No Image
تحقيقات

الشعر العربي في أزمة !

01 يونيو 2022
تخاصمه الجوائز ويرفضه الناشرون
01 يونيو 2022

  • أحمد الشهاوي: ناشر قال لي «لو بُعِثَ المتنبي أو أبو تمام فلن أنشر لهما»
  • عبد الكريم هداد: غالبية النقاد تخلوا عن القصيدة
  • فتحي عبد السميع: الديوان يُدفن مباشرة بمجرد مولده
  • أشرف يوسف: بعض الناشرين يطلبون المال من الشعراء الشباب
  • لميس سعيدي: اللغة لم تعد أغلى ما نقدِّمه كقربان للناس
  • محمد خير: الرواية التهمت السوق
  • وليد الخشاب: هناك شعراء يكتفون بنشر قصائدهم على الفيسبوك
  • ميس الريم قرفول: تسليع كل شيء يتنافى مع طبيعة الشعر
  • سارة عابدين: لجان الجوائز لا تعرف أصلا بوجود قصيدة النثر

الشعر عزيز، وقليل. لا يقارن نفسه بالقصة والرواية. لا ينافس، ولا يناطح. الشعر يشبه غرفة صغيرة جميلة ملونة في بيت الإبداع الكبير، وبرغم انزوائه، وعدم مطالبته بالكثير، إلا أنه لا يلقى الاهتمام الكافي. الناشرون في الأغلب يحجمون عن نشره، متعللين بعدم الإقبال عليه، وبعضهم يطلب مقابلاً مادياً مقابل نشره، كما أن معظم المؤسسات الثقافية الحكومية والخاصة في العالم العربي لا تضعه في بؤرة اهتماماتها، فلا جوائز كبرى له، ولا اهتمام إعلامياً ضخماً به، إلا باستثناءات طفيفة، وحينما تلتفت إليه فمن باب عدم نسيان شيء في خلطة النشاط العام، ومن باب إكمال الشكل الثقافي. في هذا التحقيق يتحدث الشعراء أنفسهم عن مشاكل الشعر، وحاجته الماسة إلى اهتمام، في زمن تسيطر الرواية على كل شيء وتزيح في طريقها كل الفنون الأخرى.

يعترف الشاعر المصري أحمد الشهاوي، في البداية، بأنه صار من الصَّعب حالياً أن تنشرَ ديواناً، فإما أن تنتظر دورك لو أردت النشرَ في مؤسسةٍ رسميةٍ، أو تنشر بمقابلٍ ماليٍّ، ونادرًا ما تُقْبِل دور النشر الكبرى على نشر الشِّعر مقارنةً مع أجناس أدبية أخرى. وهذا لا ينطبقُ على القصيدة المكتوبة بالعربية فقط، ولكن على الدواوين المترجمة من اللغات الأخرى، لذا نجد أن حركة ترجمة شعر العالم تأخَّرت وربَّما هي في سبيلها إلى التوقف، ونسبة بيع الدواوين قليلة للغاية حيث تصل إلى نحو 10% أو 15% على أقصى تقدير.

على المستوى الشخصي لم يعانِ الشهاوي يومًا من نشر أعماله، لأنه لم ينشر أيَّ دواوين في المؤسسات الرسمية باستثناء ثلاثة في التسعينيات هي «الأحاديث.. السِّفر الأول»، و«الأحاديث.. السِّفر الثاني»، ثم «الأحاديث.. مختارات».

منذ عام 1996 والشهاوي ينشر كلَّ حرفٍ يكتبه عن الدار «المصرية اللبنانية» في القاهرة، فهو من المؤمنين بأنَّ الشَّاعر أو الكاتب عليه أن ينشر نتاجه في دار نشرٍ واحدة. يقول: «هذا الأمر يتحقَّق في الغرب، لكن من الصَّعب أن يتحقَّق في واقع النشر الثقافي في البلدان العربية، كما أنَّ بعضَ كُتبي الشعرية بيع منها ثلاثون وأربعون ألف نسخة، وبعض الكتب النثرية زاد على ثمانين ألف نسخة، لأنَّ ناشر القطاع الخاص ينفقُ أموالًا ويعمل بجدٍّ واجتهادٍ على أن يستردَّها في وقتٍ سريع، ولا يريد أن يخسر عندما ينشر شعراً، أو تكسد تجارته، لذا يحجم أكثرية الناشرين للأسف عن نشر الشعر».

ويضيف: «أنا أعرف ناشرا فَرَمَ عشرات الدواوين التي نشرها بعدما طلب من أصحابها أن يشتروها بسعر زهيدٍ، أو يشتروا جُزءًا منها فرفضوا جميعًا، فاضطر إلى الفَرْم، واتخذ قراره بعدم نشر الشعر مرةً ثانية، وقال لي: لو بُعِثَ المتنبي أو أبو تمام فلن أنشر لهما».

الشهاوي يشير إلى مشكلة أخرى، ففي وقتٍ تندرُ فيه المطبوعات الشهرية أو الفصلية عربيًّا بات من الصَّعب أن تجدَ ناقداً يتصدَّى للكتابة بعُمقٍ عن ديوان شعرٍ، لأنه لن يجد مكانًا ينشر فيه مقاله أو دراسته، وهذا أثَّر على رواج كتاب الشِّعْر، وجعل الجوائز الكبرى بعيدةً عن الشِّعر والشعراء.

لكن الشهاوي يعود ليؤكد أنه لا توجدُ علاقةٌ بين الشِّعر ومشكلات نشره أو توزيعه، فسيبقى الشِّعر ما بقي الإنسان حيا، وقديما قالت العرب: «لن يترك العربُ الشِّعْر حتى تتركَ الإبل الحنين»، لافتاً إلى أن «الشِّعر منذ الخليقة نخبويٌّ، وفي ثقافتنا العربية منذ العصر المسمَّى بالجاهلي وحتى يومنا هذا، وهناك استثناءاتٌ في الشِّعر عربياً وعالمياً، وهناك أعمالٌ شعريةٌ باع بعضها مئات الآلاف».

وبحكم سفره واطلاعه على حركة الشِّعر في العالم رأى الشهاوي من يطبع خمسين أو مائة نسخة، وصارت الطباعة الديجتال هي الرائجة، بحجَّة أن كتب الشِّعر لا تُوزَّع، وأنَّه لا مكان في المخازن للكتب الراكدة. يعلق في نهاية حديثه: «عليَّ أن أشير هنا إلى أن الكُتب الرائجة لا تعني الجودة، والكتب الراكدة لا تعني الرداءة».

حصار القصيدة

من ناحيته يرى الشاعر العراقي المقيم في السويد عبدالكريم هداد أن الوهن أصاب مرافق الأدب والفنون، خاصة الشعر، وبات الإعلام منحسرا في مهمة التسويق والدعاية وملاحقة فضائح النجوم وحياتهم الخاصة، وسط صعوبات الحياة المعيشية وتفشي الأمية وتدهور وتغير مسالك العلاقات الاجتماعية العامة في مجتمعاتنا العربية، مع تفكك العلاقة بين الإعلام والثقافة عموماً إذ أنهما لا يشكلان في الوقت الراهن منصات إيصال ووسيلة معرفية ثقافية وأدبية هدفها تدريب الذائقة العامة وتشكيل الوعي كما كان الحال على مدار سنوات.

هداد صاحب ديوان «طفل لم يرم حجرا» قال كذلك إن الشعر فقد منصاته ومهرجاناته المتميزة في الوطن العربي حيث هموم القصيدة العربية وإبداعاتها المتنوعة ومدارسها المتجددة في الأسلوب والموضوع، فضاقت المساحة أمام القصيدة بقدر اتساع أضواء تجمعات الاحتفالات التلفزيونية الدعائية المتكررة في المحتوى والضيوف، إضافة لتخلي غالبية النقاد عن المشهد الشعري وتحريك ركوده وإبراز شأنه، فأصبحوا مجردين وفاقدين لأسلحتهم النقدية التي لا تبارح دفء الصداقات والمحاباة ولا تتجاوز أسماء الشللية، وأحياناً الدفع المسبق. فبقي شاعر القصيدة المستوفية لشروطها الفنية وحده خارج التغطية، حتى بات الشعر بعيدا ومنزويا عن الحياة، مثلما أغلقت أروقة الجامعات العربية في الوطن العربي صروحها في وجه المهرجانات الشعرية وهو ما تسبب في مزيد من حصار القصيدة.

ويخلص إلى أنه: «لهذه الأسباب وغيرها، بات الوهن كبيراً وجباراً على عالم الشعراء ومطبوعاتهم الشعرية، فأحجمت أغلب دور النشر العربية عن النشر، وتجربتي قاسية جداً إذ أن بعض الناشرين نكثوا بالعقود الموقعة بيننا مع أنها مدفوعة الأجر».

تمجيد ثقافة الاستهلاك

وبحسب الشاعر المصري فتحي عبد السميع فإن الشعر يعاني في الأساس من الجهل بقيمته، وبؤس الوعي بأهميته وضرورته التي زادت في حياتنا المعاصرة.

صاحب ديوان «الخيط في يدي» يرى أننا لا نستطيع فصل معاناة الشعر عن معاناة الإنسانية، واكتفاء البشرية الآن بالقشور والمظاهر الخارجية وتمجيد ثقافة الاستهلاك وغير ذلك من الأمور التي تشغل الإنسان عن جوهره، وتصرفه عن كينونته الحقيقية، وتتركه ضحية لنزاع حاد بين بهرجة خارجية صارخة وخواء داخلي أليم.

الشعر بالنسبة لفتحي عبد السميع يعاني من محاولات إعلامية متواصلة لتشويه صورته، وتسخيف الشعراء، وترسيخ صورتهم بوصفهم كائنات نرجسية هائمة، تعيش عالة على المجتمع، وظيفتها في الحياة هي كتابة الخطابات الغرامية، أو التعبير عن الحب في أشد صوره سطحية وابتذالاً.

كما يعاني كذلك من تجفيف منابعه، وقتل قيمة تذوقه في مهدها، وذلك من خلال ممارسات تعليمية غريبة تؤدي في النهاية إلى حصول الإنسان على شهادة عليا في الآدب مثلاً مع عجزه التام عن قراءة قصيدة جيدة، ولو نجحت كليات الآداب في العالم العربي في تعميق وعي طلابها بقيمة الشعر، وغرست فيهم القدرة على تذوقه، لوجدنا قراء الشعر بالملايين، ورأينا عجباً في علاقة الشعر بالناس.

لقد بات الشعر، كما يقول فتحي، محصوراً في زاوية، وصارت تأتيه اللكمات من كل اتجاه، وانعكس ذلك على الشعراء، وظهرت حياتهم وظروفهم المعيشية كأنها تناقض رسالتهم الشعرية وتلتهمها التهاماً، وصارت طاقة الشاعر موجهة بالأساس للصراع مع تلك الظروف القاسية، لا مواجهة الكتابة وتحدياتها ومتطلباتها.

وعندما ينجح الشاعر في التغلب على ظروفه، والحفاظ على قدر من طاقته الشعرية في صورة ديوان مثلا يعرف أشكالاً كثيرة من الآلام تبدأ بعدم إقبال دور النشر على طبعه لأنه لا يحقق العائد المادي المناسب، وهكذا يسقط الشعر في يد التجار والمستثمرين، وهو في الأصل صرخة ضد تغول التجارة والاستثمار المادي.

وينهي كلامه قائلا: «يقوم الشاعر في الغالب بطبع ديوانه على نفقته الخاصة، وهو أمرٌ مهين في الحقيقة، لكن الشعراء يضطرون إليه، ثم تتواصل الآلام مع ظهور الديوان دون أن يلتفت إليه أحد من النقاد والإعلاميين، أي يتم دفنه مباشرة بمجرد مولده. محنة الشعر سببها الجهل به، وتجاهله، وقتله بأشكال مختلفة».

ما العمل؟

الشاعر المصري أشرف يوسف يقول إن المناخ أصبح سيئاً في الوقت الحالي، فبعض الناشرين يطلبون من شاعر شاب موهوب أو شاعرة شابة موهوبة ما لا يقل عن ثمانية آلاف جنيه، إن لم يكن أكثر، لنشر ديوانه أو ديوانها، وهو ما يجعلنا نفكر جميعاً: ما العمل؟

يواصل صاحب ديوان «يعمل منادياً للأرواح» طرح الأسئلة: «هل يجب علينا كجماعة شعرية من أجيال متعددة التصالح والتنازل عن عزلتنا ونخلق جوقتنا بعيداً عن سجن السوشيال ميديا وثلاجات النشر الخاص؟ هل ننشئ أخوية خاصة بنا حتى لا نضطر إلى الدفع للناشرين، وحتى لا ننتظر دور الشعر في طابور الجوائز المعادي للطليعيين والمجددين؟ وهل هذه الجوائز قادرة على أن تخلق شاعراً بحجم طرفة بن العبد أو عمرو بن كلثوم أو زهير بن أبي سلمى؟»، ويجيب على نفسه: «أتمنى، لكن عبادة الماضي عادة تحوله إلى سلطة تخنق شعراء المستقبل الرائعين، وتحديداً، الأجيال الشابة التي لا تكف عن ضخ الدماء في عروقنا اليابسة، وتعليمنا من وقت لآخر أن الزهد هو بلد الشعر والشعراء».

شيء لا يُباع ولا يُشترى

وتبدأ الشاعرة الجزائرية لميس سعيدي رؤيتها من توصيف الشعر: «ربما تحوّل إلى شيء نادر، وثمين، شيء لا يُباع ولا يُشترى، كالذكريات ولحظات الحب والرائحة التي لا تمرّرها الشاشات. نضعه في كُتب، كزهرة الحبيب الذابلة، لا لكي نبيعه أو يقرأه الآخرون، بل لكي يعثر عليه من سيرثون جيناتنا وملامح الأرض التي أضيفت إليها خطواتنا، كما يعثرون على هياكل عظمية تدلّهم على تفاصيل حياة سابق».

وتسأل صاحبة ديوان «نسيت حقيبتي ككل مرة»: «من يفكّر اليوم في شراء ديوان شِعر؟ من يقاوم الارتباك أمام صفحات شبه فارغة أو أسطر قصيرة ومرصوصة كسلالم بيت مهجور أو «أطباق بعد المأدبة»؟ من يملك الجرأة والأدوات ليكتب ما نقص في كلام الشاعر؟ وتجيب: «لقد كان دائما قارئُ الشِّعر كاتبَه، فمن يقرأ الشِّعر يتورّط في كتابته بطريقة أو بأخرى. في زمن مضى، كان الجميع يكتب الشِّعر في مرحلة ما من العمر، تحديداً المرحلة التي نكتشف فيها طعم الأشياء الأول. كانت القصائد تُكتب لنبضات القلب التي تسكن جسداً آخر، وللأبناء الذين لا نرجو عودتهم ولتلك الخطوط الملوّنة في الخريطة والتي نسميها الوطن، وللحظات الوحدة، تلك الرفقة الدائمة. لكن، من يكتب الشِّعر اليوم؟ من يجرؤ على مواجهة ذاته وخوفه ونبضات قلبه، بكلمات قليلة تشبه صدى القطع النقدية في حصالة طفل؟».

وتضيف: «ينصرف القارئ والناشر والناقد عن الشِّعر اليوم، لأن الشاعر الذي يسكن وجدان كل واحد منا، والذي ينسج روابط خفية وحميمية مع اللغة ينزوي بعيداً ويخفت صوته، ولأن اللغة التي نصنعها بأيدينا كألعاب الفقراء، لم تعد أغلى ما نقدِّمه، كقربان، لإنسان آخر».

حالة نكوص

أما الشاعر المصري محمد خير فيرى أن أي نوع أدبي سيبدو في حالة معاناة إذا وضعناه في مقارنة مع فن الرواية، لأنها هي «السوق» وهي المقروئية الواسعة وهي -نتيجة لذلك- تمثل معظم الجوائز وأكثرها كرماً. يستدرك: «لكني أظن أيضاً أن ثمة أسباباً أخرى لمشكلات الشعر، ومنها تأثره -أكثر من غيره- بأزماتنا الثقافية وصورتنا عن أنفسنا، الشعر ديوان العرب والثقافة العربية، ولهذا فإنه أكثر من يواجه أسئلتها الصعبة بخصوص الهوية والمرجعيات، الأصولية والتجريب والتغريب. يمكن لأي رواية أو قصة أن تعبر عن عصرنا أو ناس زماننا، أما الشعر فيحتاج أن يتخطى أولا عقبات الشكل، هل هو العمودي لا يزال أم التفعيلة، الحر أم النثر، العامية أم الفصحى؟ أين «الاعتراف» بين هذا وذاك وكذلك ما هو اختيار الجوائز حين توجد، والأهم إلى أي شكل ينحاز الجمهور؟ ليس صدفة أن عددا من الشعراء الموهوبين قد «نكصوا» إلى أشكال قديمة من كتابة الشعر أقرب إلى التفعيلة أو حتى الزجل.

رغم كل ما سبق، يرى صاحب ديوان «العادات السيئة للماضي» أنه كان محظوظاً في مشواره الشعري حتى الآن، ديوانه الأول «ليل خارجي» فاز بالجائزة المركزية لوزارة الثقافة المصرية، كان يفترض -طبقاً لقانون الجائزة- أن يُطبع الديوان ولكن البيروقراطية عطّلته (اعترضوا على صغر حجمه)، فاستخدم جزءاً من القيمة المالية للجائزة في دفع تكلفة النشر لدى دار خاصة، لكن تلك كانت المرة الوحيدة التي اضطر فيها للدفع. ثم حصلت دواوينه التالية على تقدير نقدي أسعده وحقق مبيعات لا بأس بها وفقاً لـ«سوق» قصيدة النثر. يعلق: «القصد أني وجدت دائماً ناشراً مستعداً لنشر قصائدي، وهذا فيما أعتقد أفضل ما يأمله شاعر النثر في هذا المكان والزمان».

وظيفة مفقودة

الشاعر المصري المقيم في كندا وليد الخشاب يقول إن الشعر في العالم كله في تراجع، ولا يعيش حاليا إلا بفضل دعم الدولة أو المؤسسات الثقافية الخاصة. ويضيف: «على المستوى الجمعي، ظل الشعر لقرون عديدة هو وسيلة صياغة روح الأمة أو القبيلة بالكلمات، أو الوسيط الذي تتحدث به الدولة عن نفسها، وهو ما ضمن للشعر رواجه كديوان للعرب وللغرب. أما في النصف الثاني من القرن العشرين، فقد انتقلت تلك الوظيفة إلى الرواية، ثم تولتها السينما والآن يتولاها التلفزيون. وعلى المستوى الفردي، كان الشعر الغنائي النوع الأمثل لإنشاء الذات الحديثة المتفردة منذ نهايات القرن التاسع عشر العربي. لكن تلك الذات مؤسسة اليوم، ولا تحتاج للشعر في حد ذاته، بل تقوم منشورات الفيس بوك وإنستجرام، وغيرها من منصات التواصل، بوظيفة ترسيخ الذات بالحديث عما يعتمل فيها وبالبوح المستمر».

ويخلص من تمهيده السابق إلى أنه لتلك الأسباب لا توجد سوق حقيقية للشعر، لأنه فقد وظيفتيه الاجتماعيتين التاريخيتين، وتراجع الطلب عليه، إلا عند «الغاوين». لكن الشعر حي ومزدهر كفن وممارسة، لا كسلعة في الصناعات الثقافية. فوسائل التواصل الاجتماعي منحت الشعر حياة جديدة في القرن الحادي والعشرين، وأصبحت تلك المنصات هي المساحة الأهم والأرخص والأوسع انتشاراً للتفاعل بين الشاعر وقارئه، مشيراً إلى أن «شاعراً هاماً مثل هيثم خشبة قد توقف عن نشر شعره في كتب ولا ينشره إلا على موقعه الإلكتروني الخاص. وكثير من الشعراء يكتفون بنشر قصائدهم على صفحات الفيسبوك الخاصة بهم».

الخشاب تطرق إلى تجربته: «أسعدني الحظ ونشرت شعري عند ثلاث من دور النشر الداعمة للشعر في مصر: ميريت التي نشرت ديواني الأول: «الموتى لا يستهلكون»، وشرقيات، والمرايا التي نشرت آخر دواويني «كشك اعتماد». وأتمنى -لاعتبارات تاريخية- أن تستمر عناية الأقدار بي لأقنع ناشري بدعم مشروعاتي الشعرية القادمة. لكن كما أن الصحافة الورقية تختفي بالتدريج لصالح المواقع الصحفية، فالكتاب الشعري سائر على الطريق نفسها، إلا في الحالات النادرة التي يوجد فيها الشاعر النجم، القادر على إقناع القارئ بدفع نقود مقابل ديوانه».

تسليع كل شيء

الشاعرة السورية ميس الريم قرفول تطرح سببين لتفسير أزمات الشعر، الأول يتعلق بطبيعته ذاتها. تعلق: «التجارب تتعدد صحيح، وكل واحدة تحمل من فرديتها ما يقرِّبها أو يبعدها مما يمكن تسميته بالمقروءية الجماهيرية التي تلاقيها الرواية مثلاً، لكن على الشاعر الذي يرغب بأن يقترب أكثر من القارئ أن يتخذ خطوات جدية حيال الموضوع، خطوات تلتمس التجارب الحية والعصرية، وتنبثق من جديته وتجدده الذاتي، هذا الخليط ربما يقدم نوعاً من التفاعل، وأعتقد أن كل خطوة نابعة من رغبة حية وصادقة بالتواصل ستؤدي إلى ما هو جميل ومتفاعل مع زمنه».

السبب الثاني بحسب صاحبة ديوان «لا تموت لا تطير.. يوميات شاعرة تدرس الحقوق» هو تسليع كل شيء، حتى الإبداع الفني والأدبي، وهذا قد يتنافى مع طبيعة الشعر. تقول: «أود أن أنوه بأنه من الجيد أن نلقى تلك القراءة الكبيرة، لكن أن تكون تلك هي الغاية فهذا من شأنه أن يشوه المسار المتخذ نحو جوهر الكتابة، كونه التعبير الصادق عن حقائق تختمر داخل ذات الكاتب، بتفاعله مع ما حوله، زبدة هذا التفاعل هي خمر يبقى للزمن وليس رهين أخذ ورد آنٍ. على هذه الانطلاقة نحو الزمن أن تلقى شعلتها داخل اللحظة المُعاشة وعلى كل كاتب أن يلتقطها ويبشر بها بطريقته. من الجيد أن نصل إلى يقين بإمكانية الاعتماد على الكتابة الشعرية في إيجاد لقمة العيش، هو حلم لكن عليه التحصّن قدر الإمكان من المنافع التي قد تخفف من عفوية الشعر!».

وتضيف: «من ناحية الجوائز والتجاهل النقدي والإعلامي أستطيع القول إنه بسبب إقامتي خارج العالم العربي حساسيتي تجاه الموضوع أقل، لكن في مرحلة ما أعتقد أن الأمر يتطلب خطوات من مؤسسات مستقلة بعيدا عن مفهوم الربح لكي تقدم دعمها من مبدأ حساسيتها لأهمية كل عنصر فني إبداعي على حدة. لسنا منفصلين عن العالم، بل متصلون أكثر وأكثر، حصول شعراء على جوائز عالمية قد يعيد في العالم العربي بعض الضوء للشعر، هو الذي يحمل ضوءه داخله عبر الزمن».

وتختم حديثها قائلة: «لم أواجه صعوبات في نشر ديوان لي، ربما لم أتجرأ على هذه الخطوة إلا بعد زمن من بداية كتابتي للشعر، وفي هذا التمهل محاولة لإخراج تجربة كتاب كما لو أنها بطاقة تعريف للناشرين وللقراء، وسيلة للتلاقي بين تناقضات الكتابة الداخلية والرغبات الخارجية للنشر والقراءة».

ذائقة الوزن والقافية

من جهتها تقول الشاعرة المصرية سارة عابدين إن علاقة الجماهير بالشعر تغيرت بعد أن تراجعت القضايا الكبرى والأفكار الجماعية. كان الشعر مرتبطا بالوعي الجمعي، والشاعر يُعبّر عما يرغب المجتمع في سماعه خلال المناسبات، كالشعر الوطني، أو الديني، لكن بعد أن أصبح الشعر أكثر ذاتية تراجعت جماهيريته وأصبح أكثر نخبوية، بالإضافة إلى أن الشعر الحديث لم يعد مرتبطا بالوزن والقافية والإيقاع، مما يصعِّب تلقيه على الجمهور، نتيجة اعتياد الجماهير على موسيقى الشعر التي تعتبر جزءاً من الاستمتاع به. تعلق: «تغيّر الشعر وأصبح حديثاً ثم حداثياً، لكن المتلقي لم يتغير كثيراً وبقى في المنطقة الآمنة لتلقي القصيدة كما عرفها الإنسان العربي منذ زمن قديم».

وتلفت صاحبة ديوان «على حافتين معاً» إلى أن دور النشر لا ترغب في الخسارة، حتى لو كانت طليعية، وبالتالي تردد تلك الدور مقولة «الشعر لا يبيع». تعلق: «وهكذا نحن كشعراء نكون مثاليين أحياناً لكننا نصطدم بواقعية دور النشر التي تفكر في المكسب قبل أي شيء، أما الجوائز فأنا لا أعرف في حقيقة الأمر لماذا لا تهتم المؤسسات بمنحها للشعر. أظن أنها تهتم إلى حد ما بالقصيدة الموزونة والعمودية. نعم.. لجان الجوائز لا تعرف إلى الآن بوجود قصيدة النثر».

وتحكي عن تجربتها الذاتية: «أول ديوان نُشر لي كان منذ عشر سنوات مع دار نشر يملكها صديق كاتب وروائي راحل. كنت أصمم له الأغلفة مقابل نشر الديوان. منحته ما يقرب من 15 غلافاً. وبحسبة بسيطة أعتقد أنني دفعت له ما يكفي لنشر ثلاثة دواوين بتكلفة الوقت الحالي. الآن تحررت من الشعور بالامتنان نحوه بسبب إدراكي أنني دفعت تكلفة نشر ديواني وطباعته وتوزيعه بل وأكثر. بعد الديوان الأول لم أواجه مشكلات في نشر الدواوين التالية ولا أظن أن الأمر يرتبط بجودة كتابتي، قدر ما يرتبط بالحظ ليس أكثر».