوري شاك باحثة أمريكية في العلاقات الدولية، تشغل حاليًا منصب مديرة السياسة الخارجية والدفاعية في معهد أمريكان إنتربرايز. شغلت عدة مناصب في وزارتي الدفاع والخارجية الأمريكيتين، وفي مجلس الأمن القومي.
•نشر المقال في Foreign Affairs
