بريد القراء

الوطن في عيون أبنائه

20 نوفمبر 2025
شريفة بنت راشد السيابية
20 نوفمبر 2025

علاقة الإنسان بالوطن، علاقة حب متأصلة منذ لحظة الوعي بأن الحياة لا تزهو إلا بوجود وطن نعيش فيه ونتنفس من هواءه العليل، هذه العلاقة الأزلية تزهو ثمارها بمرور مراحل العمر «قربا وبعدا «عن هذا الرائع الذي لا ينفصل عن مجالات تفكيرنا بأهميته في حياتنا.

في الغربة يصبح الوطن أكثر حضورا من أي وقت مضى، فالإنسان وإن تباعدت خطواته عن أرض وطنه يظل متعلقا بحبال الحب التي لا تنقطع أبدا مهما اشتدت عقد الغربة، أو احلك الظلام في ليالي الوجد سواء كان في لأرض أوالأهل، فكلما اشتاق الإنسان إلى وطنه، كلما أفاض على حبه نكهة ملحمية جميلة، فكم من عاشق إلى وطنه تغنى بحبه طويلا، وشكا من لوعة الفراق، فكما قال حافظ إبراهيم «الوطن تميته الدموع.. وتحييه الدماء» وهي رمزية على أن الأوطان تظل واقفة على قدميها طالما أن أبناءها مستعدين للذود عنها بدمائهم وليس بدموعهم.

إن الأدب العربي والغربي يجتمعان معا في قالب «الملاحم الشعرية والمؤلفات الأدبية والروايات الطويلة» التي تؤكد على أن حب الوطن شيءٌ لا يمكن أن يوضع في خانة معين أو زاوية بعيدة عن الإحساس، بل أفق الوطن يظل مجالًا مفتوحًا يستطيع الإنسان مهما كانت مكانته في المجتمع أن يبوح بكل ما يحمله في جسده من مشاعر جياشة تقربه إلى النافذة التي رأى العالم من خلالها، أما عقله فيظل مشغولا بالوطن وبهمومه وأوجاعه.

منذ أن كنا صغارا، كان الشعر رفيقا لنا في أول بدايات المدرسة، من كلمات الشاعر الكبير إيليا أبو ماضي عرفنا أن الوطن ليس في الأرض فقط ولكن في السماء أيضا، فهو القائل في قصيدته: «وطن النجوم أنا هنا»، من بين ما قاله هذا الرائع:

أَنا ذَلِكَ الوَلَدُ الَّذي

دُنياهُ كانَت هَهُنا

أَنا مِن مِياهِكَ قَطرَةٌ

فاضَت جَدولَ مِن سَنا

أَنا مِن تُرابِكَ ذَرَّةٌ

ماجَت مَواكِبَ مِن مُنى

أَنا مِن طُيورِكَ بُلبُلٌ

غَنّى بِمَجدِكَ فَاغتَنى

حَمَلَ الطَلاقَةَ وَالبَشاشَةَ

مِن رُبوعِكَ لِلدُنى

كَم عانَقَت روحي رُباكَ

وَصَفَّقَت في المُنحَنى

لِلآرزِ يَهزَءُ بِالرِياحِ

وَبِالدُهورِ وَبِالفَنا

قصيدة طويلة، فيها من المحسنات اللفظية والتشبيهات الرمزية ما يجعلك تستلذ بقراءتها عشرات المرات وربما تحفظها عن ظهر قلب، صدق المشاعر هي من تقربنا من الآخرين وهي من تخبرنا بأنهم رائعون ليس في القول فقط وإنما في المعنى والجوهر.

وهناك شيء آخر، حديث الأديب والصحفي غسان كنفاني نتوقف في إحدى رسائله حيث يقول: «سأظل أناضل لاسترجاع الوطن لأنه حقي وماضيّ ومستقبلي الوحيد.. لأن لي فيه شجرة وغيمة وظل وشمس تتوقد وغيوم تمطر الخصب وجذور تستعصي على القلع».

وعلى امتداد التاريخ، ظل الوطن حاضرا في وجدان البشر، وزاهيا في عيون أبنائه فهو الشيء الذي يتعلق بجوانب الدين فمن الناس من يرى بأن «حب الوطن هو من الإيمان»، ربما لأهميته في حياة الإنسان، فالإنسان ينتمي إلى وطنه وهذا يدفعه إلى الفداء والتضحية والإخلاص والتفاني في الذود عن حياضه تماما كما قرأت ما قاله إسماعيل أكبري «وطن لا تحميه لا تستحق العيش فيه».

في المرحلة الابتدائية، كانت معلمة اللغة العربية تطلب منا كتابة موضوع تعبير عن حب الوطن، كنا نستخدم مفردات وجمل بسيطة، لكن كل كلمة عبارة عن «بحر من المشاعر الصادقة»، فالوطن لم يكن مجرد بيت أو أسرة أو علم يرفرف في أيدينا أيام المناسبات، بل كان هو الحياة بكل ما فيها من أدوات وملامح لا تنفض عن أرواحنا المغرمة بحبه، كبرنا وكبر هذا الحب لعمان الوطن والحياة.