السياسات الخارجية الأوروبية .. هل ما زالت أوروبا مهمة؟
واقع الحال بعد عملية الانفصال البريطاني -
تحرير: رونالد تيرسكي وجون فان اودينارن. عرض وتحليل : إميل أمين -
ينطوي هذا الكتاب على أسئلة ملحة عن مستقبل أوروبا، أوروبا يمكن أن تكون أكثر من مصدر تأثير كبير في النظام العالمي، إذن لماذا ليست كذلك؟
أوروبا ينبغي أن تتحمل المزيد من المسؤولية عن السلام والأمن العالميين، فلماذا لا تفعل؟ الأوروبيون يجب أن يفهموا أن مصلحتهم الخاصة تكمن في السعي نحو نفوذ عالمي أوسع والتزامات كونية أكثر قوة، فلماذا لا يفعلون؟
يهدف هذا الكتاب إلى تقديم الأرضية الجيوسياسية والتاريخية اللازمة لفهم تأثير أوروبا العالمي في القرن الحادي والعشرين، وهو مفيد لأساتذة التاريخ كمنهج مستقل لدراسة السياسة المقارنة الأوروبية، كما يمكن الاستعانة به، إلى جانب كتاب آخر أكثر شمولية «Europe Today»، كأساس لدورة دراسية من فصلين لمدة عام.
يلقى الكتاب نظرة فاحصة من منظور واسع، كما يضم فصولا عن الدول الأوروبية الأكثر نشاطا في مجال العلاقات الخارجية، وعن السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى فصول أكثر شمولا عن علاقات أوروبا بكل من الولايات المتحدة وروسيا والصين والشرق الأوسط، وفصلا عن أوروبا والعولمة.
تعيش دول وشعوب أوروبا اليوم في ظل نظام عالمي مختلف تمام الاختلاف عنه في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر عندما كانت القارة قلب القوة الجيوسياسية العالمية والعلاقات والاقتصادية الدولية؛ أما أحد أسباب التدهور فكان ذلك التدمير الذاتي الذي ألحقته القارة الغنية بنفسها في حروب القرن العشرين الدموية التي لم يسبق لها مثيل؛ أما السبب الثاني فكان ذلك الظهور المتزامن لقوى عظمى جديدة:
الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي أولا، ثم الصين لاحقا، ثم تزايد عدد الدول .. مثل الهند والبرازيل.
ماذا عن واقع حال أوروبا اليوم ؟
أوروبا اليوم من بعض الجوانب قوة إقليمية في النظام العالمي، ولكن إذا كان ذلك واقعا أساسا بالمعنى الجيواستراتيجي، فمن الصحيح كذلك أن الاتساع الجغرافي لأوروبا والثقل جيواستراتيجي في القارة الأورو-آسيوية قد تزايد مع الاتساع الكبير للاتحاد الأوروبي من ست دول في البداية (في 1958)، إلى سبع وعشرين دولة (في 2009). (روسيا، أهم الأجزاء التي بقيت من الاتحاد السوفييتي السابق، هي الأكثر تأثيرا باتساع الاتحاد الأوروبي)، وفى نظام اقتصادي ومالي معولم فإن منطقة الاتحاد الأوروبي ذات الإنتاج المحلي الكبير في العالم، والكثير من الأسواق المالية وأسواق العمل الأهم في العالم قد عادت، سواء أحبت ذلك أم لا، إلى نظام دولي تنافسي، أصبح للسعي إلى المصلحة الاقتصادية الذاتية فيه سياسة خارجية جديدة ومتضمنات جيواستراتيجية. لقد أصبحت الجوانب الجيوسياسية والجيواقتصادية متداخلة على نحو مستمر في صراع تنافسي أوسع على مستوى العالم، صحيح أن الحروب بين الدول أصبحت نادرة، ولكن الموازين التجارية وأسعار الصرف وـ حتى ـ المنافسة بين الشريكات أصبحت لها أهمية كبيرة في موازين القوه السياسية.
أما كيف سيكون تصرف الأوروبيين إزاء هذه المنافسات المتداخلة فليس واضحا بالمرة. البندول التاريخي لصعود وسقوط الإمبراطوريات والدول حقيقي، وفى الوقت نفسه فإن قدرة الدولة القديمة على التجدد وخلق هياكل سياسية جديدة أصبحت أقل، وأوروبا هي أهم حالة دراسية في هذا السياق. إن عمليه التكامل الأوروبي بالغة الأهمية من أجل تطوير الحياة السياسية العالمية، وذلك لأنها عملية طوعية ديمقراطية لاتحاد دول أدركت أنها ذات مصير مشترك. الاتحاد الأوروبي ليس إمبراطورية بل ينبغي أن يوصف باعتباره (شبه دولة a semistate)، أو دولا. من الأفضل اعتباره هجين فيدرالية/كونفدرالية من مجموعة دول ـ أمة (nation states)، صالحها القومي وسيادتها القومية هي المادة اللاصقة التي تمسك بالبناء ملتحما وهى القوة الدافعة في ذات الوقت.
هذا الغراء أو اللاصق الذي يجعل الاتحاد الأوروبي متماسكا ملتحما هو في الأساس اقتصادي ومالي: السوق الواحدة والنظام الاقتصادي والمالي. الجوانب الاقتصادية سهلة على الأقل مقارنة بالجوانب السياسية. المصلحة القومية في صنع السياسة الخارجية هي القوة الأكبر التي تعمل على تراجع التكامل جزئيا، ذلك لأنه من الصعب التوفيق بين المصالح القومية إلى حد ما، ولكن السياسة الخارجية في آخر الأمر مسألة طموح استراتيجي وإرادة سياسية تتصارع فيها الرغبة السيكولوجية في تحمل المسؤولية مع مزايا تجنب الجهد والتضحية على نحو مستمر.
أوروبا والنظام الجيوسياسي
تاريخيا كانت جغرافيا دولة هي نقطة البداية دائما في علاقاتها الدولية، فهي التي تصنع حدودها، وكثيرا من معضلاتها الاستراتيجية، وعناصر مصالحها القومية الضرورية لسيادتها الخارجية. وبالرغم من البساطة الخادعة التي تبدو على هذا المبدأ، فإنه يفسر الكثير من الشؤون الدولية في أوقات وأماكن كثيرة عبر القرون، يضاف إلى ذلك أن الجيوسياسية ـ Geopolitics هي أساس النظام الدولي من جوانب عدة.
لقد كانت الجغرافيا في أوروبا التاريخية أكثر من غيرها، فهي التي تحدد العلاقات الخارجية، فأية دولة تظهر على الخريطة كان عليها أن تتوقع حلفاءها وأعداءها وأصدقاءها بالإضافة إلى أشكال تجارتها وتبادلاتها الثقافية، وعليه يمكن أن تقول: إن الجغرافيا كانت دائما هي قضاء أوروبا وقدرها.
الإرث التاريخي جوهر الجيوسياسية الأوروبية
في ميزان القوى الأوروبي في القرن التاسع كان لكل دولة من الدول القوية مكان أو دور خاص يعتمد على الجغرافيا والقوة الاقتصادية، تستمد منه استراتيجية سياستها الخارجية القومية، فبريطانيا بموقعها في الجانب المقابل لفرنسا عبر القنال الانجليزي أصبحت هي القوة الموازنة البعيدة عن الشاطئ التي تلعب دور التحالف المتناوب مع أنظمة الحكم الكبيرة في القارة، لكي تحول دون قيام أي منها بتحقيق هيمنة جيوسياسية. بريطانيا، مثل القوى الأخرى في هذا التوازن السياسي الفاقد لحس المسؤولية الأخلاقية، ولم يكن لها أصدقاء أو أعداء دائمون، وإنما كانت هناك مصالحها القومية فحسب.
على مدى معظم القرن التاسع عشر رغم أن فرنسا كانت قوة في حالة اضمحلال بعد هزيمة نابليون في 1814م كانت تبدو كبيرة جدا بالنسبة لجارتها ألمانيا، إذ إن الأخيرة كانت ما تزال كيانات مبعثرة في مئات من المقاطعات أقواها بروسيا. مسترشدة بالعبقرية الاستراتيجية للمستشار «أوتو فون بسمارك Chancellor Otto von Bismarck» خلفت عبر حروب عدة الدولة الألمانية الحديثة في شكل الإمبراطورية الثانية في 1871.
بعد ذلك كان صعود القوة الألمانية يمثل خطرا دائما على جيرانها الجغرافيين وأولهم فرنسا. في حياة رجل واحد كتب الزعيم الفرنسي «شارل ديجول Charles de Gaulle» في مذكرات الحرب (War Memoirs ) أن فرنسا وألمانيا دخلتا الحرب ثلاث مرات ـ 1870 ـ 1940 وفي الشرق كان على النظرة الروسية الاستراتيجية أيضا أن يكون تركيزها على خطر النزعة التوسعية الألمانية. وهكذا، في الحرب الأولى تحالفت روسيا مع فرنسا وبريطانيا مع غرب ألمانيا، وبمجرد أن أدخل الرئيس وودرو ويلسون Woodrow Wilson البلاد في الصراع في 1917، كانت الولايات المتحدة وروسيا حلفاء كذلك -في الحرب العالمية الثانية- بالرغم من الثورة البلشفية وقدوم الشيوعية الستالينية انضم الاتحاد السوفييتي إلي بريطانيا والولايات المتحدة (وكذلك حركة المقاومة الفرنسية بقيادة ديجول) لكي يلحقوا الهزيمة بألمانيا، الرايخ الثالث ـ The third Reich هذه المرة.
كانت «المشكلة الألمانية دائما في القلب من الكوارث الأوروبية، وإلى جانب السياسات المتطرفة كانت الحدود أحد عناصرها المهمة. الألمان أنفسهم كانوا يتحدثون عن ألمانيا باعتبارها «دولة الوسط». إذا كان لها ـ وما زالت إلي اليوم ـ حدودا دولية أكثر من أي دولة أخرى. والحدود كما هو معروف تستدعي الصراع، وخاصة تلك التي لا تكون ناتجة عن خطوط تقسيم واضحة مثل البرانس ـ Pyrenees التي تفصل فرنسا عن أسبانيا، وضع بولندا الجيوسياسي، على نحو خاص، كان صعبا لأنها كانت محصورة بين ألمانيا توسعية لدرجة التعصب وروسيا توسعية كذلك. لم يكن غريبا أن يكون مصير بولندا كارثيا منذ تجزئتها ثلاث مرات (1772 و1793 و1795) حتى الحربين العالميتين في القرن العشرين.
بدءا من أول استخدام للطائرة المقاتلة في الحرب العالمية الأولي انطوت قرون عدة من الحروب الأوروبية «القارية والمحلية» في مدى عقود قليلة ببزوغ عهد جديد من العلاقات الدولية أو العالم الجيواستراتيجي المعاصر. العلاقات الدولية القائمة على أساس جيوسياسي مستمرة، ولكن الأنماط المعروفة من الحرب والسلام. والتجارة والمال، والإرهاب وتجارة المخدرات، أصبحت معولمة، وفي عالم الحسابات الاستراتيجية الكونية هذا ظهرت أنماط من القوة والضعف الاقتصادي واندمج العالم الجيواقتصادي مع السياسة الخارجية بالمعني التقليدي للمصطلح.
من جوانب عدة من الصعب الفصل بين العالمين الجوسياسي والجيواقتصادي، فالاقتصاد القومي القوي كان دائما أساس سياسة خارجية فعالة، أي أن الجيواقتصاد Geoeconomy ضرورة لنجاح أي دولة كبيرة نجاحا شاملا.
إبان الحرب الباردة التي تلت الحرب العالمية الثانية كانت المنافسة والخصومة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي هي ما يشكل خطوط الصدع الرئيسية في العلاقات الدولية. كلاهما كان قوة عظمى ذات نفوذ كوني.
خاضت الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية معارك بحرية وجوية متفرقة في أرجاء الكوكب ضد كل من اليابان وألمانيا النازية، وفي العقود التالية كانت متورطة ـ بمعنى الكلمة ـ في حروب مختلفة في أنحاء العالم من نصف الكرة الغربي إلي نصف الكرة الشرقي، ومن شمال الكون إلى جنوبه، الاتحاد السوفييتي، القوة العظمى نظريا، وصاحب القدرة على الوصول إلي أي مكان في الكون اعتمادا على الأسلحة النووية، كان في حقيقة الأمر قوة جيوسياسية تقليدية هائلة يدعمها اقتصاد تستر هشاشته قوة عسكرية ضخمة.
في أواخر أربعينات القرن الماضي صنع السوفييت امبراطورية ستالينية في أوروبا الشرقية المتاخمة، وكانت دول الكتلة السوفييتية تلك تشكل عازلا استراتيجيا بين الاتحاد السوفييتي وأوروبا الغربية، وعبر المحيط الأطلنطي اشتركت الولايات المتحدة وأوروبا الغربية في منظمة حلف شمال الأطلنطي الذي كان رادعا عسكريا وسياسيا، حتى في الوقت نفسه أوروبا الغربية من موسكو، مثلما يهدد الأخيرة ولو بشكل ضمني على الأقل. كانت أنظمة الكتلة السوفيتية بمثابة دول صديقة وجزء من كتلة شيوعية أوسع (كانت تضم آنذاك الصين وفيتنام وغيرهما)، وكان هدفها النهائي طبقا للأيديولوجية الشيوعية هو الثورة العالمية.
التكامل الأوروبي بعد الحرب والجيوسياسة الأوروآسيوية
تمثل عملية التكامل الأوروبي المستمرة منذ خمسين سنة إلى الآن إنجازا جيوسياسيا مهما، التوسع الجغرافي للاتحاد الأوروبي أعاد تشكيل الهيكل السياسي للقارة الأوروبية على نحو غير جيوسياسية القارة الأوروآسيوية الأوسع، عبر منطقة روسيا/ البحر الأسود/ القوقاز بالاتجاه نحو آسيا الوسطى.
بدأ التكامل الأوروبي الحقيقي بقيام ست دول بعقد معاهدة روما ـ في 1957 لإنشاء الجماعة الاقتصادية الأوروبية ـ هذه الدول الست (فرنسا وألمانيا وإيطاليا ودول الـBenelux الثلاث) كانت قد أنشأت قبل المجموعة الأوروبية للفحم والصلب ـ Steel community European coal and التي بدأت عملها في 1952 التوسعات المتوالية للـ EEC هي التي أدت في 1992 إلي الاتحاد الأوروبي ـ EU الذي نعرفه اليوم وذلك بعد توقيع الاتفاقية الخاصة بالاتحاد الأوروبي Treaty on European union المعروفة بـ (معاهدة ماسترخت Maastricht Treaty ) بعد سقوط الاتحاد السوفييتي استوعب الاتحاد الأوروبي دول الكتلة السوفييتية التي تحررت، موحدا بذلك القارة الأوروبية الجغرافية وكانت أوروبا تلك «كاملة وحرة» وصفها آنذاك الرئيس الأمريكي «جورج أتش دبليو بوش» George H.W. Bush.
كان تكامل الدول الأوروبية أمرا معقولا لأربعة أسباب، أولا: كان التعافي الاقتصادي والرخاء مطلبين ضروريين، مجموعة الفحم والصلب التي جاءت على إثر مشروع (مارشال Marchall Plan) دشنت ثلاثين سنة ـ دون توقف ـ من النمو الاقتصادي في أوروبا الغربية، ثانيا: ألمانيا الغربية الجديدة التي من البداية لم تكن تحظى بالثقة لأنها كانت (مع ألمانيا الشرقية) خليفة الرايخ الثالث قد رست أخيرا بثبات ضمن أوروبا الغربية الديمقراطية، وكان نظامها الديمقراطي الجديد ضمانا ضد القوى المتطرفة، ثالثا، كان تكامل أوروبا الغربية والحماية العسكرية الأمريكية رادعا للاتحاد السوفييتي عن سياسة التوسع، رابعا، قوى تطور السوق الاقتصادية الداخلية للاتحاد الأوروبي في التسعينات تنافسية أوروبا الاقتصادية والمالية في عصر العولمة.
ومثلما كان الأمر تماما إبان الحرب الباردة، فإن مشكلة أوروبا الأمنية الأبرز اليوم هي روسيا.
أحد أسباب استمرارية مشكلة روسيا بالنسبة لأوروبا هو أنها النتيجة المفارقة لنجاح اتساع رقعة الاتحاد الأوروبي، ما جعل حدوده الشرقية تتماس مع الحدود الغربية لروسيا مباشرة، ومن وجهة نظر موسكو فإن العازل الأمني لروسيا أيام الحرب الباردة لم يختف فحسب، ولكن دول الكتلة السوفيتية السابقة عدائية بطبيعتها وغير مطمئنة بالنسبة لنوايا موسكو الجيوسياسية، في الوقت نفسه الذي تتمحور فيه سياسات روسيا الداخلية حول هدف إعادة صنع الدولة لتكون قوة عظمى، وهناك سبب آخر وهو أن حدود الاتحاد الأوروبي مع روسيا هي الأخرى بمثابة خط تقسيم اقتصادي، فباستثناء العدد القليل من المدن الروسية الغنية مثل موسكو وسان بطرسبورج، فإن متوسط دخل الفرد، من إجمالي الناتج القومي أقل نسبيا منه في معظم الدول الشيوعية السابقة في الاتحاد الأوروبي. إزاء هذا الوضع يشعر معظم الشعب الروسي ـ وليس القيادات فحسب بالمعانة من جراء ما حدث لقوة كانت عظمى ذات يوم.
روسيا وأوروبا .. إشكالية الخطر العسكري
بالرغم من ذلك، فإن مشكلات الاتحاد الأوروبي مع روسيا اليوم لا تتضمن أخطارا عسكرية، على خلاف الفترة السوفييتية السابقة على سبيل المثال، بالرغم من احتياجات موسكو، فإنه حتى فكرة الولايات المتحدة لتركيب نظام مضاد للصواريخ في الجمهورية التشيكية وبولندا في مواجهة الأخطار المبهمة لهجوم صاروخي من إيران كما اقترحتها إدارة «جورج دبليو بوش» وتخلت عنها إدارة «أوباما، لم تكن تمثل خطرا على روسيا القيادات الروسية رفضت الإكراه بالتهديد الجيوسياسي الضمني لن تستطيعوا إيقافنا» الذي كانت تنطوي عليه الفكرة، والذي كان يذكر بمحاولة روسيا نفسها تهديد الأوروبيين الغربيين عن طريق نشر الصواريخ فيما يعرف بأزمة الصواريخ الأوروبية في 1979 ـ 1983م.
بالنسبة لدول الاتحاد الأوروبي هناك كذلك خطر الإكراه بتهديد سياسي وليس بتهديد عسكري، فحرب روسيا القصيرة مع جورجيا في 2008م التى لم تكن متوقعة في أوروبا كانت عملية عسكرية بالتأكيد، إلا أن روسيا من الصعب أن تفكر في حرب ضد منطقة الاتحاد الأوروبي التي هي منطقة حلف شمال الأطلنطي في الوقت نفسه. ما يقلق دول الاتحاد الأوروبي هو استغلال روسيا لوضعها كمورد رئيسي للغاز الطبيعي. وبينما تؤكد موسكو لأوروبا أن روسيا ستظل موردا للطاقة يمكن الاعتماد علىه إلا أن إمدادات الغاز انقطعت عدة مرات في السنوات القليلة الماضية بسبب الصراعات بين روسيا وأوكرانيا دولة الترانزيت الرئيسية لخطوط الغاز القضية الكبرى هي أن روسيا تريد تأديب أوكرانيا لأنها المتراس الأخير في مجال النفوذ الجيوسياسي السابق لها. وفي حال تمكن أوكرانيا من الخروج من تحت نفوذها، ربما عن طريق الانضمام إلى حلف شمال الأطلنطي، فإن هاجس حالة الدولة العظمى الذي ما زال يسيطر على روسيا، سوف يتلقى ضربة قاتلة.
وضع روسيا على المدى الطويل أضعف من وضع الاتحاد الأوروبي، فأوروبا هي السوق الرئيسية لصادراتها. روسيا لابد من أن تبيع نفطها وغازها، وصادراتها من الطاقة ـ لسوء الحظ ـ هي عامل النجاح الرئيسي لمجمل الاقتصاد، هكذا. لابد لروسيا أن تمارس توازنا دقيقا في سياستها الخارجية يمكن أن تخسر فيه إما بسبب فرط المهارة أو لعدم وجود ما يكفي منها في تعاملها مع أوروبا الغربية. أما من ناحية الاتحاد الأوروبي فإن الدول المستوردة الرئيسية، وفي مقدمتها ألمانيا (صاحبة الاقتصاد الأكبر في الاتحاد) فلابد لها من أن تتجنب الصراع فيما بينها حول السياسة تجاه روسيا، إذا حاولت موسكو إحداث الفرقة وهزيمتها عن طريق مكافأة المتعاونين ومعاقبة سواهم.
تريد موسكو في إطار أوسع أن تتجنب أن تكون مطوقة تماما ومعزولة سياسيا من قبل الاتحاد الأوروبي وحلف عسكري (الناتو) شبه معاد من جهة الغرب، وخلافات في الشرق مع إيران والهند وقبلهما الصين. إبان الحرب الباردة كان يقال ـ وبحق ـ إن «روسيا ليس لها أصدقاء» ويمكن أن ينتهي الأمر بها وهي في الموقف نفسه في القرن الحادي والعشرين.
الاتحاد الأوروبي والاتحاد من أجل المتوسط
في يوليو 2008، وبمبادرة فرنسية، أنشئ ما يسمي بـ(الاتحاد من أجل المتوسط Union for the Mediterranean (UM وهو أحد ترتيبات الشراكة المتعددة للاتحاد الأوروبي خارج حدود دولة. هذا الاتحاد من أجل المتوسط عبارة عن اتفاقية اقتصادية تجارية سياسية، تضم دول الاتحاد الأوروبي ودولا من شمال أفريقيا والشرق الأوسط، فيما يشبه حلقة حول ساحل البحر الأبيض المتوسط.
بالرغم من أن هذا الاتحاد ليس أكثر من تصور عام في الوقت الحاضر، فإن هذه الجيوسياسية الأوروبية ظاهرة للعيان. الاتحاد الأوروبي والاتحاد من أجل المتوسط دائرتان متداخلتان تجتذبان الدول الأكثر فقرا والأقل استقرارا إلى داخل إطار مصمم من أجل حفز النمو الاقتصادي والتطور الديمقراطي في الشمال الإفريقي والشرق الأوسط. أساسا، لا يبدو أمل في الأفق أمام تلك الدول لعضوية الاتحاد الأوروبي، ولكن حقيقة وجود علاقة تفضيلية مع دول الاتحاد الأوروبي تعود عليها بفوائد اقتصادية وسياسية قد يحفز بعض الحكومات غير الليبرالية على التطور.
الاستراتيجية، بعبارة أخرى، تشبه إلى حد كبير توسع الاتحاد الأوروبي شرقا في 2004 باستثناء العضوية على المدى الطويل، يمكن أن يتصور الخيال الجيوسياسي وضعا يتداخل فيه الاتحاد الأوروبي والاتحاد من أجل المتوسط والاتحاد الأفريقي كشبكة إقليمية واحدة في نظام حكم كوني أفضل. وبقدر ما قد يبدو ذلك جذابا على خريطة، فإن أي شبه بينه وبين الواقع مازال أمرا بعيدا.
الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلنطي NATO
اتساع الاتحاد الأوروبي بعد الحرب الباردة، ليس منبت الصلة بالاتساع المماثل في عضوية حلف شمال الأطلنطي، هذا الاتساع المزدوج، كما يطلق عليه زاد عضوية الحلف من 19 دولة إلي 28 دولة. وعضوية الاتحاد من 15 دولة إلى 27 دولة، توسعات «الناتو» الشمالية التي بدأت في 1999 سبقت الاتساع الشرقي الكبير للاتحاد في 2004م الذي جاء بدول أوروبا الوسطى والشرقية ـ Central and eastern Europe (CEE) التي كانت ضمن الكتلة السوفييتية في السابق، المجيء بهذه الدول لتكون ضمن الاتحاد الأوروبي، وهو الذي كان يعني أن الولايات المتحدة أصبحت ضمانهم الأمني الأساسي، وكان شأنا بسيطا مقارنة بكل التغيرات السياسية والاقتصادية الداخلية التي كان على دول أوروبا الوسطي والشرقية الأقل نموا أن تجربها؛ لكي تفي بشروط ومتطلبات الاتحاد الأوروبي.
عضوية الاتحاد الأوروبي يمكن أن تكمل وتتمم عضوية حلف شمال الأطلنطي بأن ترسي دولة ما على نحو أكثر رسوخا في الغرب، وبعيدا عن متناول روسيا، أو لتكون بديلا عنها في حالات معينة. ابتداء من 2009 هناك 21 دولة لديها عضوية كل من الاتحاد والحلف، وهناك دول أخرى كثيرة لديها عضوية أحدهما. (حالة تركيا وهي أحد متاريس الحلف القديمة وتسعى إلى عضوية الاتحاد منذ فترة طويلة، هي أهم وأصعب الحالات في هذا السياق).
كلما كانت عضوية حلف شمال الأطلنطي أو الاتحاد الأوروبي افتراضا خطرا بالنسبة لدولة بعينها، فإن عضوية أحدهما إلي جانب ارتباط خاص بالآخر، يمكن أن تكون حلا فعالا من الناحية السياسية، مع اعتبار رد فعل روسيا مسألة واضحة. على سبيل المثال، قد تكون روسيا على استعداد لأن تسلم بانضمام أوكرانيا وجورجيا إلي الاتحاد الأوروبي، لأن مصلحتها (أي مصلحة روسيا) هي أن ترى حكومات الاتحاد لا تعتبرها خصما دائما، ومن ناحية أخرى فإن روسيا يمكن أن تعتبر عضوية حلف شمال الأطلنطي بالنسبة لأوكرانيا، وهي الدولة المهمة الوحيدة الباقية خارج عضوية الحلف في الجوار القريب من روسيا، عملا عدائيا استراتيجيا من جانب الغرب.
عن أوروبا والعلاقة مع الولايات المتحدة
كان نفوذ الولايات المتحدة في الشؤون الأوروبية دائما حزمة من المنافع والأضرار بالنسبة للأوروبيين. أثناء الحرب الباردة، كانت هناك مظاهر وشواهد عدة من سياسة خارجية أوروبية شبه مستقلة، مثل تلك في فترة رئاسة ديجول ـ de Gaulle في فرنسا (1958 ـ 1969) ومرحلة السياسة الشرقية Ostoplitik في سياسة ألمانيا الغربية الخارجية في عهد المستشار فيلي برانت Chamcellor will brandt (1969 – 1972) ولكن بشكل عام، فإن حماية الولايات المتحدة ضد النفوذ السوفيتي، كانت تحد أحيانا من المحاولات الأوروبية للاستقلال الذاتي الدبلوماسي وأحيانا تكبحها، والمثال الأكثر تعبيرا عن ذلك هو أزمة الصواريخ الكوبية في أكتوبر 1962 الرهان المغامر لـ«خروشوف Khrushchev» بنصب صواريخ نووية في كوبا اضطر حتى ديجول للكشف عن نياته، وفي النهاية وقفت فرنسا إلي جانب الولايات المتحدة. في نظر «ديجول» كانت أزمة الصواريخ الكوبية مخيبة للآمال على نحو خاص لأنها فرضت اختيارا بين الشرق والغرب. نفس الاختيار الذي كان على وفاق «ديجول» المنفرد مع روسيا أن يتجنبه، بالنسبة لـ«ديجول» فرضت أزمة الصواريخ عودة إلي يالطا» أي إلى أوروبا متورطة وعالة تعتمد على غيرها. ومنقسمة إلي كتلتين تسيطر على كلتيهما قوة عظمى.
في السنوات العشرين التي تلت الحرب الباردة تلاشت الحاجة الأوروبية القديمة إلى حماية الولايات المتحدة، وبالرغم من ذلك بدأت نظرة استراتيجية أوروبية جديدة تتشكل ببطء. الاعتماد على الآخرين. وهو ما كان ضروريا ذات يوم. أصبح بكل بساطة نوعا من الإدمان، وحقيقة الاستقلال يصبح من الصعب فهمها.
في السنوات الأخيرة نمت وتطورت العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إلى حد ما. واشنطن اعتادت على التقليل من أهمية العلاقات الخارجية للاتحاد الأوروبي باعتبارها في مواجهة مع العلاقات الثنائية مع معظم الحلفاء الأوروبيين المهمين مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا. اليوم، تتعامل الولايات المتحدة مع الاتحاد الأوروبي على المستوى الرسمي، ولكن دون كثير من الادعاء أن الاتحاد الأوروبي نفسه فاعل في السياسة الخارجية والشؤون الاستراتيجية محاولات بناء سياسة خارجية وأمنية مشتركة كانت باستمرار مخيبة للآمال في رحلات لهما إلى بروكسل، وكان الرئيسان الأمريكيان «جورج دبليو بوش» و«باراك أوباما» حريصين على زيارة المقرات الرئيسية للاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلنطي، إلا أنها كانت مجرد زيارات مجاملة.
أوروبا ومواجهة ثلاثة أنماط من القوة
عند تناولنا لتأثير الاتحاد الأوروبي في السياسة الدولية يمكن أن نحدد ثلاثة أنماط من القوة هي القوة الصلبة والقوة الناعمة والقوة التحويلية. التمييز بين القوة الصلبة والقوة الناعمة الآن موضوع رئيسي في فكر العلاقات الدولية. القوة الصلبة إكراه، هي قرار الحرب أو السلام أو فرض عقوبات ثقيلة في وجه الصراع العالمي.
القوة الصلبة كما قال المنظر العسكري البروسي (كارل فون كلاوزفيتز Carl Von Clausewitz )هي مواصلة سياسة خارجية ما بوسائل أخرى غير الدبلوماسية والتفاوض. القوة الناعمة تعني التأثير في الدول الأخرى لكي تجعلها تقوم بما تريد، بدلا من ترك أي خيار آخر أمامها، في وجه العمل المعادي. القوة الناعمة تدرك التعاون من خلال قوة الجذب وفوائد الاختيار التفضيلي، ومن خلال عرض الاحتواء السياسي وتوفير مزايا اقتصادية.
في ممارسة القوة الصلبة كان الأوروبيون أقل طموحا ونجاحا مما يتمني دعاة التكامل الأوروبي. القوات العسكرية للاتحاد الأوروبي حاضرة، فبعضها يقاتل ولكن معظمها يشارك في عمليات لحفظ السلام والمراقبة والتدريب في أماكن كثيرة من العالم، كما هو الحال بالنسبة لـ«الناتو» ضمن قوة المساعدة الأمنية الدولية International security assistance force في أفغانستان، أو مستقلة بتكليف رسمي من الأمم المتحدة في كوسوفو، بالرغم من ذلك فإن الاتحاد الأوروبي فشل في أن يبرز بنفسه كقوة يمكن الاعتماد عليها. وباتفاق عام لم تبذل الحكومات الأوروبية ما يكفي من جانبها لكي تبني قدراتها العسكرية.
العراق وأفغانستان هما أهم الحالات في هذا السياق. الحكومات الأوروبية اختلفت بشدة بخصوص تأييد «إدارة بوش» في احتلال العراق لإسقاط نظام صدام حسين في 2003، وسواء أكانت حرب العراق مبررة أم لا، فالحقيقة المهمة هنا هي أن فرنسا وألمانيا رفضتها مثلما رفضها الرأي العام الأوروبي، ومع الرفض الجزئي من جانب بريطانيا، فإن كفاية المشاركة العسكرية الأوروبية من أجل استقرار وإعادة إعمار العراق بعد الحرب، كانت محل خلاف باستمرار، كذلك كانت المشاركة الأوروبية في الحرب في أفغانستان بهدف تدمير «القاعدة» وحرمان «طالبان» من استعادة قوتها، كانت بالمثل موضع خلاف، أما الأكثر إثارة فهو أن الفكر الأوروبي كان منقسما حول ضرورة تلك الحرب.
في تعليق شهير كان أحد الخبراء قد ألمح في 2003 إلى الخلفية السيكولوجية لتوجه أوروبا نحو استخدام القوة العسكرية بقوله: الأوروبيون مصرون على تناول المشكلات بكثير من التدقيق وقدر أعظم من الحنكة يحاولون التأثير في الآخرين بالمكر والمخادعة، إنهم أكثر قدرة على تحمل الفشل وأكثر صبرا عندما لا تأتي الحلول سريعا، إنهم بشكل عام يفضلون الردود السليمة على المشكلات. يفضلون المفاوضات والدبلوماسية والإقناع على القسر والإكراه. وهم أسرع في اللجوء إلي القانون الدولي والاتفاقيات الدولية والرأي الدولي والتقاضي في النزاعات... إنهم غالبا ما يهتمون بالإجراءات أكثر من اهتمامهم بالنتيجة، معتقدين أن الإجراءات في نهاية المطاف ستصبح هي الموضوع.
