ليس " حفنة من التراب"!
أفرد الشعراء والأدباء الكثير من الملاحم الوطنية التي عكست ما بداخلهم من مشاعر وأحاسيس فياضة، آثرت قريحة كل من تتبع أعمالهم وسمو ذائقتهم الأدبية وأسلوبهم الرفيع في تصوير حبهم لأوطانهم. على الجانب الآخر، هناك من آلمهم حدة الشوق والحنين إلى وطنهم الذي هجره منذ سنوات، لكن رغبتهم في العودة إليه ثانية تلح عليهم وتقلق مضاجعهم ليل نهار، وأصبحوا يحلمون باليوم الذي يعودون فيه إلى أوطانهم وديارهم.
ملايين الكلمات قيلت في "حب الأوطان"، وجاءت المؤلفات القديمة والحديثة كنهر خالد محمّل بالكلمات الصادقة، والمشاعر المبعثرة بين سطور تحمل معانٍ عظيمة، كلها جاءت لتخبر العالم بأن الوطن هو نسيج متكامل من الحب والفداء. لذا، أسهم الوطن في إخراج أفضل الإبداعات الشعرية والأدبية، ومكتبات اليوم زاخرة بالكثير مما تم كتابته بدم التضحيات واشتياق العودة إلى الوطن. وفي سجلات التاريخ أيضًا كتبت الكثير من ملاحم البطولات الخالدة التي تفيض بين جداولها نهرًا من التضحيات والفداء والذود عن مقدرات الأوطان.
في ميادين القتال، قدم الأبطال أرواحهم فداء لأوطانهم التي عاش عليها آباؤهم وأجدادهم، وأصبحت ساحات شاسعة تضم قبور الشهداء الذين عرفوا معنى وقيمة الوطن، فكان خيارهم الأول والأخير هو التضحية بأرواحهم ليبقى وطنهم حرًا. وفي ثرى الأرض انصهرت أجساد الأبطال لتبقى أماكنهم رايات خفاقة في سماء الوطن لا تنسى أبدًا.
لقد استبسلوا طويلاً في الميادين، وخاضوا معارك طاحنة ذكرها التاريخ وشهد على بطولاتهم، فهم الذين اختاروا طريق التضحية بكل ما لديهم من "غال ونفيس" لتبقى الوطن يتنفس من رئة لا يلوث هواءها معتدٍ آثم.
أتعجب من يرى بأن "الوطن هو حفنة من التراب"! الوطن ليس كذلك، فالتراب تذروه الرياح، لكن قيمة الوطن في كونه قطعة من قلب نابض بحبه إلى الأبد. بدون وطن، يموت الإنسان شريدًا في فيافي الأرض. فالوطن حقيقة حب وعطاء وتضحيات لا تنتهي بموت جيل، بل تأتي من بعده أجيال جديدة تحمل لواء الكفاح الممتد برايات خضبت بدماء الشهداء والمدافعين عنه.
من الحقائق التي قيلت في سياق الوطن، ما جاء على لسان الكاتبة اليابانية "بنانا يوشيموتو": "مهما ذهب الإنسان إلى بلدٍ آخر غير بلده الأم بغض النظر عن الزواج أو الدراسة، فلن يشعر بالراحة والانتماء لهذا المكان مهما حاول أن يبدي من المشاعر لذلك المكان. يحن لتراب الوطن ولا بدّ له أن يعود لذلك الوطن في يوم من الأيام".
وهذا الذي ينطبق تمامًا مع نظرة الكاتبة السورية "هيا الأتاسي" التي كتبت مقالًا بعنوان: "لا يعرف الوطن إلا من عرف الغربة" وتقول فيه: "ألم الفراق عن الوطن من أصعب الآلام ومن أشدّها. فمن لا يبكي لفراق الوطن؟ ومن لا يشتاق لأرض وطنه؟ فلو لم يكن الوطن غاليًا لهذه الدرجة لما سُمّي بـ"الوطن الأم". فالوطن هو تمامًا كالأم الحنون التي تحتضن أطفالها وتمنحهم الشعور بالأمان والسكينة. ومهما سافر الإنسان ومهما دار من بلدانٍ حول العالم، فلن يجد أحنّ من حضن وطنه ولا أدفأ منه".
إذن، نحن نتفق تمامًا مع أن حب الوطن ما هو إلا "فطرة إنسانية". لذا، لا تزال الشعوب على اختلاف عقائدها وميولها وأجناسها متفقة على هذه الفضيلة، متجاوبة المشاعر مع هذه الفطرة.
