أيام في جريدة عمان امتدت إلى ثلاثين عاما
لا أذكر اليوم الذي نشرت بجريدة عُمان أولى محاولاتي في الكتابة، والتي كانت بين الخواطر والبوح المنثور، ولكن كان نشر ما أكتب يضفي في نفسي بهجة، وكانت «بريد القراء» الحاضنة الأولى لما أكتب، وفيها نشرت أول بوحي النثري، وكان بعنوان «ليل الأديب»، حاولت فيه وصف ليل الأديب بقلم الخيال.
وفي أحد الأيام من عام 1987م، ذهبت إلى مسقط، ومعي خاطرة شعرية، وقررت أن أزور الجريدة في مقرها بمدينة روي، كنت أعرف زميلًا يعمل فيها، وحين وصلتها وبلغته، أخذني إلى المحرر الثقافي، وعرَّفني عليه، وكان الأستاذ الأديب والصحافي سعيد بن سالم النعماني، مشرفًا على الصفحات الثقافية بجريدة عُمان، بعد انتقال الصحافي محمد بن علي الصُّليبي (ت: أغسطس 2007م)، إلى «وزارة التراث القومي والثقافة»، مديرًا للمنتدى الأدبي.
وتكررت زيارتي للجريدة بعد ذلك، وتعرَّفت على بعض المحررين، والمسؤولين عن أقسام التحرير، من بينهم الأستاذ: حمود بن سالم السيابي، الذي كان حينها مديرًا للتحرير، والأستاذ محمد بن خلفان اليحيائي، وقد بدأ في العمل محررًا ثقافيًا بالجريدة، حتى بلغ رئيسًا للقسم الثقافي، والأستاذ مسعود بن محمد الحمداني، الذي كان مشرفًا على بعض الصفحات الثقافية، كصفحة بريد القراء، وصفحة خاصة بالإذاعة والتلفزيون، إلى جانب تعرُّفي على أغلب أسرة التحرير في الجريدة.
وأكرمني الأستاذ سعيد النعماني بحوار أجراه معي، نشره في الصفحات الثقافية، حمل عنوان: «شاعر من عُمْق الداخل يحلم بديوانه الأول»، كنت أحلم بديوان يحمل بوحي، ولعل ذلك الحوار حملني إلى رحاب الشعر، وغرس في داخلي حب الأدب، ومواصلة كتابة المحاولات التي لم تنته حتى اللحظة، فما زلت أحاول، أو بالأحرى ما تزال مقالاتي ونصوصي الشعرية، في طور المحاولة التي لم تنضج بعد ولم تتحقق.
في تلك الأيام، كنت أبحث عن وظيفة، وكان بعض الأصدقاء في أسرة تحرير جريدة عُمان، دفعوني بمحبة منهم إلى وظيفة «مساعد محرر»، فبدأت في العمل الصحفي متدرِّبًا في صالة تحرير الجريدة، في اليوم الأول من شهر أبريل عام 1988م، كانت بهجتي لا توصف، فأنا في أروقة الجريدة التي أُحِب.
اليوم الأول لي في الجريدة، كان أشبه بأولى الخيوط التي ربطتني بالعمل الدائم فيها، فهل أصلح لوظيفة مساعد محرر؟، لم تكن الإجابة على هذا السؤال بتلك السهولة، كانت بالنسبة لي أملا يبرق في مخيلتي، يصلني بأيام قادمة مع الصحافة، وحياة مديدة مع الصحيفة.
ولم أكن قد درست الإعلام، فأنا لا أحمل من المؤهلات سوى الثانوية العامة، وليس لدي خبرات في العمل الصحفي، وكنت أرى أن العمل الصحفي هو أن يكون المحرر كاتبًا، وأن يجرِّب الكتابة، فإلى جانب كتابة الخبر، هناك فنون أخرى مثل: المقال، والتحقيق، والاستطلاع، والحوار، وشيئًا فشيئًا بدأت أتعرَّف على هذه الفنون، وبمرور الأيام، بدأت قدماي تسلك نحو الجريدة، دخولًا إليها في بداية اليوم، وخروجًا منها في وقت متأخر من المساء أحيانًا، كانت عقارب الساعات تأكل الوقت، وتطوي الزمن، فلا نشعر بملل، ويمضي اليوم الوظيفي في الصحيفة، وكأنه لمحة أو طرفة عين، وقد أنجز فيه كتابة خبر، أو استطلاعًا، أو أفرغت حوارًا مسجلا، أو قدمت صفحة للنشر.
ومع أن أغلب المحررين يمرُّون على قسم المحليات، وهو المَعنيُّ بمتابعة الأخبار المحلية، وكتابة التحقيقات المحلية، وتغطية الفعاليات التي تنظمها المؤسسات الوزارية، وتغطية الندوات وافتتاح المشاريع، إلا أنَّ بداياتي كانت مع القسم الثقافي، ووجدت العمل فيه قريبًا من ذاتي.
لقد كانت تلك الأيام موصولة بأيام قادمة لي في العمل الصحفي بجريدة عُمَان، امتدت إلى ثلاثين عاما، فقد تركت العمل الصحفي في عام 2020م مع بدايات العهد الجديد، وخلال العقود الثلاثة السابقة، خبرت فيها العمل الصحفي، واستقبلت زملاء جددا، دخلوا العمل الصحفي متدربين، وودعت آخرين، تركوا العمل الصحفي، أو عادوا إلى بلدانهم البعيدة، بعد سنوات قضوها في العمل بالجريدة، كانوا أشبه بالمشاعل، أذكر من بينهم، الأساتذة من مصر: عصام حشيش الذي استفدت من تجربته في كتابة الاستطلاعات عن المدن العمانية، ومحمد الهواري، وفتحي سند، وعبدالله حسن، وحسين عبدالغني، ود.عبدالحميد الموافي، والمخرج الفنان محيي الدين عبدالغفار، أمَدَّ الله في أعمارهم، والصَّحفي رضا محمود (ت: سبتمبر 2015م)، والصحفي عبدالقادر محمد علي (توفي في فبراير 2022م)، رحمهما الله، ومن السودان الصحفي يوسف عمر، وغيرهم، وكل هؤلاء عادوا إلى أوطانهم، بعد أن أسسوا الجريدة، وتركوا بصمتهم التي لا تنسى، تلك البصمة الصحفية الجميلة، وكانوا لنا أساتذة، معترفين بجميلهم وتعليمهم وفضلهم الكبير.
أما من العمانيين فقد زاملت صحفيين لهم تجربتهم الصحفية أيضًا، مثل الأساتذة: سالم بن رشيد الناعبي، وعبدالله بن شامريد البلوشي، عمل مديرًا للتحرير، وعوض باقوير، وعوض زعبنوت، وطالب بن هلال المعمري محررًا ثقافيًا، انتقل محررًا لمجلة نزوى الثقافية، وحيدر عبدالرضا، ومحمد بن سيف الرحبي منفذًا ومخرجًا ومحررًا ثقافيًا ومديرًا لتحرير جريدة عُمان في سنوات مختلفة من عمله في الجريدة، وأحمد بن سالم الفلاحي مخرجًا وصحفيًا ورئيسًا للقسم الثقافي، وعلي بن عبدالله الحارثي محررًا ثقافيًا، والمرحوم الشاعر علي بن سهيل حاردان محررًا ثقافيًا (ت: مايو 2008م)، وعلي بن سالم الراشدي مُحررًا اقتصاديًا، وعلي بن راشد المطاعني محررًا اقتصاديًا، والمرحوم سيف بن ناصر الخروصي (ت: يونيو 2020م)، محررًا ورئيسًا للقسم الديني، وغيرهم، ومن الزميلات الصحفيات: فاطمة بنت غلام الزدجالية، محررة ورئيسة لقسم المرأة والطفل، وعزيزة بنت سليم الحبسية، ونضال بنت عباس، ووردة بنت حسن، وغيرهن.
لقد مرت الجريدة بمراحل مختلفة خلال نصف القرن الماضي من عمرها، حتى بلغت شكلها الإخراجي الذي عليه اليوم، وها هي اليوم في عمر الخمسين، وما زلت كعهدي بها في أول لقاء، أتصفح الجريدة فأقرأ لنخبة من المحررين والكتَّاب، يلونون صفحاتها بإبداعاتهم الأدبية والفكرية، ولوحات فنية ضوئية، لمصورين محترفين، وحين نحتفل بيوبيلها الذهبي، إنما لنعيش خدعة الحياة أننا كبرنا، فأنا أيضًا أزحف في عمر الخمسين، وكانت الجريدة قريبة من عمري، ورغم أن التقاعد فصلني عنها، وانتزعني من العمل في تحريرها، إلا أن صفحاتها تبقى أجمل ورقات الحياة، والعمل فيها خلال ثلاثين عامًا، من أجمل سنوات العمر.
محمد بن سليمان الحضرمي صحفي ثقافي عمل لثلاثين عاما في جريدة عمان
