سلفني: أصابع يديك ليست واحدة
حتى هذه اللحظة، لا يزال أمر "السلف أو الدين" من المواضيع الشائكة والمقلقة. فالواقع يقول التالي: "إذا قبلت تسليف الغير فقد يخاصمك المدين إذا طالبت يوماً بحقك"، ولكن "إذا رفضت أن تسلفه فإنه سيخاصمك على امتناعك عن إعطائه ما يريد". وفي كلا الحالتين، أنت واقع في الخصام!
للأسف، الغالبية العظمى من المتسلفين لا يؤدون ما عليهم من حقوق، وربما يقطعون صلتهم نهائيًا بمن وقف إلى جانبهم. لذا، لا تستغرب إذا اكتشفت أن قائمة المتسلفين طويلة، والمحزن في الأمر أن البعض منهم يرى أن هذه السلفة مجرد مساعدة غير قابلة للمناقشة أو الاسترداد!
قد تضحك من هذا التفسير، لكنه للأسف أصبح حقيقة واضحة الملامح. يقول لي أحد الأصدقاء: "إذا اتصل بي شخص أو أرسل لي رسالة يخبرني أنه يريدني في موضوع مهم، فغالب الظن أنه يريد سلفة مالية. وعليه، لابد أن أبدأ في تجهيز الرد المناسب!"
لن نتكلم عن الجانب الديني والحقوق المترتبة على ضياع الحقوق من أصحابها، فالعلاقة بين "الدائن والمدين" من الناحية الشرعية لها أهمية كبيرة وأحكام كثيرة. لكننا سنأخذ بالاعتبار الجانب الإنساني الذي يدعونا دائمًا إلى الوقوف إلى جانب الآخرين ومساندتهم في المحن التي يتعرضون لها وفك الكرب التي يمرون بها.
ولكن طالما تحدثنا عن الجانب الإنساني، فإن الواجب يحتم على من ساعدناهم أن لا يغدروا بنا، وأن يقوموا برد ما عليهم من ديون واستحقاقات مادية. فما ذنب الشخص الذي وثق فيك ومنحك شيئًا من ماله، وربما حرم نفسه وأولاده حتى يكون لك الأفضلية في العطاء؟ والأدهى والأمر أن يكون الشخص قد تصرف من تلقاء نفسه من أجل أن يوفر لك المال، سواء من أقاربه أو أصدقائه ليقدمه لك، على أن تعيده له في الوقت المحدد بينكما.
إن قضية السلف من الآخرين، وما نسمعه أو نراه أو نقع فيه، هي أمور لا يمكن للعقل أن يتقبلها. فهناك من الناس من أدمَن السلف من الآخرين ولا يؤدي ما عليه من أموال، بل يدعي دائمًا العوز والحاجة ويتهرب من إعطاء كل ذي حق حقه. ويظن أنه سوف يفلت من عقاب الدنيا، ولا يعلم أن هناك عقابًا آخر ينتظره عند رب الأرض والسماء.
كم من الناس من ذهبت أموالهم سدى، وكم من أشخاص يقبعون الآن داخل القضبان لأنهم أخذوا أموالًا بدون وجه حق، ولم يقوموا بردها لأصحابها، رغم أنهم كانوا في وقت من الأوقات قادرين على ردها ولو على مراحل زمنية أو دفعات مالية. لكن البعض يرد الأموال إلى الأشخاص الذين يطالبون بها "ليل نهار" ويسببون لهم القلق، أما الذين ينتظرون دورهم أو يخجلون من المطالبة بحقوقهم فمصيرهم النسيان إلى الأبد.
عندما تقع في شرك الخديعة، تقسم أغلظ الإيمان بأنك لن تكرر هذه التجربة. لكن مع أول حالة استنجاد بك، لا تتأخر. فالشخص الذي يريد تسليفك، ويشرح لك ما ألمَّ به من خذلان قديم، يخبرك بأن أصابع يدك ليست واحدة، وأن الناس ليسوا جميعًا بهذا السوء. ويطمئنك بأن أموالك في أيدٍ أمينة، وما أن يأخذ ما يريد، لن تسمع صوته مرة أخرى. وهذه ليست قاعدة عند الجميع، لكنها ظاهرة أدمَن عليها الكثير من الناس وأصبحت عادة عند البعض.
أحيانًا تسأل نفسك: لماذا لا يؤدي الناس ما عليهم من حقوق تجاه الغير؟ الغريب في الأمر أن بعض المتسلفين لا يؤدي ما عليه، وإنما قد يأتي ليطلب المزيد!
من الناحية الدينية، هناك إثم عظيم على الأشخاص الذين لا يؤدون ما عليهم من التزامات تجاه الغير. فتبقى تلك الأموال في أعناقهم إلى يوم الدين. وقد جاء القرآن الكريم بالكثير من الآيات البينات حول ذلك، كما أن السنة النبوية الشريفة تعرضت لهذه المسألة وفسَّرت كافة جوانبها.
