دماثة الخلق في المعاملات الإنسانية
الله سبحانه وتعالى يؤتي بعض الناس العديد من المناقب دونًا عن غيرهم، وهذه التفرقة ما بين "المنح والمنع" لها حكمة عظيمة لدى المولى سبحانه، وهذا ما يميز الشخص عن الآخرين، ومن لطائف الأمور وأحسنها أن الله تعالى قد يمنّ على البعض بأشياء "تجعلهم في اختبار صعب".
فالبعض يعطيه الله تعالى "القوة والمال والجاه والمكانة الاجتماعية وغيرها"، وذلك ليختبرهم في كيفية تعاملهم مع هذه النعم وطرق توجيهها بما يرضاه الله تعالى، فكم من شخص مدرك لما منحه الله، فيراعي الحقوق والواجبات، وهناك شخص آخر "جاحد لنعمه سبحانه" معتقدًا أن ما بين يديه هو من صنعه فقط!.
في اعتقادي أن الأخلاق العالية والتربية الإسلامية الصحيحة تعين الإنسان على اتباع نهج قويم وسلوك حميد تجاه الآخرين، فعندما يتخلص الإنسان من روح الأنانية وأمراض النفس كالحقد والحسد والبغضاء والعداوات، يصبح شخصًا محبوبًا لدى الناس، وهذا يفسر لنا الحكمة من وصف بعض الناس لشخص ما بأنه "قمة في دماثة الخلق، وطيب المعشر، وكريم النفس، والمتواضع للصغير والكبير"، فما أجمله من إنسان!.
هذا الإطراء على الآخرين لا يأتي من نطاق المدح المصطنع بقدر ما هو لسان حال الواقع الذي ينبض بالمصداقية والعدل والتميز بين شخص وآخر، فعندما تزكي إنسانا رفيعا فإنك لا تمدحه أمام الغير طلبا لرضاه، بقدر ما تتحدث عما تراه وتحس به من اختلاف عن الآخرين.
يقول جبران خليل جبران: "دمثُ الخلق، ثاقبُ الفكر، مسمَاح.. زكيٌّ يأبى له النبلُ نِدًّا".
الأخلاق العالية والتواضع السمح شهادة لا تُعلّق في المجالس والمكاتب، وإنما تُكتب لتظل حاضرة محفورة في الضمير الإنساني، فكم من شخص عرفناه بطيبته ونقاء سريرته، رغم أنه شخص عادي جدًا لا يملك من متاع الدنيا الكثير، وشخص آخر آتاه الله المال والجاه والقوة، وسلك طريق الأول، فأصبح محبوبًا لدى الناس بفضل عطائه ومواقفه النبيلة.
وبالمقابل، هناك أشخاص بسطاء، لكن الشيطان منحهم سعة الخيال الواسع فتصوروا أنهم فوق الجميع، ويتساوون مع أشخاص آخرين آتاهم الله الكثير من الخير، لكنهم لا يرحمون الصغير، ولا يوقرون الكبير، ولا يسعون لإسعاد الآخرين من حولهم إذ تغلب عليهم الأنانية.
الصنف الأول يقرب الناس إليه، ويلحقهم الدعاء الصالح أن يجزيهم الله خير الجزاء في الدنيا والآخرة نظير عملهم الطيب، أما الصنف الثاني فينفر الجميع من حولهم، ولا يتمنون مقابلتهم أو الجلوس إليهم، فيغضب الله عليهم، فهم لا يتدبرون القول: "إذا دعتك قدرتك على ظلم الناس، فتذكر قدرة الله عليك".
ما بين الصنفين من الناس، يستطيع الفرد منا التمييز بينهما، فنتمنى لقاء الأول، ونكره أن نرى الثاني.
فالله سبحانه وتعالى يزرع محبة الناس في قلوبنا نظير أعمالهم الطيبة، ولذا نستطيع أن نفرق بين "الصالح والطالح"، وبين المتواضع والمتكبر.
يقول ابن الرومي:
"وصفحٌ وإكرامٌ وعفوٌ يزينهُ ** خلائقُ لا يُخزى بهنَّ دمائثُ".
وهنا نستذكر قول الشاعر الكبير أحمد شوقي الذي حفظناه عن ظهر قلب عندما قال:
"إنما الأممُ الأخلاقُ ما بقيتْ ** فإن همُ ذهبتْ أخلاقُهم ذهبوا".
في هذا البيت الشعري يرى شوقي أن أساس قيام الدول وقوتها ونهضتها تكمن في أخلاق شعوبها، فإذا فسدت أخلاق الشعب تلاشت مع الزمن، من منطلق أن الأخلاق هي عماد بناء أي مجتمع وتقدم أفراده.
التواضع ودماثة الخلق في التعامل مع الناس وجهٌ مشرق يطل به الإنسان على أخيه الإنسان، فمهما بلغ الفرد منا من منزلة العلم أو الثراء أو المكانة الاجتماعية، فإن التواضع هو الجسر الذي يلتقي عليه مع الآخرين، "فمن تواضع لله تعالى رفعه"، فهذا السمو والعلو لا يأتي من جانبٍ محدد، بل هو مجدٌ يصل إليه الإنسان عندما يكون ذا صفاتٍ أخلاقيةٍ عالية.
وللأسف الشديد، فإن ما نراه من تصرفات شاذة تخرج من بين الناس يجعلنا نحزن كثيرًا لأمرهم، فهم يعتقدون أن الدنيا بها أمان واطمئنان لهم، ولكن الدنيا تدور على الجميع، فلا الغني يبقى، ولا الفقير يخلد، والكل يذهب من على ظهر الدنيا محملًا بما قدمه من أعمال، سواء كانت في ميزان الخير أو الشر.
ومن المتعارف عليه أن الإنسان يرتقي في مدارج السمو الذاتي والأخلاقي كلما حرص على تنقية نفسه من شوائب الأنانية، وعمل على تطهير ذاته من الصفات الدنيئة، ولذا فهو يبتعد عن سفاسف الأمور وضحالة الفكر، بحيث يحفظ نفسه من النزول في مستنقعات "الكذب، والخبث، والطمع، والبخل، والحسد"، وغيرها من الأمور التي تصده عن الطريق الصحيح.
ونحن على دراية تامة بأنه كلما سعى الإنسان إلى تهذيب نفسه وصقلها بالطاعات والامتثال لمحاسن الأخلاق ومكارم الصفات، كلما نال محبة الله والناس معًا، فالأخلاق العالية هي من ترفع البنيان، وتسد أبواب الخطيئة.
