Untitled-1
Untitled-1
المنوعات

مرفأ قراءة.. «قصص الأنبياء».. واحة الضمير الإنساني

16 نوفمبر 2019
16 نوفمبر 2019

-1- أثار صدور طبعة جديدة من كتاب المرحوم أحمد بهجت «أنبياء الله» (الطبعة 39 عن دار الشروق المصرية) ذكريات دفينة في قلبي عن قراءاتي الأولى؛ عن تلك اللحظات التي كنا نُعاين فيها سحر التعرف، ولذة الاكتشاف، والانتقال إلى دنيا غير الدنيا.

أول ما قرأتُ في حياتي، وطالعته عيوني من أسطر وأحرف مرقومة كان طبعة ملونة من قصص الأنبياء للأطفال (لا أذكر عنها شيئا سوى صور وتهاويم ضبابية) لكنني أذكر جيدًا، وكنتُ في الصف الثالث الابتدائي أنني قرأت المجموعة الرائعة التي ألفها عبد الحميد جودة السحار بعنوان «القصص الديني» في أربع حلقات، تتكون كل حلقة من أجزاء متصلة؛ الأولى «قصص الأنبياء» (في 21 جزءًا)، «السيرة النبوية» (24 جزءًا)، «قصص الخلفاء الراشدون» (20 جزءًا)، وأخيرا «العرب في أوروبا».

وأزعم أن هذه القصص المبسطة التي لم تكن الواحدة منها تزيد على عشرين صفحة من القطع الأكبر من الصغير، وحروفها مكبّرة ومشكولة، كانت هي نقطة البدء والانطلاق لقراءاتٍ أوسع وأكبر وأكثر عمقًا وتخصصًا ودقة في الثقافة الإسلامية، والتاريخ والحضارة. استلهم السحار القصص القرآني في إنشاء هذه المجموعة، وكتب في مقدمته لها يوضح ذلك «وفي القرآن الكريم قصص رائع جميل، فلم لا يأخذ مكانه في مكتبة الطفل؟ ولم لا تنتفع هذه المكتبة بهذا التراث الجميل؟».

وبحسب ما يوضح السحار في مقدمته الوجيزة لحلقات السلسلة كلها، فإنه راعى عند كتابتها اعتبارين: الأول أن تكون النصوص القرآنية هي المصدر الأول لما يكتب، والثاني، أن يحقق السرد الفني للقصص الذي يربي في الطفل الشعور الديني، ويقوي الحاسة الفنية، وينمي الذوق الأدبي. وأظنه نجح تماما فيما قصد إليه.

والله إن هذه السلسلة، لكانت ذات أيادٍ بيضاء ليس علي فقط، إنما على جيلي كله.

-2- من بين كل ما قرأت في الخمسة عشر عامًا الأولى من كتبٍ دينية (وجلّ ما قرأت آنذاك كان كتبًا دينية بحكم الاتجاه السائد آنذاك في الثقافة المصرية، خلال ثمانينيات القرن الماضي، وهي حقبةُ لم يكتب عنها بعدُ ما تستحقه من تأريخ وتحليل ودرس، ليس فقط في مصر إنما في العالم العربي كله، فيما أظن) استوقفني ثلاثة كتب لا أنساها أبدًا؛ هي «قصص القرآن» من تأليف أربعة أعلام (محمد أحمد جاد المولى، علي البجاوي، محمد أبو الفضل إبراهيم، السيد شحاتة)، والثاني كتاب المرحوم الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر «في رحاب الأنبياء والرسل» (تغير اسمه في طبعات تالية إلى «مع الأنبياء والرسل»)، وأذكر أن الطبعة التي قرأتها كانت صادرة ضمن سلسلة كتاب اليوم وصمم لها الغلاف الفنان الكبير حسين بيكار، والثالث كتاب المرحوم أحمد بهجت «أنبياء الله» بنسختيه للكبار والصغار. أما لماذا لا أنسى هذه الكتب الثلاثة؛ فللأسباب المتصلة الآتية:

أولا: حالة الاستغراق التامة التي كانت تغمرني أثناء قراءتي لهذه الكتب الثلاثة دون استثناء؛ فكلها ممتع وكلها شائق وكلها جاذب للدرجة التي تجعل صبيًا في العاشرة أو الحادية عشرة من عمره، يتفرغ بالكلية لقراءة كتاب يحكي قصص الأنبياء منذ آدم عليه السلام، وحتى ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم.

ثانيا: الإحساس المبهم الغامض لا بجمال الحكايات والقصص فقط؛ إنما أيضًا بجمال سردها وطريقة حكيها، والإيحاءات الروحانية التي تمس القلب والروح في كل قصة، وكانت هذه البذرة، ربما دون أن أشعر، التي غُرست في روحي وعقلي كي أبحث بعد ذلك عن السؤال عن مصدر هذا الجمال وسبب هذا الإحساس.. لنخوض طريقًا طويلًا لا ينتهي إلا بانتهاء رحلة حياة المرء على هذه الأرض.

ثالثًا: ترسخ في وجداني حب «قصص الأنبياء» والسعي إلى مداومة قراءتها والاطلاع على نسخٍ متعددة منها؛ لدرجة أنني ولعت ولعًا شديدا بجمع كل ما كُتب على غلافه (قصص الأنبياء)، غير مدرك آنذاك، أنها تكاد تكون نسخًا منقولة؛ نصًا وحرفًا، دون أي فروقات تذكر، عن كتب التفاسير والتواريخ والتراجم والسير والطبقات والمغازي والملاحم.. إلخ، ولم يشذ عن ذلك إلا أقل القليل.

وجدتني مهووسًا بجمع الطبعات والنسخ المختلفة من كتب قصص الأنبياء؛ وأصنفها بين قديم وحديث، مجاميع قصص الأنبياء المستخرجة من بطون كتب التاريخ الإسلامي العام (تاريخ الطبري، الكامل في التاريخ لابن الأثير المؤرخ، مروج الذهب ومعادن الجوهر للمسعودي، والبداية والنهاية لابن كثير، سير طبقات النبلاء للذهبي.. إلخ)

أو المجاميع التي خُصِّصت بذاتها لقصص الأنبياء من الألف إلى الياء؛ فكان أقدمها «قصص الأنبياء المسمى بعرائس المجالس» للثعلبي، وكان أشهرها «قصص الأنبياء» لابن كثير الذي كتب له الذيوع والانتشار بصورةٍ ليس لها مثيل (ولهذا أسباب تتصل بالسياق السياسي والثقافي والاجتماعي في مصر والعالم العربي منذ ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي).

ثم وجدتني أتتبع أنماط التأليف الحديث في كتابة قصص الأنبياء لأجد أن من أهمها وأكثرها جدة في طريقة التأليف والمقارنة والتلخيص والعرض، كتاب المرحوم الشيخ عبد الوهاب النجار «قصص الأنبياء»، ثم تلت ذلك محاولات عديدة لم يُكتب لأي منها ذلك القبول والذيوع والانتشار الذي لاقاه كتاب «أنبياء الله» للمرحوم أحمد بهجت، وكان ذلك في أواخر السبعينيات من القرن الماضي.

-3- لماذا كتاب «أنبياء الله»، من بين عشراتِ الكتب التي ألِّفت في العقود الخمسة الأخيرة، حقَّق ما حقَّق من انتشار مذهل، وطبعاتٍ بالعشرات ونسخ بمئات الآلاف ما زالت تترى حتى اللحظة؟

أظن أننا لن نجاوز الحقيقة لو قلنا إنه لم يُكتبْ لكتاب معاصر عن (قصص الأنبياء) من الذيوع والشهرة والقبول مثل هذا الكتاب. لقد قدّم المرحوم أحمد بهجت عملًا تفتخر به المكتبة العربية (مع صنويه الجميلين المهمين؛ «قصص الحيوان في القرآن»، و«بحار الحب عند الصوفية»، ويستحق هذا الكتاب الأخير مقالًا منفردًا لجماله وفرادته)، خطَّه بحسه الصوفي بالغ الرهافة، وأسلوبه السلس الممتع، وقدرته الفذة على التحليل والتبسيط، ليحتل مكانه في قلوب القراء. لا يقدم بهجت تاريخ قصص الأنبياء بحيادٍ بارد، وإنما هو بُعث لثورات المسافرين دائمًا إلى الله، منذ آدم عليه السلام وصولًا إلى النبي الأكرم محمد (صلى الله عليه وسلم).

في تصديره للطبعة الجديدة من الكتاب، يقول الناشر «إنها الطبعة الـ39 من «أنبياء الله» الذي أبدعه أحمد بهجت بريشة الأديب، وعقل المثقف المحب، وقلب الإنسان المرهف في إنسانيته المنفتح في إيمانه»..

أما مؤلف الكتاب، رحمه الله، فيوضح في واحدةٍ من المقدمات العديدة للكتاب، كيف ظهر للمرة الأولى؛ لقد ظهر في طبعة مبسطة للأطفال (هي التي ستُنشر فيما بعد بذات العنوان لكن بعنوان فرعي للأطفال)، نُشر أولًا على امتداد ستة أشهر في مجلة «ميكي» الشهيرة للأطفال، ثم جُمع ونشر كما هو في كتابٍ قال في نهايته: «إن أحد أحلامي الكبيرة أن أكتب قصص الأنبيـاء للكبار، لو جعل الله في العمر بقية، وشاءت رحمته أن تمنح الإذن والعون».

ويضيف أن مادة «أنبياء الله» وصياغته ولغته، هي ثمرة لقراءةٍ بدأت في الإسلام والصوفية منذ سن الخامسة عشرة حتى سن الأربعين، يقول «وعلى الرغم من أنني أعمل في الصحافة في ميدان النقد والأدب، فإن هوى قديمًا للإسلام جعلني أنظر لكل ما كتبته مثلما ينظر المرء إلى سحابة مارة لا تلبث أن تتبدد. لا خلود لشيء على الأرض. الخلود لله وحده.. لكلمات الله وحدها.. توقفت قبل أن أكتب الكتاب عند سؤالين سألتهما لنفسي:

ما الجديد الذي تنوي تقديمه في الكتاب؟ وأي منهج سوف تتبع في كتابته؟»..

ولهذا حديث آخر...

إيهاب الملاح