No Image
بريد القراء

خلجات الروح وطغيان الألم

28 نوفمبر 2025
28 نوفمبر 2025

أوجاع الإنسان على الأرض ممتدة منذ الولادة وحتى الموت، فالألم النفسي هو القاسم المشترك بين الأحياء، لا وجع ينتهي ولا فرح يدوم، هكذا هي الدنيا؛ يومٌ لك ويومٌ عليك. عند الفقد هناك شيء ما في القلب ينكسر لا يصلحه شيء، لكنه أحيانًا لا يُقال في هيئة كلمات، بل هو زلزال يحرك كل شيء على الأرض.

في أوقات اليوم تفتقد الأصوات التي تحبها، تبحث عنها لكن لا تجدها حاضرة في عالمك الآن، فكل من كان هنا قد رحل، ولن يبقى لك سوى ضجيج ذكراهم وبعض ما تركوه في ذاتك، عندها تتمنى لو أن الزمن يعود بهم ثانية إلى الوراء، لكن محال أن تسمع صوت من ذهبوا إلى خالقهم دون سابق إنذار أو وداع لفراق أبدي.

الإنسان يعرف الموت من أشياء عديدة، فغسان كنفاني يقول: "قد لا يكون الموت بتوقف النبض فقط.. فالانتظار موت، والملل موت، واليأس موت، وانتظار مستقبل مجهول موت". أما الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد فيقول في قصيدة تحمل اسم "لا تطرق الباب":

لا تسألِ الدارَ عمّن كان يسكنها

البابُ يخبرُ أن القومَ قد رحلوا

يا طارقَ البابِ رفقًا حين تطرُقه

فإنهُ لم يعُد في الدارِ أصحابُ

تفرّقوا في دروبِ الأرضِ وانتثروا

كأنهُ لم يكنْ أنسٌ وأحبابُ

ارحمْ يديك فما في الدارِ من أحدٍ

لا ترجُ رَدًّا فأهلُ الودِ قد رحلوا

ولترحمِ الدارَ لا توقظْ مواجعَها

للدورِ روحٌ... كما للناسِ أرواحُ

أوجاع القلوب كثيرة، لكن وجع الفقد أكثر الأوجاع إيلامًا وعذابًا للروح والجسد، لذا كان الفقد اختبارًا حقيقيًا لمعنى الصمود النفسي، وأضحى أصعب الاختبارات التي يجتازها الإنسان على وجه الأرض. تذكّر أيها الإنسان أن "الغياب، الفقد، الموت" هي ثلاثية العذاب في قلوب الأحياء، فبموت الأحبة لا نفتقدهم فقط، بل نموت على وقع ذكراهم ملايين المرات، فالحياة من بعدهم لن تكون كما كانت بوجودهم معنا حتى وإن اختلفنا معهم ذات يوم.

الوداع... مشهدٌ صعب تخيله، وأنفاس مشحونة بالألم والمرض والبؤس والشقاء، جميعها تسير بنا دون هدى في طرقات الوداع الأخير. عندما تُجبر على السير بخطى متثاقلة نحو المقابر لتدفن شخصًا كان شيئًا غير عادي في حياتك، شخصًا لن تراه بعد عودتك من وداعه الأخير... تأكد أنه بمجرد عودتك من دفنه ستبدأ قاسيةٌ من رحلة العذاب، سحائبها الحبلى بالوجع سوف تتشكل في سماء حياتك، أما الألم النفسي فهو الحصار الذي لن ينفكّ معقله، بل سيظل جاثومًا مخيفًا يطبق على أنفاسك كل ليلة، حتى وإن سقيته بدموعك عندما تتذكر ما قد مضى.

الأموات لا يعودون إلى الحياة مرة أخرى، هكذا هي سنة الحياة على أرض الله. من غرائب الأقدار والأفكار أننا نتعجّل مرور الزمن، لكن نكتشف لاحقًا بأنه كان ذا قيمة وجمال لم ندركهما إلا بعد أن مضى بمن كنا نعيش على أنفاسهم معنا.

أعجبتني مقولة قرأتها بالأمس، يقول كاتبها: "أصبحت أفهم جيدًا لماذا يجلس البعض لساعات طويلة في أطراف المقاهي بمفردهم... هل هو عزلة من الواقع أم أنه نوع من الاستشفاء من الهموم؟ صمت يشبه ضمادة تُوضع على روح أنهكها الضجيج".

وأردف الكاتب شيئًا آخر بقوله: "في علم النفس، العزلة الهادئة ليست هروبًا كما يظن البعض، بل وسيلة طبيعية لاستعادة التوازن العصبي وتنظيم العواطف. إنها لحظة يعود فيها الإنسان إلى ذاته ليسمع صوته الداخلي بوضوح بعد طول ضوضاء".