من يخبر الراحلين أن قلوبنا في أكفانهم؟
لا يموت الحب مهما طال الغياب.. هذه حقيقة كثيرًا ما تصدق في الواقع، رغم أن البعض يؤمن بأن "البعيد عن العين.. بعيد عن القلب"، الحب هي حالة إنسانية لا تموت بسهولة حتى وإن اعتبرنا بأن الموت هو الفقدان الأبدي الذي لا رجوع له إلى الدنيا، أما الحنين للميت فهو كالبركان الخامد في ظاهره، لكن باطنه ثائر ينتظر لحظة الخروج إلى العلن.
أن أشد موجات الألم تأتي عندما نتحدث لميت ونشتكي له من مرارة الفقد، ومن غدر الأحياء والشوق إلى الأموات.. قد يرتعش القلب من شدة الحزن على فراق الأحبة في بدايات الفراق، لكن ألم الذكرى أصعب وأشد من الموت ذاته.. فإذا كان الموت هو الصدمة الأولى التي تفجع القلوب وتدميها، فإن الرحيل يترك الأحبة يصارعون ألم البعاد بقسوة.. في وجود الأحبة، دائمًا ما كنا نشعر بالاطمئنان بقربهم، ولكن ما أن يغيبهم الموت، حتى تتلاشى مساكن الاطمئنان في النفوس.
قد نتصور في بعض المرات بأن الموت هو راحة للمتوفي وألم للأحياء، لكن هذه المقولة لا تصدق في أحيان كثيرة، فالإنسان يتمسك بالحياة وهو يصارع الموت، وعندما يصل إلى مرحلة اليأس يشعر بالخوف من صمت الأنفاس وتوقف ضربات القلب.
النهايات الحزينة تكتب هذه العبارة على قبور الراحلين: "الحياة تنطفئ.. وتنتهي بالموت". أما فراق الأحبة فهو مؤلم للغاية، وصعوبته في أنه يجعل القلوب لا تتشافى بسهولة من أوجاعها، بل يظل الإنسان في صراع طويل مع ألم جارف وحرقة دموع لا تجف.. ودائمًا وأبدًا يظل الرضا بقضاء الله هو خير وسيلة للصبر والتحمل.
من عجائب الأقدار وأقساها، أن طبول الذكرى تظل تقرع في عقولنا وخيالاتنا تسترجع من غاب عن الوجود، ضحكاته وهمساته وحركاته وكل تفاصيل الماضي، ومثلما يقال دائمًا "الذاكرة تسقي الأحداث القديمة بدلو به بقايا قطرات من ماء الحياة حتى لا تموت الذكريات من عقولنا عطشًا".
أطفال صغار لم تتجاوز أعمارهم الحلم.. وأمهات وآباء يترجلون من على ظهر الدنيا، لكن ذكراهم تظل حاضرة في عقول آبائهم وأمهاتهم، فالغياب ليس معناه طمس الأشياء في وحل الضياع من الذاكرة، بل رسوخ الأحداث جزء من حب لا يموت وماضٍ لا يعرف النسيان.. الفقد.. وما أدراك ما الفقد، غياب الأحبة مؤلم للروح وانهيار للجسد، هكذا علمتنا الحياة من أحداثها، سنوات تمضي لكن جرح الماضي لم يندمل بعد، ولم تتشافَ الروح من فقدان من تحب.
عندما يموت الإنسان تزاح من المكان بقاياه القديمة، ملابسه، عصاه، ألعابه، إزاحتها من أجل أن يستطيع الآخرون العيش والتآلف مع النسيان، ولكن هذا الظن لا يصدق أبدًا، فالغائب عن الحياة موجود في داخل القلب، فأقل ما يقال بأن رياحًا شرقية تهب نسماتها بذكريات الماضي، تأتي رائحته من مكانه.. فكيف يمكن أن يعرف الأحبة نسيان أحبتهم؟.
تبقى الصور التي تجمعنا مع من نحب.. الوجع الذي لا ينام أو ينطفئ لهيبه، في كل صورة هناك حكاية أخرى لسكين تنغرس في سوداء القلب، ضحكات من نحب.. تظل تطرق حجرات القلوب قبل أن نسمعها بآذاننا.. فكم أنت مؤلم أيها الفقد!.
تدوينات كثيرة تعرضت إلى الفقد وطغيان الألم وشدته حتى أن البعض لا يدرك شدته في "لحظة الفراق الأولى" بسبب هول الصدمة، لذا لا تستغرب إن وجدت البعض صامتًا حائرًا كيف يعبر عن مشاعره وعن صرخاته الداخلية، ولكن الألم يتضح عندما يبدأ الشعور بـ"الفراغ والغياب" في المواقف اليومية، مثل الأعياد، والمناسبات الأخرى.
من أجمل ما قرأت واقتبست هذا القول الذي لم أتوصل إلى كاتبه الحقيقي إلا أن قوله مؤثر للغاية فهو القائل: "رحيل من نحب يوجع.. هم رحلوا عنا لكنهم لم يرحلوا منا.. هم رحلوا عنا لكنهم لم يرحلوا من قلوبنا.. من يخبر الراحلين أن قلوبنا في أكفانهم.. آمنت أن الوداع هو أقسى ظروف الحياة. قيل قديمًا بأن أصعب الشوق يأتي من شوق الحي للميت.. وإن بعد موت من نحب نعلم جيدًا أن لا فراق يوجع ولا ألم يكسر القلب إلا فقد الأحبة رحمهم الله.. فراق الأحبة مؤلم جدًا لا يشعر به إلا من عاناه وأحيانًا تجد عقلك لا يتقبل حقيقة الفراق.. لا يوجد كلام يصف وجع رحيل الأحبة.. بعد موت شخص عزيز ستعلم جيدًا أنه لا فراق يكسر حنايا القلب إلا فقدان الأحبة ستعلم أن بعد رحيلهم لا حزن ينتهي ولا فرح يكتمل".
